في ربع الساعة الاخير من مشهد الانتظار القلق في المنطقة لما ستسفر عنه الانتخابات الاسرائيلية يضع العرب أيديهم على صدورهم خوفاً من "مقامرة" عسكرية يقدم عليها بنيامين نتانياهو رئيس وزراء اسرائيل لكسب شعبية داخل القطاعات الاسرائيلية المترددة ليضمن الفوز بعد ان دلت معظم استطلاعات الرأي على توقع سقوطه مع ليكوده المتطرف، او على الاقل وجود خطر كبير يعرّضه للسقوط بسبب ضيق الفارق في نسب التأييد بينه وبين منافسه العمالي إيهودا باراك بعد دخول طرف ثالث تخلى عنه وشكل "حزب الوسط" بزعامة إسحق موردخاي اليهودي الشرقي من أصل كردي عراقي والجنرال الذي يحظى بشعبية لابأس بها داخل اسرائيل وفي بعض الاوساط الاميركية والعربية. وإذا كان العرب قد ملّوا الانتظار بسبب تكرار هذه المسرحية الانتخابية طوال العقود الماضية، وبعد الخطر عنهم الى حد ما، فإن لبنان كان يعد الثواني والدقائق التي تفصلنا عن موعد الانتخابات الاسرائيلية التي ستجري في 17 أيار مايو بسبب تركيز نتانياهو على الورقة اللبنانية ومحاولته منذ شهرين استخدامها بأي شكل من الاشكال من دون ان يوفق، حتى الآن، بسبب الحذر والخوف من السقوط في فخها ورمالها المتحركة وتحولها الى ورقة خاسرة تؤدي الى سقوطه سقوطاً مريعاً وبالتالي دفن طموحاته ومطامعه وإسدال الستار عليه نهائياً غير مأسوف عليه. فنتانياهو يعرف جيداً ان منافسه في الانتخابات السابقة شيمون بيريز زعيم "حزب العمل" السابق سقط قبله في الفخ اللبناني عندما حاول استخدام هذه الورقة قبل الانتخابات العامة بشهرين فأقدم على مغامرة عسكرية فاشلة وصلت الى حد قصف منشآت حيوية لبنانية ومركز للأمم المتحدة لكنها انتهت بكارثة انسانية هزت العالم الذي فجع بمشاهد مجزرة قانا الوحشية التي اودت بحياة اكثر من 110 مدنيين اكثرهم من النساء والاطفال سقط على اثرها بيريز بفارق 29 ألف صوت وهو يجر اذيال الخيبة ويحمل في جبينه العار وفي فمه مرارة الهزيمة المنكرة. كما ان اسرائيل حاولت مراراً من قبل استخدام الورقة اللبنانية ومحاولة تركيع لبنان وفصل المسارين اللبناني - السوري عبر طرح مشاريع مشبوهة مثل "جزين أولاً" ثم التظاهر بقبول القرار الدولي رقم 425 وتلغيمه بشروط خبيثة مثل الترتيبات الامنية والمفاوضات الثنائية من اجل تنفيذ القرار والانسحاب من الشريط المحتل" ولكن كل هذه المشاريع سقطت كما سقط من قبل كل من دخل المستنقع اللبناني في الاعتداءات المتكررة وأهمها الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 الذي أودى بأرييل شارون يومها وعرّضه للمحاكمة وهز كيان حكومة مناحيم بيغن. وقبل شهور عدة كررت حكومة نتانياهو المحاولة عبر تكرار الدعوة لترتيبات امنية لقاء الانسحاب وفك المسارين ثم عبر بلدة أرنون الصامدة التي عادت الى احتلالها من جديد بعد ان حقق نفر من الشبان اللبنانيين المخلصين سابقة هي الاولى من نوعها عندما أقدموا على تحريرها وهدم السواتر والاسلاك الشائكة تحت غطاء لبناني وطني شامل وتعاطف دولي