يختصر باتريك سيل، صاحب كتابين ذاع صيتهما في قراء العربية هما "الصراع على سورية" و"الصراع على الشرق الأوسط" والثاني هو سيرة سياسية للسيد حافظ الأسد، علل إخفاق المفاوضات بين سورية وبين الدولة العبرية، في 1996، في علة أساس هي سعي الرئيس السوري في تقليص نفوذ اسرائيل، وتقييد نازعها إلى العدوان والتوسع، من طريق الزامها سلاماً "شاملاً". فإذا التزمت الدولة العبرية، وهي إلى اليوم لم ترسم حدوداً نهائية لها، هذا السلام، وتقيدت بموجباته وتبعاته، جاز للدول العربية المجاورة وغير المجاورة، القبول بها بلداً "عادياً" من بلدان شرق أوسط عربي، في المرتبة الأولى، على ما يلح السيد عمرو موسى، وزير خارجية مصر منذ نحو عقد من السنين. ويذهب الكاتب البريطاني إلى أن سعي السياسة الإسرائيلية إلى نقيض الغاية السورية، أي إلى إرساء السلام الشامل على "التطبيع"، أو المطابعة وعلى علاقات "طبيعية" بين كيانات سياسية "طبيعية"، ينجم عنها "توسيع نطاق نفوذ إسرائيل إلى كل أرجاء العالم العربي" على قول سيل - حكم في المفاوضات بالإخفاق سلفاً. ويخلص المفاوض والسفير الإسرائيلي إلى المفاوضات مع سورية، إيتمار رابينوفيتش وهو من يورد الشاهد من مقالة باتريك سيل، المأذونة، في مقدمة كتابه "على شفير السلام، إسرائيل وسورية 1992 - 1996" بالعبرية، عن "النهار" اللبنانية، في 19 نيسان/ ابريل و26 منه 1999، إلى تعليل لدخول الرئيس السوري المفاوضات، ابتداءً، بعلمه، غداة الانهيار العراقي وحسم الصراع على لبنان وفي غضونهما تصدع الاتحاد السوفياتي، باستحالة استعادة سورية الجولان، وإنشاء علاقات ثابتة مع الولاياتالمتحدة الأميركية، من غير معاهدة سلام بين سورية وبين الدولة العبرية. ولعل الرأيين يتفقان على تشخيص واحد لوجه بارز، ومتدافع، من وجوه النهج السياسي السوري، أي سياسة الرئيس السوري أولاً وأخيراً، هو إرادة صانع هذه السياسة الجمع بين المحافظة على استقرار الحياة السياسية الداخلية وبين زيادة الموارد الاجتماعية والاقتصادية التي تؤهل الدولة للاضطلاع بدور فاعل وقوي وثابت في العلاقات الاقليمية. والحق أن الشق الأول من عمل الجمع هذا، وهو الاستقرار السياسي الداخلي، أنجز انجازاً تاماً على رغم تعثره، في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، بشقاق أهلي عميق. ويظن ساسة سورية، ويتابعهم سيل على حسبانهم، أن تعاظم دور سورية الإقليمي إنما شرطه ومقدمته كانا إرساء الاستقرار على قطع دابر المنازعة الداخلية وإخمادها من طريق لجم قواها المحتملة أو شلها والحؤول دون توالدها. ولكن إرساء الإستقرار الداخلي على قطع دابر المنازعة ربما كان السبب الأول في الإخفاق في الشق الثاني، وهو ما يتواضع بعضهم على تسميته بالتحديث أو الانفتاح، إذا استعيدت التسمية المصرية واستعيدت أصداؤها التبخيسية الحادة. فما زالت الموارد السورية، غداة ثلاثة عقود على تصريف غير مقيد للشؤون الداخلية كافة، ضعيفةً وتَبَعاً لمصادر غير مأمونة التجديد. وهذه الحال حملت بعض الصحف الفرنسية، في أثناء زيارة الرئيس السوري فرنسا، على وصف القوة السورية، الاقتصادية والعسكرية، بالثانوية. وذهب بعضها الآخر إلى جواز اجتناب التعامل مع سورية مباشرة من غير خسارة كبيرة، ومن غير أن تقوى القوة الذاتية السورية، مجردة من المساندة العربية الخليجية، على إيجاب التعامل معها. ويخالف هذا طموح السياسة السورية إلى الإضطلاع بدور اقتصادي عربي، لم يتستر نائب الرئيس السوري السيد عبدالحليم خدام عليه في مقابلة مع "الوسط". ويتعثر هذا الدور، اليوم، بعوامل منها ضيق سوق العمل والهجرة في بلدان الخليج منذ أوائل العقد، وضعف احتياط البلد من النفط، ودور تقلبات المناخ والمطر في الزراعة السورية ولا سيما في زراعتي القطن والحبوب. ومن هذه العوامل ضعف السوق الداخلية واقتصار دخل سبعين في المئة من اليد العاملة على أقل من مئة دولار أميركي في