Robert Chapuis. Thierry Brossard. Les Quatre Mondes du Tiers Monde. العوالم الاربعة للعالم الثالث. Armand Colin, Paris. 1998. 247 Pages. كان اول من اطلق تعبير "العالم الثالث" العالم الديموغرافي الفرنسي الفريد سوفي في مقال له كتبه عام 1952. وقد اصاب التعبير للحال شهرة وفرض نفسه في الخطاب العلمي والاعلامي معاً، رغم ما يحيط بنشأته وبمدلوله من التباس. فسوفي نحت ذلك المفهوم للاشارة الى وحدة المصير، المنسوجة من "الاستغلال والازدراء والتجاهل"، التي تجمع ما بين "العالم الثالث" في منتصف القرن العشرين و"الطبقة الثالثة" في منتصف القرن الثامن عشر. فقبل الثورة الفرنسية كانت البوروجوازية هي الطبقة الثالثة المزدراة لأنها لا تصل اجتماعياً الى كعب الطبقة الاولى، وهي طبقة النبلاء، ولا حتى الى كعب الطبقة الثانية، وهي طبقة رجال الدين. ولكن ليس لهذه الاسباب فرض تعبير العالم الثالث نفسه. فقد ذاع لأن التراتبية التي يحيل اليها كانت اكثر ارتباطاً بواقع العصر: فالعالم الثالث ثالث لأنه ليس العالم الأول، عالم الكتلة الغربية المتقدمة، ولا العالم الثاني، عالم الكتلة الشرقية التي كانت مرشحة في حينه للتقدم ولسبق العالم الاول نفسه. والواقع ان العالم الثالث بدا في حينه وكأنه قد طاب له ان يميز نفسه عن العالمين الاول والثاني. ففي باندونغ عام 1955، ثم في بلغراد عام 1961، ورغم الاعتراف بواقع الفقر والتخلف الاقتصادي، نسب العالم الثالث نفسه، بشيء من الكبرياء والتباهي، الى اخلاقية سياسية وايديولوجية جديدة تسمت باسم "عدم الانحياز" في طور اول، ثم باسم اكثر ايجابية في طور ثان: "الحياد الايجابي". ولكن ما كادت جبهة العالم الثالث تقوم حتى بدأت الشكوك تثار حول وحدته. فجميع حروب النصف الثاني من القرن العشرين دارت داخل العالم الثالث، ومعظمها بين دول العالم الثالث نفسه: حرب الهندوالصين عام 1962، وحرب الهند وباكستان عام 1971، وحرب الصين وفيتنام عام 1979، وحرب ايران والعراق عام 1982. والى 1987 يعود تاريخ اول تشكيك نظري في المفهوم. ففي ذلك العام اصدر عدد من الاقتصاديين، تحت اشراف س. برونل، كتاباً جماعياً موسوعياً يتحدث عن العالم الثالث، في عنوانه بالذات، بصيغة الجمع: العوالم الثالثة. وبالفعل، ان التنوع، وليس الوحدة، هو اول توصيف يفرض نفسه بالنسبة الى عالم يمتد على مساحة 98 مليون كيلومتر مربع من اصل 136 مليون كيلومتر مربع، هي مساحة جملة القارات الخمس المسكونة، ويضم 134 دولة من اصل 177 دولة هي جملة دول العالم. وبغض النظر عن التنوع المناخي والديموغرافي والجيوبوليتيكي والثقافي، فإن عدم التجانس بين العوالم الثالثة لا يبرز في مجال كما في مجال الاقتصاد الذي غدا هو المحدد الاول للهوية في الازمنة الحديثة. فغداة مرحلة الاستقلالات كانت الواقعة الاكثر لفتاً للنظر في بطاقة هوية العالم الثالث انقسامه الى عمالقة واقزام من حيث حجم الدول وتعداد السكان. فالصين كانت تبدو جلياتاً حقيقياً بالمقارنة مع هونغ كونغ الداودية. ولكن ابتداء من السبعينات بدأ داود الهونغكونغي او التايواني يتعملق اقتصادياً في الوقت الذي شرع فيه العملاق الصيني او الهندي يتقزم من حيث معدلات الدخل القومي مقسوماً على تعداد السكان. وبدلاً من اشكالية جليات وداود الجيوبوليتيكية رأت النور، في قلب العالم الثالث دوماً، اشكالية قارون وأيوب الاقتصادية. فأي قاسم مشترك بين الموزامبيقي الذي ما كان دخله في 1995 يزيد عن 120 دولاراً مقابل 23000 دولار للهونكونغي؟ وحتى اذا استبعدنا الاقزام الجيوبوليتيكيين، فما القاسم المشترك بين الارجنتيني او البرازيلي اللذين بلغ دخلهما في العام نفسه 8920 و5630 دولاراً على التوالي مقابل 410 دولارات للحبشي أو 1000 دولار للفيتنامي او البنغلادشي؟ ان التمايزات في العالم الثالث كبيرة إذن الى حد انها تخرج منه جزءاً كان لا يزال رئيسياً حتى مطلع الستينات: آسيا الجنوبيةالشرقية. فأياً ما تكن المعايير المعتمدة، فإن التنانين الآسيوية الاربعة، كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة، لم تعد تقبل الوصف بأنها عالمثالثية. فسكانها، الذين لا يزيد تعدادهم على 75 مليون نسمة، يصدرون ستة اضعاف ما يصدره 1240 مليون صيني، وثلاثين ضعف ما يصدره 930 مليون هندي. وناتجها القومي الاجمالي يعادل ناتج الصين رغم ان هذه الاخيرة شهدت في السنوات الاخيرة تقدماً سريعاً. والناتج القومي لكوريا الجنوبية وحدها بات يكافئ ناتج روسيا، على ما بينهما من فارق هائل في المساحة وتعداد السكان وتاريخ الدخول في الحداثة. ولكن حتى لو استثنينا التنانين الصغيرة الاربعة، فان العالم الثالث، او ما كان يعرف بهذا الاسم، بات يتوزع الى اربعة عوالم متمايزة. اولاً العالم الاميركي اللاتيني، وهو بلا جدال اكثر العوالم الاربعة تقدماً، او اقلها انتماء الى العالم الثالث اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان الغلبة في بنيته الاقتصادية لم تعد للزراعة، وان ثلث ناتجه القومي الاجمالي بات يأتي من الصناعة. فالزراعة الاميركية اللاتينية لا تشغّل سوى 28 في المئة من اليد العاملة الاجمالية مقابل 60 في المئة في آسيا وافريقيا. على حين ان الصناعة باتت تستخدم 20 في المئة من اجمالي اليد العاملة، أي ما يعادل ضعفي معدل بقية العالم الثالث. وما يميز الصناعة الاميركية اللاتينية انها "معملية"، على عكس صناعة العالم العربي - الاسلامي التي هي في جوهرها "استخراجية". والصناعة المعملية الاميركية اللاتينية تعادل بمفردها جملة الصناعة الآسيوية باستثناء التنانين الاربعة مع ان تعداد سكان اميركا اللاتينية لا يزيد على 480 مليون نسمة مقابل 3 مليارات في آسيا. اضف الى ذلك ان القطاع الثالث، قطاع التجارة والخدمات، بات يشغّل 48 في المئة من اجمالي اليد العاملة في اميركا اللاتينية، وهذا معدل يتفوق على معدلات اوروبا الشرقية الاكثر تقدماً مثل الجمهورية التشيكية 40 في المئة ويقترب من معدلات بعض دول اوروبا الغربية الطرفية مثل اليونان 48 في المئة. ومن منظور تقدم القطاع الثالث، فإن اميركا اللاتينية تسبق من بعيد جملة العالم الثالث حيث لا يزال ثقل القطاع الثالث اضعف بمرتين. وتتفوق اميركا اللاتينية بناتجها