عادت القضية العراقية في الآونة الاخيرة لتحتل مكاناً بارزاً في مسرح الاحداث الدولية، بعد ان تصاعدت تصريحات المسؤولين العراقيين المحاطة بانذارات الخطر من احتمالات حدوث انعطاف حاسم في الوضع العراقي بالعلاقة مع واشنطن، اذ حذر الرئيس العراقي صدام حسين من اقتراب موعد المعركة الحاسمة مع الولاياتالمتحدة، وقال في رسالة موجهة الى الصفوف القيادية العليا في الحزب والدولة والجيش: "ان المعركة الحاسمة مع الولاياتالمتحدة ليست بعيدة"، ووعد بمواجهة مصيرية ستحسم لمصلحة العراق، مضيفاً "ان العراق سيواجه بعزيمة وقوة ورد ماحق سيذكر على مر التاريخ آخر المحاولات لاميركية لالحاق الاذى به". وقال: "ان معلومات مؤكدة وصلت الى القيادة عن تحركات عسكرية ستكون مرتكزاً لعدوان اميركي". ومهد لهذه الرسالة رئيس المجلس الوطني العراقي سعدون حمادي في تصريحاته عن "العدوان الاميركي المرتقب"، وكذلك نائب الرئيس طه ياسين رمضان الذي كان اكثر دقة من المسؤولين الآخرين كسعدون حمادي وعزت الدوري وطارق عزيز، حينما قال: "ان العراق يتوقع هجوماً اميركياً في اي لحظة". واضاف: "ان واشنطن ستدفع هذه المرة ثمناً باهظاً اذا هاجمت العراق". وقال: "نتوقع ان تقوم الولاياتالمتحدة في أي لحظة بتوجيه ضربة عسكرية مفاجئة الى العراق"، ولكنه اقترح في الوقت نفسه على واشنطن اجراء حوار متكافئ، ثم عاد للتذكير باستحالة ذلك لأن واشنطن لا تريد الحوار وانما تريد "اسقاط النظام في العراق". وربما تأتي هذه التوقعات ارتباطاً باستمرار العمل العسكري الاميركي ضد المواقع العراقية، في الوقت الذي كانت فيه معظم الآمال الرسمية العراقية تعتقد بأن اندلاع الحرب مع يوغوسلافيا قد يكون عاملاً جديداً من عوامل فك المواجهة بين العراقوالولاياتالمتحدة، لكن هذه التوقعات تبددت باصرار واشنطن الابقاء على حال التوتر مع العراق والجمع في ذات الوقت بين حربين، الانتهاء من واحدة منها يفتح الطريق لتصفية الثانية بصورة حاسمة، وهذا يعني في المقاييس الرسمية العراقية ان نهاية الحرب مع يوغوسلافيا لا بد ان تخلق المزيد من عناصر القوة لدى واشنطن، اضافة الى امكان توافر الظروف المناسبة للانتهاء كلياً من قضية النظام العراقي، ايفاءً بالتعهد الذي قطعته واشنطن على نفسها وعلى اطراف من المعارضة العراقية في التوجه الجدي لاطاحة النظام خلال الفترة حتى نهاية العام الجاري. فتحت الحرب مع يوغوسلافيا الطريق على مصراعيه امام واشنطن لاستكمال اي من سياساتها الاستراتيجية المؤجلة تجاه الدول الاخرى، بعد ان ادركت وبصورة جلية ردود الفعل الدولية المختلفة تجاه تحركاتها العسكرية او السياسية التي لا يمكن بأي حال من الاحوال ان تؤثر في سياق التوجه الاميركي لتنفيذ هذه الخطط، ومن هنا فان القضية العراقية التي ما تزال خيوطها الاساسية في يد الولاياتالمتحدة هي واحدة من ابرز القضايا المطروحة على جدول اعمال الادارة الاميركية التي تنتظر الحسم في المرحلة المقبلة. ويتوقع بعض قادة المعارضة العراقية، بأن تحدث مثل هذه المواجهة او الضربة الحاسمة، ولكنهم يربطون نجاحها بعمل ميداني او بري اذا كانت الغاية اطاحة النظام بصورة فعلية، وان القلق او الخوف الذي يلف المسؤولين العراقيين له ما يبرره في واقع الحال، لأن واشنطن اخذت في الآونة الاخيرة تركز على استكمال تجميع كل الاسباب القاضية بإحداث التغيير، لذلك فإن عملية الابقاء على حال التوتر مع بغداد، والاستمرار بقصف المواقع