يواصل الباحث علي الشوك، في هذه الدراسة، عرض ومناقشة كتاب "مثقفون دجالون" الذي أثار ضجة كبرى في الأوساط الثقافية عند نشره قبل اشهر قليلة. ان جذور ما بعد الحداثة ليست ثقافية خالصة. فالنسبوية الفلسفية ومؤلفات الكتّاب الذين تمت مناقشتهم في هذا الكتاب جاك لاكان، جوليا كريستيفا، لوس اريغاري، برونو لاتور، جان بودريار، جيل دولوز، فيلكس غواتاري، الخ كان لها تأثير خاص على بعض النزعات السياسية التي يمكن نعتها او انها تصف نفسها باليسارية او التقدمية. كما ان "الحروب العلمية" كثيراً ما صُورت على انها صراع سياسي بين "التقدميين" و"المحافظين". وهناك، ايضاً، تقليد قديم ضد العقلانية عند بعض الحركات اليمينية، لكن ما هو جديد ويدعو للاستغراب حول ما بعد الحداثة هو انها تيار فكري ضد العقلانية اغوى طائفة من اليسار، طبعاً الى جانب آخرين من غير اليسار. وفي هذا الاطار حصر المؤلفان همهما على الوضع في الولاياتالمتحدة بصورة اساسية، حيث تبدو العلاقة بين ما بعد الحداثة وبعض النزعات اليسارية واضحة بصفة خاصة. وهما يعتقدان بأن هذه العلاقة بين ما بعد الحداثة واليسار تنطوي، للوهلة الأولى، على مفارقة. ذلك ان اليسار في معظم المرحلة التي غطت القرنين الماضيين، كان مرتبطاً بالعلم وضد الظلامية، ويعتقد بأن الفكر العقلاني والتحليل الجريء للحقيقة الموضوعية في اطاريها الطبيعي والاجتماعي هما وسيلتان دامغتان للتصدي للتضليل الذي يمارسه الأقوياء. ومع ذلك، ففي العقدين المنصرمين، تخلى عدد كبير من الاكاديميين الباحثين في العلوم الانسانية والاجتماعية من بين "التقدميين" او "اليساريين" عن هذا التراث التنويري و - متأثرين بالمستوردات الفرنسية، مثل التفكيكية الى جانب المعتقدات التي نشأت في الوطن اميركا مثل وجهة النظر المعرفية النسوية - اعتنقوا صيغة او اخرى من النسبوية المعرفية. فما هي اسباب هذا التغير الكامل والمفاجئ في الموقف؟ لكننا قبل المضي في هذا الموضوع الذي سنعود اليه في ما بعد نرى ان نقدم نماذج من الانتقادات التي وجهها ألن سوكال وجان بريكمون الى عدد من رجال الفكر المعروفين باتجاهاتهم ما بعد الحداثية. جاك لاكان كان جاك لاكان واحداً من المع وأكثر المحللين النفسانيين شهرة في هذا القرن. وكل عام، تصدر عشرات الكتب والمقالات عنه. حسب مريديه، احدث لاكان ثورة في التحليل النفسي على الصعيدين النظري والتطبيقي. وحسب نقاده، كان دجالاً وكانت كتاباته لغواً او حشواً لغوياً. اما ألن سوكال وجان بريكمون فيعتبرانه خير نموذج لاساءة استعمال المصطلحات الرياضية في كتاباته. ومن الملفت ان اهتمام لاكان في الرياضيات يتمحور حول موضوع الطوبولوجيا، وهو علم رياضي يتعامل مع الاشكال الهندسية - السطوح، والاجسام، الخ... التي لا تتغير عندما يشوّه الشكل او الجسم من دون ان يتهرأ هناك طُرفة قديمة تقول: ان الطوبوغرافي لا يميز بين فطيرة الدونت Doughnut وكوب القهوة، ما دام كل منهما له ثقب واحد! يصر لاكان على ان الاشكال الطوبولوجية، مثل شريط موبيوس1، وقنينة كلاين قنينة تصنع على غرار نظام شريط موبيوس، والطارة على شاكلة اطار