ومن الدراسات النقدية التي سنتناولها هنا تلك التي اقتصرت على عمل روائي واحد تمت معالجته باستثمار التناص، ومن ذلك ما قام به الباحث المغربي بشير القمري في دراسته الرائدة الموسومة "شعرية النص الروائي قراءة تناصية في كتاب التجليات"، ويستهل القمري بحثه بمدخل نظري يرتكن فيه إلى مصطلحات باختينية، كالحوارية في الرواية، وراجع فيه مصطلح النص من وجهات نظر غربية مختلفة تعود إلى رولان بارث وجوليا كريستيفا، ويفتقر هذا المدخل إلى تقديم التناص بصورة أكثر وضوحاً، والبحث في جذوره، ويعد الفصل الأول محور الكتاب الرئيس إذ يناقش فيه الباحث التقليدية وحوار الأجناس، مشيراً إلى الملامح التقليدية التي يمكن أن تتضمنها الرواية بوصفها جنساً أدبياً، فاللغة ذات البعد الديني ولا سيما الصوفي واللغة التاريخية على سبيل المثال من أبرز ملامح التقليدية في الرواية. يوظف أحمد الزعبي في بحثه الموسوم "التناص التاريخي والديني: مقدمة نظرية ودراسة تطبيقية في رواية رؤيا لها لهاشم غرايبة" عدداً من المصطلحات النقدية العربية مثل الاقتباس والتضمين بوصفها جذوراً للتناص، ليكشف عن علاقات تناصية مع المصادر التاريخية والدينية في النص الروائي المستهدف، ومع تماسك هذه الدراسة القصيرة إلا أنها لم تتناول الأبعاد العجائبية والفلكلورية، ولم تتبن مدخلاً نظرياً للقراءة. ويحاول غسان عبدالخالق في دراسة أخرى أن يكشف كيف يتمكن نجيب محفوظ من خلق عالمه الروائي عبر ارتكانه إلى كتاب "ألف ليلة وليلة"، موظفاً مصطلحات مأخوذة من البلاغة العربية القديمة مثل الحذف والإضافة والقلب عوضاً عن التناص، واستخدم الباحث كلمة (استدخال) في عنوانه "نجيب محفوظ واستدخال النص التراثي: ليالي ألف ليلة نموذجاً"، وتبدو الكلمة غير مناسبة للتعبير عن التناص فضلاً عن كونها مفردة عامة وغير مقيدة، وكان من الممكن أن تكون هذه الدراسة أكثر تأثيراً لو خلص الباحث إلى نتائج في آخرها، إلى جانب كونه يفتقر إلى مراجع نظرية حديثة. وللنقد التطبيقي الروائي الذي تناول التناص جزئياً حضوره، ومن تلك الدراسات دراسة محسن جاسم الموسوي الصادرة بالإنجليزية، وناقش فيها قضايا كثيرة في نقد الرواية العربية، وفد خصص فصلاً بعنوان "شهرزاد" ليدرس استراتيجيات التناص في "ليالي ألف ليلة" موظفاً بعض المصطلحات النقدية الغربية، لكنه لم يشر إلى كتب النظرية واكتفى بذكر مرجع يبدو مدرسياً وقديماً، وهو كتاب جوناثان كوللر الصادر عام 1975م ، والموسوم "الشعرية البنيوية"، وكان من الممكن أن يكون هذا الفصل عميقاً لو عمل المؤلف على توظيف المصطلحات من مصادرها الرئيسة والحديثة، إلى جانب كونه قد هجر التفاصيل التي تعمق الطرح النقدي، وربما عاد ذلك إلى كون الكتاب يقدم إلماحات عن الرواية العربية بصورة عامة. وتتجلى في هذا النوع أهمية التناص بوصفه أداة يستثمرها الباحثون مع غيرها عند مناقشة متن إبداعي معين شعراً أو سرداً. أما ستيفن ماير فقد قدم بالإنجليزية دراسة نقدية في الرواية العربية في المشرق العربي وفحصها في أكثر من ملمح، يحدد الباحث موضوع بحثه بالروايات في سوريا ولبنان وفلسطين، ويؤمن أن الخصائص العامة للروايات العربية التي كانت في مرحلة الحداثة ومرحلة ما بعد الاستعمار تتشابه بصورة كبيرة منذ استهلال الرواية حتى وقتنا الحاضر، في الفصل المعنون ب (العودة إلى الماضي، تعريب الرواية)، يعيد الباحث بعض العلاقات التناصية لأعمال روائية مشرقية مثل: "خرافية سرايا بنت الغول" (1991)، و"مملكة الغرباء" للياس خوري (1993)، و"فقهاء الظلام" (1985) لسليم بركات، مع التراث القديم مثل كتاب "ألف ليلة وليلة" والتراث الصوفي. ومن الدراسات التي تناولت الرواية العربية وقدمت شظايا نقدية حول التناص دراسة روجر ألن عن الرواية العربية بالإنجليزية المشار إليها سابقاً، وهي دراسة عامة حول الرواية العربية، ولم تتعمق كثيراً في موضوع العلاقات التناصية مع التراث، إلا أنها حوت بعض الآراء النقدية الجادة فيما يتصل بالتناص، ومنها ذلك الرأي الذي تنبأ بنمو توظيف