تحت هذا العنوان كتب جوزيف سماحة تحقيقاً واسعاً على حلقتين نشرتا في عددي "الحياة" الصادرين في يومي 14 و15 ايار مايو الجاري. سماحة في تحقيقه هذا قابل عدداً كبيراً من الاكاديميين والمثقفين السوريين، ومن بينهم بتواضع كاتب هذه السطور. هذا التنويع في اختيار الاشخاص جعل سماحة يحيط احاطة لا بأس بها بمجمل ما يتردد اليوم في اوساط المثقفين والاقتصاديين في سورية، بل وفي الشارع السوري. كان من الطبيعي ان تختلف الآراء على قضايا هي سجالية بطبيعتها، فبشأن ملف الفساد اختلفت الآراء على طرق "محاربة" الفساد كما اختلفت على حجم هذا الفساد. اكاديمي جامعي، لم يشأ كاتب التحقيق ان يكشف عن اسمه، تحدث عن "فساد رهيب مستشرٍ في الجامعة، وعن وصولية ومحسوبية ورشاوٍ وجمود". وربما كان هذا الوضع صحيحاً طالما انه يتحدث عن وسط يعيش فيه. ولكن النتيجة التي يخلص اليها، وهي ان "الفساد ظاهرة انسانية" بمعنى انه حالة ضعف بشري. ليس المقصود بالفاسدين هنا من يقبلون بعض الرشاوى الصغيرة، او "البقشيش"، تحت ضغط ظروف العيش ليسدوا رمقهم ورمق عيالهم. اننا بصدد فاسدين من الغيلان او الوحوش الحقيقية في ثياب بشر. وحوش تقوم بنهب منظم لثروات البلاد والمواطنين وتهريبها الى الخارج. ذئاب بشرية استغلت ثقة القيادة بها، او سذاجة المواطنين، لتنهب اموال الدولة والشعب. لم يعد يكتفي احدهم بدارة غنّاء في ضواحي دمشق، او شاليه على البحر، وبضع شقق فاخرة هنا وهناك، فضلاً عن اسطول من السيارات الفارهة. عمليات النهب التي كشفت عنها بعض التحقيقات دلّت على تهريب اموال وآثار بمئات الملايين، بل بالبلايين الى الخارج، بمعنى آخر انهم باتوا يهددون الامن القومي للبلاد من خلال هذا النهب الفاحش، ويسرقون تاريخه. لا ادري كيف استنتج النائب السيد بهاء الدين حسن ان هذه الظاهرة "المتوحشة"، التي بدأ بعض رموزها يسقط في يد العدالة، بأنها ظاهرة عرضية جداً، وبأنها "مسألة نفوس ضعيفة ومحاربتها بسيطة"! استنتاج مفرط في السذاجة وتبسيط الامور! انه ينظر من برجه العاجي الى الامور فيرى ان كل شيء، على ما يرام، وكل شي "تمام يا فندم"!. ويبدو انه، وهو ينعم برغد العيش، لم يعد يشعر بما يحسّ به المواطن العادي من وطأة الحياة وبما يشعر به من حقد على من ينهبون قوته وقوت عياله. اتفق مع رجل الاعمال الآخر السيد احسان سنقر الذي طالب بوضع استراتيجية شاملة لمحاربة الفساد الذي يرتبط في رأيه "بانتفاء تكافؤ الفرص وبانعدام المساواة امام القانون، وتراجع استقلال القضاء". ولكنني لا اتفق مع سنقر على مبدأ عدم معاقبة الافراد الفاسدين او ما اسماه "الضربات الوقائية الانتقائية"، كما لا اتفق معه على فتح صفحة جديدة على اساس "العفو عما مضى ورفض الاستغراق في تصفية حسابات الماضي". كيف تريدنا يا سيد سنقر ان نعفو عن مصاصي الدماء؟ كيف تريدنا ان نعفو عمن نهبوا البلاد والعباد؟ ان اي تسامح مع الفساد لا يمكن ان يُفسّر الا بأنه من باب الخوف من كشف المستور. هذا أوان المحاسبة يا سيدي، والمحاسبة الصارمة. عهد محاسبة الفاسدين بالاكتفاء، بطردهم من مناصبهم، حتى يمضوا بقية عمرهم في احصاء ما سرقوه من اموال الناس والاستمتاع به، قد ولى. آن اوان الحزم، ويبدو ان بعض من قرأ خطاب القَسَمْ الذي لم يحسن فهم ما تضمنه من رموز. في ذاك الخطاب وجّه الرئيس الاسد اشارة انذار واضحة الى "اولئك الذين فقدوا الشعور بالمسؤولية فقصروا واهملوا وأساؤوا". وقال الرئيس ايضاً: "ان الدولة لا تستطيع ان تنهض في ظل استمرار مثل هذه الحالات" اي حالات الفساد العريض. المحاسبة بدأت بالفعل، ورؤوس كبيرة تدحرجت، واخرى "أينعت وحان قطافها". سأضرب امثلة واضحة باتت معروفة: مسؤول امني أُقصي من منصبه قبل فترة قصيرة، وحوكم وسُجن. وقيل انه أُكره على اعادة مبالغ كبيرة، كان وضعها في الخارج في حسابه، الى الخزينة العامة، وها هو اليوم يقضي فترة الحكم في السجن. المدير العام لشركة حكومية كبرى أُنزل من الطائرة وهو الآن رهن التحقيق هو وعدد من كبار مساعديه. والتحقيق معهم يجري في قضايا فساد كبرى. مديرة مسؤولة في شركة "سادكوب" لتوزيع المحروقات تورطت حتى النخاع مع شبكة من اللصوص في عمليات نهب منظمة فاقت ارقامها البليون ليرة سورية. انظر "تشرين عدد 3/5/1999. واستطاعت هذه السيدة مع عدد من افراد الشبكة الفرار من البلاد، لكن الجهات المختصة تمكنت من اعادتها. المدير العام لمؤسسة حكومية اخرى قبض عليه وأُكره على اعادة عشرات الملايين المختلسة الى خزينة الدولة وسيلاحق قضائياً. اقول للاستاذ الجامعي الذي يرفض ما اسماه "التغيير الدراماتيكي" ان الردع الدراماتيكي ضروري وفعّال، والا لما كان الله تعالى قد امر بقطع يد السارق. انه العلاج "بالصدمة". قد لا تطال المحاسبة الصارمة جميع الفاسدين ولكنها ستجعلهم بالتأكيد يتحسسون رقابهم. في تقديري ان المحاسبة التي انطلقت قبل اسابيع قليلة بصمت وتصميم ليست "وقائية ولا انتقائية" كما قال سنقر، انها بداية لمحاسبة شاملة تطال كبار الفاسدين. ودحرجة بعض رؤوس الفساد كافية لردع باقي الفاسدين من الاستمرار في النهب المنظّم لثروات البلاد والاموال العامة. أريد ان أتوقف هنا عند نقطة اخرى اوردها سماحة على لسان خبير اقتصادي وصف بالمرموق لم يشأ ان يكشف عن اسمه. يقول الخبير "المرموق": "ان الملفات الجدية - ويقصد ملفات الفساد - لن تفتح، وسوف تغلق اذا فتحت، وذلك تجنباً للاصطدام بمراكز قوى نافذة وراسخة لا يمكن للنوايا الطيبة، مهما خلصت، ان تحاربها". انا اقول للسيد الخبير الاقتصادي ان الملفات الجدية فتحت بالفعل وستستمر وهذا ما يتطلع اليه كل مواطن شريف. وما سقته من امثلة هي ملفات جدية كما يرى السيد الخبير. اما عن مراكز القوى النافذة والراسخة فأقول انه لا يوجد في سورية مراكز قوى راسخة ونافذة. جميع مراكز القوى تستمد قوتها ونفوذها من ولائها للسيد الرئيس. وعندما يقرر الرئيس ابعادها او محاسبتها فان ذلك يتم بكل هدوء وانصياع. وماذا عن التغيير؟ التغيير السياسي آت. فتحديث القوانين الذي اشار اليه الرئيس في خطاب القَسَمْ يحتاج الى قيادات شابة وعقليات دينامية خلاقة. ولكن اذا كان التغيير السياسي يرتبط، كما يعتقد بعضهم، باعتبارات اقليمية فان محاربة الفساد لا ترتبط بأية اعتبارات من هذا النوع. وهي في المحصلة تعزز الوضع الداخلي وتُصلّبه. اتفق مع الذين قالوا في هذا الاستطلاع ان التغيير لا ينبغي ان يكون "تجميلياً"، بمعنى تغيير في المناصب الحكومية والحزبية فحسب، بل ان يكون ضمن برنامج جديد يحدد آفاق المستقبل بكل جرأة وصراحة. والتغيير بهذا المعنى لا يتم بين يوم وليلة بالطبع. فهو يحتاج