السيارة، يمكن ان تفسر حالات كثيرة تتعلق بالامراض العقلية، بل يصرّ على ان طوبولوجيته "تفسر العديد من الأشياء". على سبيل المثال انه يقول ان الطارة "هي بنية الشخص العصابي بالضبط". وعندما سئل في ما اذا كان يرمي من وراء ذلك الى المقارنة بينهما، نفى. وبمرور الأيام ازداد لاكان ولعاً بالطوبولوجيا. ومشكلته انه لا يستعمل بعض المصطلحات في اطار واضح او محدد، فهو يقارن بين الطوبولوجيا Topology والبنية Structure، من دون ان يشير الى طبيعة هذه البنية، هل هي رياضية فحسب، وعند ذاك تكون المقارنة بين الطوبولوجيا والبنية الرياضية واردة، لأن الطوبولوجيا جزء من البنية الرياضية. اما اذا كانت البنية التي يقصدها تشمل البنية اللغوية والبنية الاجتماعية، فالأمر يختلف. وفي منتصف السبعينات انتقلت اهتماماته الى نظرية العقدة. ولم يقتصر الامر على ذلك، فغرام لاكان بالرياضيات لم يكن هامشياً على أية حال ونحن نتحدث بلسان ألن سوكال وجان بريكمون. فمنذ الخمسينات كانت مؤلفاته مليئة بالرسوم البيانية، والقوانين والجداول الرياضية. وكمثال على تبنيه هذه اللغة الرياضية قال في 1959: "اذا أتحتم لي الفرصة لاستعمال واحد من تلك القوانين التي طرأت على بالي وأنا اكتب ملاحظاتي، فان حياة البشر يمكن تعريفها كحساب تفاضل وتكامل Calculus يكون فيه الصفر أصم اي جذراً أصم مثل جذر العدد 2. هذا القانون هو مجرد صورة، او مجاز رياضي. عندما أقول "أصم" فانني لا أشير الى حالة عاطفية لا يسبر غورها بل الى ما يدعى بالعدد التخيلي بالضبط. ان مربع العدد - 1 لا يتطابق مع أي شيء خاضع لحدسنا، اي شيء حقيقي - بالمعنى الرياضي للمصطلح - ومع ذلك، يجب حفظه، مع دالته الكاملة". جاك لاكان: الرغبة وتفسير الرغبة عند هاملت. يقول ألن سوكال وجان بريكمون ان لاكان هنا يخلط بين الاعداد الصماء جذر كمية موجبة لا تعطي عدداً صحيحاً والاعداد التخيلية جذر كمية سالبة، فيما يزعم انه "دقيق". وفي واقع الحال لا توجد علاقة بين هذا او ذاك. ويوضح المؤلفان كلامهما في هامش، حيث يقولان: العدد الأصم هو العدد الذي لا يمكن كتابته كنسبة بين عددين صحيحين، مثل جذر 2، ومثل النسبة الثابتة ط. وبخلاف ذلك يعتبر الصفر عدداً صحيحاً، وبالتالي عدداً مُنطقاً. اما الاعداد التخيلية فهي نتائج المعادلات المتعددة الحدود التي تعطي في حلولها جذور مقادير سلبية. ان المعادلة س2 " 1 = صفر، تعطينا قيمتين للمجهول س، احداهما جذر - 1. ومع ان لاكان هنا يستعمل المصطلحين في اطار استعاري، الا ان من الصعب ان نتصور الغرض الذي تحققه هذه الاستعارة: "ان حياة البشر اشبه بحساب تفاضل وتكامل يكون فيه الصفر عدداً أصم". جوليا كريستيفا تسعى جوليا كريستيفا الى اجتراح نظرية شكلية حول اللغة الشعرية، وهي محاولة غامضة، لأنها من جهة تؤكد على ان اللغة الشعرية هي "نظام شكلي يمكن ان تستند نظريته على نظرية المجموعات الرياضية"، ومن جهة اخرى تقول في حاشية ان هذه ليست سوى مقترب مجازي. لكن هذه الدعوى تواجه اشكالية اساسية: أية علاقة هناك بين اللغة الشعرية ونظرية المجموعات الرياضية؟ ثم ان تعاملها مع الرياضيات ينطوي على اغلاط اساسية، لا سيما في مؤلفاتها الأولى. يأخذ الن سوكال وجان بريكمون على جوليا كريستيفا انها تخلط بين بعض الحقائق والمفاهيم الرياضية كخلطها بين مصطلحات المنطق الرياضي والمصطلحات المتعلقة بنظرية او نظريات المجموعات الرياضية. ففي المنطق الرياضي الذي ينسب الى العالم الرياضي البريطاني Boole ان الصفر يرمز للخطأ، والواحد يرمز للصحيح. وفي نظرية المجموعات، تعني مجموعة صفر، 1 مثلاً جميع الاعداد الممكنة بين الصفر والواحد طبعاً الكسور في هذه الحالة وكريستيفا تخلط بين هذين المفهومين الرياضيين المختلفين، اي بين صفر، 1 في المنطق، وصفر، 1 في حقل المجموعات. ويتضح هذا في قولها: "... العلم عبارة عن عملية منطقية تستند الى الجملة اليونانية الهندية - الأوروبية المركبة من المسند اليه والمسند... ان المنطق الحديث من فريغه Frege وبيانو Peano مروراً بلوكازيغس، او اكرمان او Church، الذي يتحرك بين الصفر والواحد، وحتى منطق بول Boole، الذي يقدم صياغات تنسحب كثيراً على عمل اللغة، انطلاقاً من نظرية المجموعات، لا يعملان في فلك اللغة الشعرية عندما لا يكون العدد 1 غاية. "لذلك من المستحيل صياغة لغة شعرية باستعمال الادوات المنطقية العلمية المعروفة دون مسخها. ان السيميوطيقا الادبية ينبغي انشاؤها ابتداء من المنطق الشعري، حيث تشمل قوة المتصل Power of continuum الفترة الفاصلة بين الصفر والاثنين، متصل يكون فيه الصفر عنصر البداية والواحد يتم تخطيه ضمناً". هذا الكلام فيه الكثير من الغموض، ويتعذر فهمه، ولو جزئياً، من دون تفسير مصطلح "قوة المتصل". ان "قوة المتصل" فكرة لها علاقة بنظرية المجموعات الرياضية غير المتناهية، التي اوجدها جورج كانتور ورياضيون آخرون منذ سبعينات القرن الماضي. فبعض المجموعات المتناهية يقال لها ممكنة العدّ: على سبيل المثال مجموعة كل الاعداد الصحيحة الموجبة 1، 2، 3...، او بصورة عامة، اية مجموعة يمكن وضع عناصرها الواحد بعد الآخر مقابل مجموعة كل الاعداد الموجبة. من جهة اخرى برهن كانتور في 1873 على انه لا يوجد توافق او تطابق بين عناصر الاعداد الصحيحة ومجموعة كل الاعداد الحقيقية. لذلك يمكن القول ان الاعداد الحقيقية في اطار ما "اكثر عدداً" من الاعداد الصحيحة: ويقال في هذه الحالة ان لها "قوة المتصل". وعلى أية حال، يقول ألن سوكال وجان بريكمون ان كلام كريستيفا السابق ينطوي على موقف صائب واحد وخطأين. الكلام الصائب هو ان الجمل الشعرية لا يمكن اعتبارها - بصورة عامة - كلاماً صحيحاً او خاطئاً. اما ان تشبّه ذلك بالمنطق الرياضي الذي تكون فيه الأشياء ما بين صحيحة وخاطئة، ونظرية المجموعات التي تعالج شيئاً آخر، فذلك اقحام رياضي متحذلق لا معنى له. وجوليا كريستيفا مغرمة بالمفردات المذهلة والغامضة، شأن معظم كتّاب ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. وتحاول ان تبهر القارئ برطانات تقنية، كأن تورد ما بعد نظريات في المنطقة الرياضي، من دون ان تكلف نفسها شرح محتوى هذه النظريات للقارئ، ناهيكم عن صلة هذه الميتانظريات بموضوع اللسانيات. لنلاحظ ان