التراث في الرواية العربية، فهو يرى أن "نمو الوعي الوطني، ونمو الألفة مع التراث القديم ولا سيما النثر، قد يقود على الأقل في أعمال بعض الروائيين المعاصرين إلى الارتباط الوثيق بين الرواية والسرد القديم، الذي كان تم تجاهله سابقاً من قبل الروائيين في المراحل المبكرة لتطور الرواية العربية". أما صبري حافظ فقد رصد التغيرات الاجتماعية والثقافية العربية في الخطاب السردي، وناقش حافظ فيه بعض ملاح السرد العربي الجديد، ومن ذلك إحياء المقامة الكلاسيكية، إذ يرى هذا المظهر أبرز الجوانب المهمة في الخطاب السردي المعاصر، ولذلك فهو يقيم علاقة واضحة بين فن المقامة وبداية تشكل الكتابة في العالم العربي، يركز حافظ على الفترة الممتدة من اللحظات المبكرة للتحول الثقافي في القرن الثامن عشر إلى 1930م، محاولاً الإجابة على السؤال التالي : كيف تتشكل الأنواع الأدبية الجديدة في ثقافة معينة في وقت معين ، ولماذا؟ ويبدو في الأطروحتين السابقتين نوع من التناقض حول توظيف أو عدم توظيف التراث في الرواية العربية، بين ألن وحافظ، ويعود السبب في ذلك في نوع النظر إلى تلك الفترة المبكرة، إذ نظر ألن إلى جهود المويلحي وحافظ إبراهيم في هذا المجال بوصفها نادرة وغير مؤثرة، ولكنها بدت عند صبري حافظ صالحة للتحليل والتتبع النقديين. ويسلط ساسون سوميخ الضوء على أصداء الكتاب المقدس في الأدب العربي الحديث في العقود الأخيرة، إذ يشير في لمحة قصيرة إلى بدايات الطباعة وانتشار الكتاب المقدس وآثاره على الأدب العربي، وعلى حد سواء في الأدب المكتوب بأقلام كتاب مسيحيين، كما يشير، مثل جبرا إبراهيم جبرا، أو الأدب المكتوب بأقلام كتاب مسلمين مثل الشاعر السوري أدونيس، ويضرب مثالا لذلك بقوله: إن هناك بعض السمات التوراتية حين يوظف حليم بركات قصة سفر التكوين في خلق بوصفها قصة الإطار التي في بداية ونهاية روايته "عودة الطائر إلى البحر"، وتفتقر ورقة سوميخ إلى التخصص إذ ينبغي أن تقتصر على فحص الرواية العربية بوصفها النوع الرئيس عوضاً عن دراسة الأدب العربي بصفة عامة. وفي خاتمة هذه المراجعة النقدية ينبغي أن أشير إلى دور تلك الأعمال التطبيقية المبكرة في بث التعامل النقدي مع التناص وممارسته، وهنا سأثبت عدداً من النتائج العامة التي يمكن تقديمها عن الدراسات التي سبق ذكرها، إذ اعتمد النقد التطبيقي العربي على مجموعة متنوعة من الآراء حول مفهوم التناص، وبصورة عامة يبدو النقاد في المغرب العربي أكثر سرعة في التواصل مع المفاهيم الأساسية الحديثة من غيرهم، نتيجة شيوع الفرنسية وثقافتها في بلادهم، إلا أن تطبيقاتهم على النص العربي تبدو حرفية مدرسية، ويغيب عنها الجانب الإبداعي، فيما يحاول النقاد في المشرق العربي أن يكونوا أكثر تحفظاً في توظيف هذه المصطلحات الحديثة بصورة مباشرة وحاسمة في دراساتهم، ويميل المشرقيون إلى الاستناد إلى مفاهيم تراثية مساندة، أما تطبيقاتهم فتبدو أكثر مرونة. ومع كثرة الدراسات التي استعرضت في هذا البحث، إلا أن متأخرها لا يشير إلى سابقها ولا يرجع إليه، ومع كون معظمها مكتوبة باللغة العربية إلا أن معظم هذه الدراسات لا تركز كثيراً على الإنتاج السابق في الحقل نفسه، إنه تأكيد على العمل في جزر مختلفة، إذ يختار النقاد العرب أعمالاً روائية لدراساتهم النقدية، ويميلون إلى التركيز على الأعمال الأدبية المحلية، ولا بأس لدى المؤلف أن يشير في عنوان عمله إلى كون عمله شاملاً، ولا يتردد في إطلاق (الرواية العربية) على غلاف كتابه. ويمكن الإشارة إلى أن الأعمال الروائية الأكثر حضوراً في هذا الدرس النقدي هي: ليالي ألف ليلة لنجيب محفوظ، وكتاب التجليات والزيني بركات لجمال الغيطاني، ويبدو كتاب "ألف ليلة وليلة" الأكثر تاثيراً في الرواية العربية المعاصرة. وأخيراً يمكننا القول: إن الدراسات الاستشراقية لم تتمكن حتى الآن من تقديم أعمال نقدية متخصصة ترتكن إلى التناص، وتتخذ من جنس أدبي محدد متناً لها، إذ تميل هذه الدراسات إلى تقديم نظرات عامة إلى الأدب العربي المعاصر.