الشهر، وضعف الاستثمار في التجهيز والتخلف عنه، وغلبة الهيئات العامة واعتباراتها السياسية والاجتماعية والأمنية على الإنتاج والتبادل والتشريع، وثبات نسبة الأمية المعلنة على نحو أربعين في المئة من السكان "المدرسيين". ولما تراكمت مفاعيل هذه العوامل أدت، على زعم التقرير الأميركي السنوي، إلى خسارة الناتج الإجمالي الداخلي 4 في المئة في كل من سنتي 1997 و1998، على حين تبلغ زيادة السكان نسبة قياسية تقل عن 4 في المئة بقليل 8،3. فعندما يرى باتريك سيل أن النهج السياسي السوري، في المفاوضة على شروط السلام وفي غيرها، إنما يقوم على إرادة لجم القوة والتوسع الإسرائيليين، الإقليميين، وإدراج إسرائيل "معتدلة" القوة في إطار إقليمي متماسك ومتجانس فلا ينفرط عقده تحت وطأة الموارد الإسرائيلية، يترك الشق السوري، والعربي استطراداً، من غير تناول ولا تعيين. فقياس القوة لا يتناول القوة في نفسها وفي ذاتها، بل يضيفها وينسبها إلى القوى الأخرى المتعالقة والمتصلة. وعلى هذا فتقييد القوة الإسرائيلية لا يقتصر على المعاهدات والمواثيق السياسية والديبلوماسية، وعلى إلزامها حدوداً جغرافية وإقليمية لا تتعداها - وهي ينبغي أن تلزم هذه الحدود من غير شك. فالحدود المحكمة الإغلاق والتسوير، على المثال السوفياتي والشيوعي، لا تحول، ولم تحل يوماً، دون رحلة "الأظعان" والموارد اللغوية والذهنية والتقنية والسلعية والنقدية والبشرية. ولا يقيد هذه الرحلة القيودَ التي لا تمنع التجارة، على أعم معانيها، ولا تؤدي إلى عزلة الداخل وتآكله ويباسه على جذعه، غير غنى موارد الداخل الذاتية، وقوتها على استبقاء أهله، وبعثهم على الاستثمار فيه، والتعويل عليه. أما البناء على عزلة الداخل، والتمسك بها، فيخالف شروط إنشاء العلاقات الدولية، ويعرقلها، على ما يحصل في إطار الشراكة الأوروبية والمتوسطية، اليوم. والتعويل على الانخراط في التأطير الأميركي للعالم، ومناطقه، من غير مقابل اقتصادي مالي واجتماعي وتشريعي تنظيمي، يؤوله ساسة سورية تأويلاً سياسياً مباشراً، هذا التعويل وعلى هذه الشروط هو من باب التمني. أي ان تعاظم القوة السورية، على أي وجه قلِّب هذا التعاظم، يبدو محالاً ما لم يُنظر في شروط الاستقرار الداخلي نظراً جديداً. وقد يكون من غريب الأمور أن يعكف على النظر الجديد هذا، وعلى بلورته، بعض من قضت السلطات بسجنهم سنوات طويلة، وأخرجتهم منذ وقت قريب. ومن هؤلاء أكثم نعيسة، الناطق باسم منظمة الدفاع عن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان "ملحق" صحيفة "النهار" اللبنانية، في 8 أيار/ مايو الجاري. فنعيسة، وهو قضى ستة أعوام في السجن وخرج منه قبل شهرين، هو وأصحابه يقصرون "برنامجهم" على "تطبيق الدستور السوري الصادر في 1973"، وهو "شمل جزءاً كبيراً" من اتفاقات حقوق الإنسان الدولية والبروتوكول الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وهم يتوقعون من الموافقة العلنية والرسمية على نشاط منظمتهم "إضفاء سمة حضارية على وضع سورية" أو "المساهمة في إضفاء هذه السمة". ويأملون في عودة "المنفيين الطوعيين" - وهم "كوادر مهمة" تركوا بلدهم "لأسباب تتعلق بالرأي" - إلى وطنهم "للمشاركة في الحياة الاجتماعية. فأكثم نعيسة وأصحابه، أو من يرون رأيه، لا يديرون ظهورهم إلى "المصالح الوطنية العليا لسورية"، ولا يترددون في القبول بتعريف السلطات الحاكمة لهذه المصالح. وعليه أقدم هيثم منَّاع، ممثل منظمة الدفاع عن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان في الفيديرالية الدولية لحقوق الإنسان، على الإنسحاب من الفيديرالية التي تعد في المنتسبين اليها ممثلاً اسرائيلياً. ويتوقع المعتقل السابق، المطالب "بتطبيق القانون والدستور ووقف تجاوزهما"، أن تكون لاستجابة بلده "المتغيرات الدولية" و"العلاقات الدولية الجديدة" نتائج "تمس البنى الداخلية للتشكيلات الاجتماعية في