القومي الفردي 5100 دولار بمرتين على المدخول الآسيوي وبأربع مرات على المدخول الافريقي. وتكاد اميركا اللاتينية تكون اوروبية بمستوى التعليم فيها: فأكثر من 85 في المئة من سكانها الراشدين يقرأون ويكتبون مقابل 60 في المئة في بقية العالم الثالث. ثم ان الفارق في مستوى التعليم بين ذكورها واناثها يكاد يكون معدوماً 2 في المئة في حين انه يترفع في آسيا الى 8 في المئة وفي افريقيا الى 10 في المئة وفي العالم العربي - الاسلامي الى 18 في المئة. ويأتي بعد العالم الاميركي اللاتيني في الترتيب العالم العربي - الاسلامي. وفي نظر مؤلفي "العوالم الاربعة للعالم الثالث"، فان هذا العالم يشمل جميع البلدان العربية باستثناء موريتانيا والسودان المزاح موقعهما الى العالم الافريقي، ولا يشمل من البلدان الاسلامية سوى دولتين: تركياوايران، لأن باقي الدول الاسلامية تندرج في نسيج العالم الآسيوي. واكثر ما يميز هذا العالم وحدته الثقافية وانقساماته السياسية. اما من المنظور الاقتصادي فالعالم العربي - الاسلامي لا يزال في جوهره عالماً زراعياً، اذا ما اخذنا بعين الاعتبار النسبة العالية للعاملين فيه في قطاع الزراعة 35 في المئة من اجمالي اليد العاملة. ولكن توصيفه بأنه زراعي لا يعود مطابقاً اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان الزراعة لم تعد تقدم فيه سوى 18 في المئة من الناتج القومي الاجمالي، ولا تحقق له اصلاً كفايته من الاستقلال الغذائي. اما من منظور الصناعة فان العالم العربي - الاسلامي يحتل موقعاً وسطاً بين العالمين الاميركي اللاتيني والآسيوي. فاذا كان العالم العربي - الاسلامي يقترب من اميركا اللاتينية بمعدله من استخدام اليد العاملة في قطاع الصناعة 24 في المئة، فانه بالمقابل يبتعد عنها لأن صناعته يغلب عليها الطابع الاستخراجي النفط ومشتقاته مقابل غلبة الطابع المعملي على الصناعة الاميركية اللاتينية. واجمالاً تقدر حصة الفرد الواحد من سكان العالم العربي - الاسلامي من القيمة المضافة الصناعية بنحو 300 دولار مقابل 400 دولار في اميركا اللاتينية و200 دولار في آسيا و100 دولار في افريقيا. اما من منظور ديموغرافي وثقافي فان العالم العربي - الاسلامي اقرب الى ان يكون آسيوياً، وحتى افريقياً، منه اميركياً لاتينياً. فمعدل خصوبة المرأة في العالم العربي - الاسلامي هو الاعلى في العالم بعد المعدل الافريقي، فعلى حين ان اميركا اللاتينية سيطرت تماماً او كادت على معدل نموها الديموغرافي، بتخفيضها خصوبة المرأة من 6 اطفال عام 1960 الى 3 اطفال عام 1997، فإن خصوبة المرأة في العالم العربي - الاسلامي ترتفع الى 6.4 اطفال، رغم ان اقطاراً بعينها مثل تونس قد نجحت اخيراً في مقاربة المستوى الاميركي اللاتيني. ويبدو ان ضبط النمو الديموغرافي مرتبط بمستوى تعليم المرأة. فاحصائيات العالم العربي - الاسلامي تشير الى ان خصوبة المرأة الامية ترتفع الى 1.6 طفل، وتنخفض في حالة المرأة التي تلقت تعليماً ابتدائياً الى 1.4 طفل، وفي حالة المرأة التي تلقت تعليماً ثانوياً الى 9.2 طفل. والمشكل الذي ينفرد العالم