الى وقت وجهد كبيرين. المهم ان تتوافر ارادة التغيير، فعالم اليوم لا يرحم من يتخلفون عن ركب التطور ومواكبة الزمن. يغلب طابع المرارة بل والتشاؤم، عند بعض الاقتصاديين، ممن قابلهم كاتب الاستطلاع، من امثال رياض سيف وعارف دليلة، بسبب الوضع الاقتصادي القائم وامكانات اصلاحه. ومع انني لست اقتصادياً ولكنني لا اميل الى كل هذا التشاؤم. كما لا اميل الى هذا التفاؤل المفرط عند بهاء الدين حسن الذي يرى كل شيء "جيد"! اصلاح الاقتصاد ممكن من خلال تحديث بعض القوانين الاقتصادية البالية والرديئة معاً، بل والجائرة احياناً، لانها ابرمت في عهد حكومات سابقة كانت مصابة بتزمت مزمن. وتحديث القوانين كان الاشارة المهمة الثانية التي جاءت في خطاب القَسَمْ وخصوصاً تحديث القوانين الاقتصادية. وخص الرئيس بالذكر تعديل قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، الذي اثار وما يزال يثير الكثير من الجدل. كما تحدث عن ضرورة تحديث القوانين المصرفية. وهذه المهمة ملقاة اليوم على عاتق السلطتين التنفيذية والتشريعية. الاصلاح الاداري والاقتصادي هو البرنامج المطروح الآن، كما يقول النقابي السابق محمود سلامة. ويعود ذلك في تقديره الى حاجات وطنية داخلية ومن اقتراب استحقاقات لم يعد ممكناً مواجهتها بأدوات سابقة. ومعنى هذا الكلام واضح، وهو ان الادوات غير الانفتاحية غير قادرة على تلبية تلك الحاجات الوطنية او الاستحقاقات الملحة المقبلة. وانا اتفق مع السيد سلامة في هذه المقولة، لكنني اختلف معه حين يقول: "ان الادارة بالاهداف" كما اسماها تقتضي التمسك بالملكية العامة اي القطاع العام مع تطوير الادارة وتنميتها. أنا افهم ان نتمسك بالقطاع العام الناجح، وبالقطاع ذي الطابع الاستراتيجي، ولكنني لا افهم ان نتمسك بالقطاع العام المطلق حتى وان كان خاسراً بشكل مريع ويعشعش فيه الفساد! اية "ادارة بالاهداف" تستطيع ان تنقذ شركة قطاع عام تخسر بالبلاين؟ ويتابع السيد سلامة فيقول: "الوعي السوري يعتبر القطاع العام قاعدة لهيبة الدولة لا يجوز التفريط فيه". انه هنا يكرر عن وعي او غير وعي ما تقوله طبقة المنتفعين من القطاع العام، اي انه يعيدنا الى ملف الفساد الذي نحن بصدد مكافحته. هذا التقديس للقطاع العام بعجزه وبجبره، لا افهم لا مبرراً. انه من اخطاء الماضي حين كان يجري التكتم على خسائر بعض شركات هذا القطاع وعلى ما يجري داخله من فساد ونهب منظّم. ما رأي السيد سلامة في ما جرى في "سادكوب" اخيراً وهي من كبرى شركات القطاع العام؟ أليس بعض من يجري التحقيق معهم اليوم هم من مدراء شركات ومؤسسات قطاع عام؟ في كل يوم تقريباً تطالعنا الصحف السورية بأخبار وارقام تدل على ان بعض شركات القطاع العام باتت تنوء تحت عجوزات وخسائر مريعة، وان بعضها بات وكراً للفساد المالي والاداري. العضو الفاسد يجب ان يُبتر قبل ان تمتد الغرغرينا الى سائر اعضاء الجسم. أردت ان اسوق هذه الملاحظات والتعقيبات. وارجو ممن عَقَّبْتُ عليهم ان يتسع صدرهم للنقد وان يسمحوا لي بفسحة من الاختلاف معهم. اقول اخيراً ان محاربة الفساد تحتاج الى مكاشفة لا الى تعتيم، تحتاج الى تشهير لا الى تستير وما يجري اليوم من فتح الملف ومحاسبة الفاسدين هو البداية، البداية التي انتظرها المواطنون طويلاً. * كاتب فلسطيني، دمشق.