مجموعة كل النصوص التي كتبت حتى الآن، في تاريخ البشرية برمته، هي مجموعة متناهية Finite. ومن ثم، ان أية لغة من اللغات - على سبيل المثال الانكليزية او الصينية - لها ابجدية متناهية، والجملة، وحتى الكتاب، هو عدد من الحروف المتناهية. وبالتالي، حتى مجموعة كل الحروف المتناهية في جميع الكتب المتصورة، بصرف النظر عن حجمها، هي مجموعة لامتناهية قابلة للعد. فمن الصعب اذن ان نتصور كيف ان فرضية المتصل Continuum Hypothesis، المتعلقة بالمجموعات اللامتناهية غير القابلة للعد، يمكن ان تطبق على موضوع اللسانيات. لكن هذا كله، يقول المؤلفان، لا يمنع كريستيفا من المضي ابعد، كما في قولهما: "يجد المرء هناك على وجه الدقة نظريات الوجود التي لا نريد ان نتحدث عنها بالتفصيل هنا، بل ان ما يهمنا منها هو انها تقدم افكاراً تتيح لنا ان نطرح بطريقة جديدة - طريقة تبدو مستحيلة بدونها - الموضوع الذي يهمنا: اللغة الشعرية. ان نظرية الوجود العامة تقول، كما يعرف القارئ، انه:" وتذكر صيغة من الدول الرياضية في اطار نظريات المجموعات، يتعذر علينا ترجمتها لعدم وجود الرموز المقابلة لها في مطابع الجريدة. وتدخل في تفاصيل رياضية اخرى لتخلص الى ان لوتريامون - الشاعر الفرنسي - كان من بين أوائل من جربوا هذه النظرية عن وعي. ويعلق ألن سوكال وجان بريكمون هنا قائلين: انه ليبدو من غير المحتمل ان يكون لوتريامون 1846 - 1870 "جرّب عن وعي" نظرية المجموعات التي جاء بها Godel - Bernays التي وُجدت بين 1937 - 1940 او حتى عن أية نظرية من نظريات المجموعات التي عرفت بعد 1870 على يد كانتور وآخرين. وتواصل جوليا كريستيفا قولها: "ان فكرة القدرة على التركيب التي تتضمنها بديهية الاصطفاء المرتبطة بما ذكرناه عن اللغة الشعرية، تفسر تعذر البرهنة على التناقض في فضاء اللغة الشعرية. ان هذه الملاحظة قريبة من ملاحظة غودل Godel التي تقول بتعذر البرهنة على تضارب تناقض نظام بأدوات تم تشكيلها من داخل النظام". يقول المؤلفان: في هذا المقتطف يظهر ان كريستيفا لا تفهم الافكار الرياضية التي تستشهد بها. ففي المقام الأول، لا تتضمن بديهية الاصطفاء اية "فكرة عن القدرة التركيبية"، بل على العكس انها تتيح الامكانية للتأكيد على وجود بعض المجموعات دون وجود قاعدة قانون لتركيبها. ثانياً، برهن غودل عكس ما تزعم كريستيفا بالضبط، وبالذات تعذُّر البرهنة على تماسك اي عدم تناقض النظام، بأدوات يمكن تركيبها من داخل النظام. وتحرص جوليا كريستيفا على تطعيم مواضيعها حول اللسانيات، والنقد الأدبي، والفلسفة السياسية، والتحليل النفسي، بمعادلات رياضية معقدة. ولئن كانت جملها اكثر معقولية من جمل جاك لاكان، الا انها تتجاوزه في سطحية معرفتها، كما يقول المؤلفان. 1 شريط موبيوس: يمكن تشكيله بعد ان نأخذ شريطاً مستطيلاً من الورق، ونلوي احدى نهايتيه بنسبة مئة وثمانين درجة، ثم نلصقها بالصمغ بالنهاية الاخرى. في هذه الحالة سنحصل على سطح ذي وجه واحد: ذلك ان الوجه الامامي والوجه الخلفي اصبحا اشبه بطريق واحد نتيجة لالتواء احدى نهايتي الشريط. * باحث عراقي مقيم في لندن.