ملحوظ. وبدا من خلال متابعة تطورات الاسابيع القليلة الماضية، ان اسرائيل عمدت بعد ان فشل نتانياهو في الحصول على ضوء أخضر من جنرالات الجيش والولاياتالمتحدة بشن هجوم عسكري واسع على لبنان الى اتباع مناورة احتيالية جديدة تهدف الى استغلال لجنة تفاهم نيسان التي تشكلت بعد مجزرة قانا عام 1996 لتمرير اقتراح بإجراء مفاوضات ثنائية تمهد لإرسال قوة من الدرك الى البلدة للحفاظ على الامن ومنع دخول أو عبور المقاومة اللبنانية كبالون اختبار وسابقة يمكن ان تعمم في المستقبل لتشمل الجنوب كله وبالتالي تنفيذ العرض المسموم السابق الذي يطالب باتفاق ثنائي على الترتيبات الأمنية وضمان لبنان لأمن الحدود مع اسرائيل ومنع قيام عمليات ضد المستعمرات وبلدات الجليل الأعلى، وصولاً الى الهدف الاكبر وهو توريط لبنان في مفاوضات منفردة وفصل المسارين وفرض الشروط الاسرائيلية عليه. وقد تنبه لبنان، بعد ان ثار لغط كبير حول بيان اللجنة الاخير الذي تضمن حديثاً عن الترتيبات الثنائية، لهذا الفخ المنصوب له فأعلن بشكل حازم، وعلى لسان الرئيس العماد إميل لحود تصديه للمناورة الاسرائيلية وبرفضه للشروط وتمسكه بوحدة المسارين وعدم الرضوخ للضغط الذي يمارس عليه من اجل ابتزازه وفرض سابقة خطيرة لا يمكن ان تقبل بها اية دولة ذات سيادة تقضي بأن يتحول جيشها الى شرطي لحماية العدو وضمان امنه. وسقطت المناورة الاسرائيلية الاخيرة وخاب فأل نتانياهو لكن الخطر على لبنان لا يزال جاثماً رغم انه لم يبعد عن موعد الانتخابات الاسرائيلية سوى ايام عدة مما يستدعي الحذر والحيطة والتيقظ وتجنب منح اسرائيل اية ذريعة لتنفيذ مخططاتها، ومنع استخدام نتانياهو الورقة اللبنانية من اجل مصالحه الانتخابية وتمتعه بنشوة النصر على خصومه الكثر. ورغم استبعاد اي عمل احمق في "الوقت الضائع" الذي يفصلنا عن موعد الانتخابات العامة في اسرائيل الا ان المنطق يفترض انتظار اي مفاجأة من نتانياهو خاصة وانه وصل الى مرحلة اليأس وانحشر في زاوية ضيقة مع ليكوده ومتطرفيه فعمد الى الاتجاه الى الورقة الفلسطينية عبر التهديد باجتياح اراضي السلطة الوطنية اذا اعلنت قيام الدولة المستقلة او من خلال ممارسات استفزازية ضد المؤسسات الفلسطينية واغلاق بيت الشرق والمكاتب الاخرى في القدس وغيره من المدن الفلسطينيةالمحتلة. وما زاد في خيبة أمل نتانياهو انه لم يستفد هذه المرة من عمليات تفجير مثل التي وقعت عشية الانتخابات السابقة وأدت الى تعزيز التيار المتطرف والتمهيد لفوزه" كما انه لم يستطع جر لبنان والى مواجهة عسكرية بسبب منهج الحكمة الذي سارت عليه المقاومة" ولهذا لم يبق امامه سوى القيام بعمليات دعائية ضخمة تحدث دوياً يحصد منه تأييد المترددين وحشد المتطرفين خلفه مما يستدعي من المقاومة في فلسطينولبنان الحذر وإفشال مثل هذه المقامرة. ولا شك ان محاولة استخدام نتانياهو الورقة اللبنانية قد فشلت فشلاً ذريعاً رغم عدم استبعاد مغامرة حتى آخر لحظة من موعد الانتخابات لعدة عوامل لبنانية