بلدان المنطقة ... وجميع الحقول الاجتماعية فيها". فمهما كانت قدرة دول المنطقة الذاتية "على التمحور على الذات فهي لن تستطيع الخروج من الزمان والمكان الفيزيائيين اللذين فرضتهما هذه المتغيرات". فلماذا تستعمل دول المنطقة قدرتها الذاتية هذه في محاربة "مشروع ذي بعد وطني" يسهم "في زيادة اللحمة الوطنية"، على ما يزعم المحامي الخارج من الإعتقال إلى منزله باللاذقية، ويؤيد "مصالحها المستقبلية". وهو يجزم ب"ارتباط مهم وكبير بين التنمية والديموقراطية". فشرط التنمية "حركة داخلية نشيطة للمجتمع" تترتب على "اعتراف الأنظمة السياسية بوجود الآخر الذي يخالفها الرأي"، و"تداول السلطة"، وعلى "حال توازن في العلاقة بين المواطن وهذه الأنظمة ... وانسجام مع المعطيات الحضارية الحقيقية". ويُطمئن الناطق بإسم المنظمة السلطات المتحفظة إلى امتناع منظمات حقوق الإنسان من "الضغط على البلد الذي تنتمي اليه في أي معركة من معاركه الوطنية". ومهما كان الرأي في ما يذهب اليه نعيسة ومناع وأصحابهما، وهم يذهبون في أقوالهم مذهباً مألوفاً ومشهوراً ويحتجون لأقوالهم بحال الصين واضطرارها إلى مماشاة بعض الأحكام الدولية في الحقوق العامة، قد يتحفظ القارئ عن إغفالهم وجهاً آخر ملازماً للمنافع التي يتوقعونها من العمل ببرنامجهم. وهذا قريب من مذهب باتريك سيل ورأي رابينوفيتش، واغفالهما ما يترتب على السلام السوري الإسرائيلي من منافع في حال سيل ومضار في حال رابينوفيتش. فالإقرار بالمنازعة ركناً للعلاقات السياسية والاجتماعية، وبحقوق المتنازعين - وهذا جوهر حقوق الإنسان بما هي معيار دستوري - يجر إلى تقييد السلطة على الناس المواطنين، أي على حياتهم وأمنهم، في المرتبة الأولى، وعلى أملاكهم وآرائهم واجتماعهم وانتقالهم، في المرتبة التالية. وينبغي ألا تصور "الحركة الداخلية النشيطة للمجتمع"، على قول نعيسة، المتأتية من القيد على السلطة، في صورة زاهية الألوان لا يأتيها الخلاف من أمامها ولا من خلفها. وكذلك ينبغي ألا يُخلص إلى اتفاق حقوق الإنسان، وما تجره من كتل نقابية وسياسية وصحافية ومن بلورة مصالح منفصلة، مع "التنمية" و"الوحدة الوطنية" والسياسة الخارجية والإقليمية والدولية "القومية"، من غير بقية. بل إن الإقرار بالمنازعة السياسية والاجتماعية ركناً للعلاقات بين الأفراد والجماعات في الدولة والمجتمع هو عنوان الرشد وقسوته. فالمجتمعات التي تدير علاقاتها على المنازعة ترضى، من وجه آخر يلازم إقرارها هذا، الدخولَ في دوامة البحث الدائم والمضطرب عن حلول جزئية ومبتكرة، ولا مثال لها. فهذا الحال هو خلاف حال الاعتيال على "القيادة" التاريخية الملهمة أو على "الولي" العدل والكلي العلم. فليس جائزاً حمل حقوق الإنسان، والعمل بشرعتها، على الدواء الشافي كل الأمراض وأولها "مرض" السياسة. فهذا "المرض" يتفاقم أمره مع تسليط مبادئ حقوق الإنسان على السلطة، وعلى السلطات من بعد، وعلى المجتمع. وهو دعوة إلى إخراج المنازعة من طي الكتمان والخوف إلى ملأ الخلاف والمطارحة والتحكيم. ولا تقتصر هذه الدعوة على الحكم أو "النظام" السياسي وأهله وأصحابه، بل تعمّ الجماعات والهيئات الأهلية والمنظمات والحركات السياسية، وتتطاول إلى علاقاتها الداخلية. والأصلح ألا يُتستر على هذه الوجوه، ولا على نتائجها، على رغم عسر الأمر، والرد الفظ الذي يجبه الدعوة وهي على ما هي عليه، اليوم، من "ملائكية". فالجهر بشروط السلام وحقوق الإنسان، وبالنتائج المترتبة على إرساء الأول والعمل بالثانية، قد يكون سمة السياسة المدنية والراشدة، وقرينة على تحمل المجتمعات تبعاتها عن اختياراتها المصيرية. أما خلاف هذا فهو ولادة عصبية جديدة تضمن لأصحابها، لقاء تعصبهم، مجيء زمن تاريخي، عضوي، شأن الزمن الآفل، لا تنفك فيه البحبوحة من الوطنية، ولا السلم من الديموقراطية، ولا يَبين فيه الآتي من الماضي، ولا المتغيرات من الثوابت. * كاتب لبناني.