العربي - الاسلامي بمواجهته هو ان نسبة الامية بين الاناث هي ضعفها بين الذكور. واجمالاً، فان العالم العربي - الاسلامي لم يفلح في محو الامية في صفوف الراشدين الا بمعدل 60 في المئة، على حين ان اميركا اللاتينية قاربت المستوى الاوروبي 85 في المئة. وثالث عوالم العالم الثالث هو العالم الآسيوي. وهو عملاق ديموغرافي 3080 مليون نسمة، ولكن اقتصادياً، وكما يقول المثل الآسيوي، بقدمين من خزف. فعلى حين يرتفع الدخل الفردي السنوي في العالم الاميركي اللاتيني الى 5100 دولار، وفي العالم العربي - الاسلامي الى 4400 دولار بفضل الثروة النفطية جزئياً، فإنه لا يزال يراوح في العالم الآسيوي حول 2000 دولار. ولا يزال 60 في المئة من العاملين الآسيويين يعملون في قطاع الزراعة، وهذا معدل يكافئ المعدل الافريقي، ولكنه يزيد بمرتين على المعدل الاميركي اللاتيني. كما ان نسبة العاملين في القطاع الثالث لا تزيد على 22 في المئة، اي انها تقل بمرتين عن مثيلتها في العالمين الاميركي اللاتيني والعربي - الاسلامي. وكذلك الامر بالنسبة الى القيمة المضافة للصناعة الآسيوية التي لا تزيد عن 200 دولار للفرد مقابل 400 في اميركا اللاتينية و300 في العالم العربي - الاسلامي. ولكن هذه الصورة قد تتغير في مطلع القرن القادم اذا ما استمر عملاق آسيا الصيني يدلل على نفس الدينامية الاقتصادية التي دلل عليها في العقد الاخير من القرن العشرين. ومن هذا المنظور فان فرص العالم الآسيوي في التقدم تبدو اكبر من فرص العالم العربي - الاسلامي رغم ان واقع العالم العربي - الاسلامي اليوم اكثر تقدماً او اقل تخلفاً من واقع العالم الآسيوي. ودوماً من منظور مستقبل التقدم، فان العالم الآسيوي قد ربح من الآن الرهان الذي لا يزال خاسراً في العالم العربي - الاسلامي: ضبط النمو الديموغرافي وتخفيض خصوبة المرأة الى 1.3 طفل، وهو معدل يكافئ المعدل الاميركي اللاتيني. ولكن بقدر ما يبدو ان ثالث عوالم العالم الثالث قد احسن الانطلاق، فان جميع الدلائل تشير الى ان رابع عوالم العالم الثالث قد اساء الانطلاق. فافريقيا، وعلى التحديد افريقيا جنوبي الصحراء، تضرب جميع الارقام القياسية عكسياً. فهي الاولى في العالم من حيث قلة الدخل الفردي 1200 سنوياً، ومن حيث غلبة القطاع الزراعي والرعوي اكثر من 60 في المئة من اليد العاملة، ومن حيث ضعف الصناعة اقل من 10 في المئة من اليد العاملة، ومن حيث ارتفاع معدل الامية 60 في المئة وارتفاع معدل خصوبة المرأة 1.6 طفل، ومن حيث انخفاض الجراية الغذائية 2100 حريرة للفرد في اليوم مقابل 3000 في العالم العربي - الاسلامي و2750 في العالم الاميركي اللاتيني و2530 في العالم الآسيوي. والواقع انه كما تحطم بلدان جنوب شرقي آسيا مفهوم "العالم الثالث" ايجاباً، فان افريقيا جنوبي الصحراء تحطمه سلباً. فتلك لم تعد من العالم الثالث، وهذه ما صارت بعد من العالم الثالث. وباستثناء دولة جنوب افريقيا، فان افريقيا جنوبي الصحراء احق بالوصف بأنها عالم رابع او حتى خامس: فمعها يكف حتى مفهوم "العالم الثالث" الفائت اوانه عن ان يكون مطابقاً.