يقطف السوريون حالياً ثمار السياسة الزراعية والمائية التي انتهجتها الحكومة في العقود السابقة التي اعتمدت على بناء عدد كبير من السدود واستصلاح الاراضي وتركيز الجهود على تحقيق "الامن الغذائي" وتصدير الحد الادنى من فائض انتاج محاصيل الحبوب. وتخفف هذه السياسات من قسوة الجفاف الذي ضرب الشرق الاوسط الشتاء الماضي، لتكون آثاره اقل قياساً الى دول اخرى، والى ماكان متوقعاً لولم تكن هذه المشاريع موجودة. لكن موجة الجفاف تتيح الفرصة للخبراء والباحثين لإعادة طرح موضوع المياه في الشرق الاوسط ومستقبل الموارد المائية في سورية ومع الدول المجاورة. ومع ان الاسابيع الاخيرة شهدت معدلاً جيداً لهطول الأمطار في المناطق الساحلية وبعض المناطق الشمالية والشرقية في سورية، إلا ان معدل الهطول الوسطي لم يتجاوز نصف المعدل السنوي وهو ما لم تصل اليه البلاد منذ اكثر من عقدين، علماً ان المعدل يراوح بين الف ملم في المرتفعات الجبلية والمنطقة الساحلية، ومئة ملم في البادية الجنوبية، ليصل الاجمالي الى 45 بليون متر مكعب في السنة. وستظهر النتيجة الاولية لانحباس الامطار على المحاصيل الزراعية، اذ ان مليون هكتار تعتمد على مياه الامطار فيما تروي المشاريع الزراعية الحكومية 690 الف هكتار. وكانت وزارة الزراعة خططت لانتاج 7.4 مليون طن من القمح و4.1 مليون طن شعيراً و212 الف طن من العدس و114 الفاً من الحمص و3.1 مليون من الشوندر السكري و885 الف طن من القطن. وفي ضوء الشح في موسم الأمطار، فإن المناطق المروية ستوفر حاجة البلاد البالغة 6.2 مليون طن من القمح اضافة الى فائض يتحقق في ال40 في المئة التي تنتج في مناطق الاستقرار الاولى والثانية. وسينعكس الجفاف في وقف التصدير علماً ان قيمة الصادرات الزراعية بلغت عامي 1997 و1998 نحو 250 مليون دولار، وان الانتاج الزراعي يشكل بين 25 و30 في المئة من الناتج القومي حسب الاسعار الجارية. وعلى رغم تحقيق فائض في الانتاج في الأعوام الاخيرة إذ وصل المخزون الى اكثر من سبعة ملايين طن من الحبوب، حرصت الحكومة على التصدير في الحد الادنى لاسباب سياسية تتعلق ب"تحقيق الامن الغذائي" و"استقلالية القرار السياسي"، اضافة الى ان اسعار كلفة انتاج القمح كانت اعلى من الاسعار العالمية لأن الحكومة كانت تقدم اسعاراً تشجيعية للمزارعين ليتوجهوا لزرع القمح. وبفضل هذه السياسات انتقلت من استيراد القمح في منتصف الثمانينات الى الاكتفاء الذاتي في التسعينات الى التصدير فوصل الى نحو 885 الف طن من القمح عام 1997 و515 الفاً العام الماضي. كما ان الحكومة رافقت ذلك بزيادة الطاقة الطحنية لتصل الى طحن 6800 طن من 45 مطحنة ما أغنى البلاد عن استيراد الطحين. ويجمع الخبراء على ان المشكلة ستكون اكبر بالنسبة لمحصول الشعير لان 99 في المئة منه يعتمد على الامطار. ولعل وجود نحو نصف مليون طن مخزوناً، سيساهم في حل جزء من المشكلة التي هي اساساً في الثروة الحيوانية سواء ما يتعلق بالغطاء الاخضر او بالاعلاف. وهدد انحباس المطر اكثر من 15 مليون رأس من الغنم بسبب عدم توافر المراعي ما دفع عدداً من المربين الى ذبحها. ولمواجهة ذلك فتحت الحكومة الباب امام استيراد الاعلاف وتصدير الاغنام والرعي في الغابات وقدمت قروضاً من دون فوائد وسمحت للجمعيات الفلاحية بتصدير الاغنام. لكن المشكلة الاساسية التي تثيرها موجة الجفاف التي اجتاحت المنطقة، هي محدودية الموارد المائية في الشرق الاوسط وضرورة وجود حل لهذه المشكلة التي بدأ الحديث عنها منذ عقد ووصل الأمر حد التهديد بان المياه ستكون سبب الحروب المقبلة في الشرق الاوسط. ولعل تركيا ستكون اكثر الدول حظاً في ضوء تخطيطها لإقامة "مشروع تطوير جنوب شرق الاناضول" غاب الذي يخزن نحو 90 بليون متر مكعب، فيما ستكون سورية واحدة من الدول الاقل حظاً لان نحو 600 مليون متر هي في مرتفعات الجولان المحتلة من جهة، ولان مصدري المياه الاساسيين وهما نهرا دجلة والفرات ينبعان من الاراضي التركية من جهة ثانية، ولأن الاحواض الداخلية السورية المهمة غير مترابطة مائياً من جهة ثالثة. امام السبب الرابع الذي يجعل مشكلة الجفاف اكثر اثارة في المستقبل، فيكمن في ان الموارد المائية السطحية توفر 9.6 بليون متر مكعب من اصل اجمالي الموارد البالغ 9.9 بليون. وقال مسؤول كبير ان "الأهمية الاستثنائية" لهذه المياه تكمن في كونها "الكتلة الاساسية من الموارد المائية". أي أن الدولة الأكثر حاجة للمياه تتنازع مع الدول الاكثر غنى بالمياه، لذلك كان التعاون ضرورياً بين انقرةودمشق. ويأمل المسؤولون السوريون ان يؤدي الاتفاق الامني الذي وقع في تشرين الاول اكتوبر الماضي الى حل لمشكلة المياه ب"اسلوب الحوار الودّي الهادئ". ويشارك العراق سورية وتركيا التشاطؤ على نهري دجلة 1950 كلم والفرات 2800 كلم. وتربط الدول الثلاث اتفاقات لقسمة المياه نصت على تمرير تركيا مايزيد عن 500 متر مكعب في الثانية لسورية التي تلتزم بموجب اتفاق ثان مع العراق بتصريف 58 في المئة منها للعراقيين. لكن دمشق وبغداد تريدان حلاً نهائياً يضمن المستقبل لخوفهما من ان المشاريع التركية ستقلص حصة سورية والعراق الى 350 الف متر مكعب في الثانية، إذ أن حجم تخزين السدود التركية يبلغ 90 بليون متر مكعب اي اكثر بثلاثة اضعاف من طاقة نهر الفرات. وكانت سورية حلت مشكلتها المائية مع لبنان في اطار "معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق"، ووقع البلدان عام 1994 اتفاقاً ل"توزيع عادل ومعقول" لمياه نهر العاصي سمح للبنان باستغلال 80 مليون متر مكعب من طاقته السنوية البالغة 403 ملايين. كما ان قمة الرئيس حافظ الاسد والملك عبدالله بن الحسين يومي 21 و22 الشهر الماضي ادت الى اعطاء دفعة اضافية لاقامة سد "الوحدة" على نهر اليرموك، بعدما حصل البلدان على اشارة ايجابية لتمويل خليجي للسد بكلفة تبلغ نحو 300 مليون دولار. وكانت اسرائىل حالت عام 1987 دون تمويل "البنك الدولي" للسد. ويبلغ اجمالي تدفق اليرموك 440 مليون متر مكعب سنوياً، ويبلغ تدفقه في المكان المقترح للسد نحو 250 مليون متر مكعب سنوياً. وقال رئيس دائرة المياه الدولية في وزارة الري السورية المهندس عبدالعزيز المصري ان اتفاق سد "الوحدة" الذي عدّل قبل سنتين نص على ان تستفيد سورية من سدود الحوض اضافة الى ري الاراضي خلف سد الوحدة ومياه ينابيع على ارتفاع يزيد عن 250 مترآً و75 في المئة من الطاقة المولدة ، مقابل حصول الاردن على ال 25 في المئة المتبقية ومياه سد الوحدة. واضافة الى البعد الاقليمي للجفاف فهناك البعد المناطقي له. ولم تكتف الجغرافيا في ظلم سورية مع دول الجوار بل ظلمتها داخلياً إذ أنها تعاني من عدم وجود رابط بين احواضها المائىة الداخلية وخصوصاً الوسطى والشمالية الغربية. وقدر تقرير دولي العجز المائي المتوقع في هذه الاحواض سنة 2015 بنحو 4491 مليون متر مكعب في حالة الجفاف الشديد و5347 مليون متر مكعب في السنة العادية حتى بعد انتهاء السدود التي هي قيد التنفيذ في بعض الأحواض. ولحظ التقرير ان نمو السكان المتسارع في هذه الاحواض ادى الى زيادة وحدة استهلاك المياه من 138 ليترا في اليوم الى 159 ليترا ، وان تآكل شبكات مياه الشرب الحالية يؤدي الى ضياع المياه بنسبة عالية تراوح بين خمسين في المئة في دمشق و13 في المئة في الرقة شرق البلاد وبمعدل 33 في المئة في منطقة الاحواض. وقدر التقرير الدولي الكلفة الاولية للمشاريع المقترحة للأحواض الخمسة حسب أسعار منتصف عام 1997 بنحو 375 مليون دولار. في كل الاحوال فان المشكلة الاسرع ستكون في دمشق. ويتوقع ان يعاني الدمشقيون في الصيف المقبل بسبب ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض الموارد المائىة وخصوصاً نبع "الفيجة" الذي يعتبر المصدر الاساسي لمياهها. ولم يكن النبع في احسن احواله في الايام الاخيرة، وانخفض تدفقه الى تسعة امتار مكعبة في الثانية مقابل 17 متراً معدل التدفق في هذه الفترة من السنة. وكان تدفق الفيجة انخفض من 2.1 مليون متر مكعب قبل أعوام الى ب700 الف قبل اشهر، وهو حالياً نحو 400 الف متر. في المقابل تقدر المصادر الرسمية الحاجة اليومية لسكان دمشق 700 الف متر مكعب. ولم يتجاوز هطول الامطار في منطقة النبع 119 ملم بداية الشهر الجاري مقابل 343 ملم هطلت في المنطقة نفسها العام الماضي. ومع ان "المؤسسة العامة لمياه الشرب" ستشغل الآبارالجوفية لتوفير 160 الف متر مكعب يومياً، لا مفر من اللجوء الى تقنين المياه في المدينة. وسيساهم اقتصاد المواطنين في استعمال المياه، في حل قسم بسيط من المشكلة التي ستكون اكثر اثراً سنة 2000 عندما يصل العجز الى 25 في المئة وفي سنة 2020 عندما يبلغ 80 في المئة، اذا لم تتخذ اجراءات وقائية حاسمة وطويلة الأجل.