وعربية ودولية يمكن تلخيصها بالنقاط التالية: 1 - توفر اجماع شبه كامل في لبنان على رفض الشروط الاسرائيلية والتمسك بوحدة المسارين السوري واللبناني ودعم المقاومة والاصرار على انسحاب اسرائيل وتنفيذ القرار رقم 425 دون قيد او شرط. ولم تنفع محاولات اسرائيل بإثارة الفتن في ضرب الوحدة الوطنية او التهديد بقصف البنى التحتية وتركيع لبنان في تغيير هذا الموقف الوطني الذي تجلى في ابهى صوره خلال تحرير أرنون قبل سقوطها مجدداً بيد المحتلين الصهاينة. مع العلم ان لبنان يعاني من ضائقة اقتصادية وموزانة تقشف وركود كما انه ما زال يعيش في ظل عهد جديد وحكومة جديدة ومشاكل سياسية وملفات مفتوحة ومغلقة ومواربة. 2 - حصول لبنان على دعم عربي شامل وعلى كافة المستويات الرسمية والشعبية. 3 - ظهور متغيرات في الموقف الدولي ولا سيما في موقف الولاياتالمتحدة حيث تتصدى إدارة الرئيس كلينتون لأي عمل عسكري اسرائيلي وتسعى بشكل شبه علني لإزاحة نتانياهو رداً على تحدياته وتعنته وإضافة الى توفر قناعة دولية بحتمية السلام في المنطقة واعلان أوروبا عن مواقف متميزة ضد السياسة الاسرائيلية الهوجاء. 4 - نجاح جهود التعقل والتهدئة وعدم انجرار المقاومة نحو فخ تنصبه اسرائيل للتصعيد العسكري عبر القصف اليومي للقرى والمدن اللبنانية والانتهاك المستمر لتفاهم نيسان لا سيما بالنسبة لقصف المدنيين. 5 - استكمال بناء الجيش الوطني اللبناني وجهوزيته الكاملة وإعداده اعداداً جيداً ليتحول الى درع حقيقي للوطن يتميز بالانضباط وإشاعة الروح الوطنية العالية والوحدة الوطنية الحقيقية في صفوفه. فبعد الجهود التي بذلها في هذا الاتجاه الرئيس العماد إميل لحود قائد الجيش السابق انتقلت الامانة الى ضابط ميداني كبير شارك في اعادة بناء الجيش ويحمل بالاضافة الى شهاداته وخبراته العسكرية الاجازة في العلوم السياسية وهو العماد ميشال سليمان الذي يعمل بصمت وهدوء وحزم وأخلاقيات عالية يشهد له بها الجميع لتكريس جهوزية هذا الجيش وتفقد وحداته باستمرار لبث الروح الوطنية بين ضباطه وجنوده وإعداده للتصدي للمؤامرة الاسرائيلية وحماية التراب الوطني ووحدة المسارين خاصة بعد نجاحه في كشف عدة شبكات تجسس لصالح اسرائيل وتفكيكها وتقديم افرادها للمحكمة العسكرية. والاهم من كل ذلك النجاح في ابعاد الجيش عن السياسة على عكس ما كان يروج البعض، وتكريس شعار "جيش كل لبنان" الذي كان بمثابة حلم لكل مواطن قبل وخلال الحرب الاهلية اللبنانية. هذه العوامل عززت موقف لبنان الذي ما زال يعيش على اعصابه بانتظار حلول موعد الانتخابات الاسرائيلية والتأكد من فشل نتانياهو في استخدام الورقة اللبنانية لمصالحه الانتخابية. وهناك تفاؤل حذر في لبنان بأن مسيرة السلام ستشهد تحركاً جدياً بعد الانتخابات الاسرائيلية بمعزل عن نتائجها لأن قرار السلام، حسب لا رجوع عنه فيما يشكك البعض بحدوث تقدم قبل انتخابات الرئاسة الاميركية العام المقبل... وما علينا الا الانتظار... كالعادة! * كاتب وصحافي عربي.