العراقية غايته الاساسية الابقاء على المشكلة قائمة، لكي يتسنى التفرغ لها كلياً بعد تصفية القضية اليوغوسلافية. وأشار أحد قادة المعارضة العراقية الى الضغوط المتواصلة التي يمارسها الكونغرس الاميركي على ادارة كلينتون للانتهاء من القضية العراقية طبقاً ل"قانون تحرير العراق". وكشف هذا المعارض ل"الحياة" النسخة الاصلية لرسالة الكونغرس الموجهة عبر وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت للادارة الاميركية، ويتساءل فيها عن مستوى الاداء الفعلي الذي قطعته الادارة في ما يتعلق "بقانون تحرير العراق"، وهذا التساؤل بطبيعة الحال لا بد ان يجد له ثمة جواباً رسمياً معززاً بالوقائع الملحوظة. غير ان معارضين عراقيين آخرين لا يتفقون مع فكرة حدوث مواجهة او ضربة اميركية مقبلة تؤدي الى اطاحة النظام، ويستندون بذلك الى جملة اعتبارات ومعطيات من الفترة الماضية والحالية، فضلاً عن محاولتهم تحليل موازين القوى في المنطقة انطلاقاً من اختلاف السياسات بين العراق ودول المنطقة من جهة وبين هذه الدول نفسها من جهة اخرى، وهذه الاختلافات التي تقبل الى حدود المواجهة في بعض الاحيان ترجح كفة الابقاء على النظام العراقي وعدم استبداله من قبل واشنطن بنظام آخر جديد، حلوله ربما يخلق شروط ازمة سياسية تؤثر على استراتيجية الولاياتالمتحدة في المنطقة. لذلك فإن إمكان الحوار الذي يطرحه طه ياسين رمضان مع مسحة من الخجل، ربما يكون جزءاً من اوليات التسوية المقبلة للقضية العراقية من خلال استجابة الطرفين للجلوس الى طاولة المفاوضات للانطلاق نحو اقامة علاقات مصالح اقتصادية وسياسية جديدة، علماً بأن واشنطن غير مهتمة بمن سيحكم العراق، وانما كيف سيتعامل هذا الحاكم مع مصالحها الحيوية في المنطقة. التوقع الاول الذي يفترض حدوث ضربة قاصمة لم يعط مزيداً من التفاصيل عن طبيعة هذه الضربة او آلية انجازها، فهل ستكون ضربة جوية شاملة ومركزة على اهم مواقع النظام العسكرية والسياسية وانتظار التحرك الشعبي العفوي الذي ربما تصاحبه تحركات بعض قطعات الجيش التي بامكانها ان تحسم الوضع لاحقاً ثم الاعلان عن اطاحة النظام وقيام نظام جديد. كل هذه الامور غير واضحة في الوقت الراهن، وربما يقتصر التوجه الاميركي على الضربات الجوية كما هي الحال بالنسبة ليوغوسلافيا، علماً ان الوضع العراقي لا يشبه الوضع اليوغوسلافي في اعتبار ان قطاعات واسعة من فئات الشعب العراقي وكذلك القوات المسلحة تعارض النظام الحالي وتنتظر اي فرصة مواتية ومضمونة لتوجيه قواها باتجاه ضرب النظام وتصفية مؤسساته ورموزه الحاكمة. وهذا الوضع غير موجود في يوغوسلافيا الصربية، لذلك فان الضربات الجوية الاميركية المركزة على المواقع العراقية في حال انطلاقها سوف تحرك القوى الداخلية للانقضاض على النظام متى ما شعرت هذه القوى بجدية واشنطن وجدية قرارها الحاسم. ويبدو ان خيار الضربات الجوية هو المرجح ما دام النهج الاميركي يتماشى بصورة شاملة مع اقحام القوى البرية في المعارك العسكرية مع دول تخفي امكانات عسكرية ربما تصل الى درجة الامكانات القادرة على الابادة الجماعية كأسلحة الدمار الشامل. والذي يؤكد ذلك المنهج، هو الطريقة التي تسير عليها قوات الاطلسي حالياً في هجومها المتواصل على يوغوسلافيا، حيث تتقلص استراتيجية زج القوات البرية التابعة للحلف وجلها قوات اميركية في هذه المعركة، مع ان واشنطن تدعي انها دمرت ما يزيد على ال50 في المئة من امكانات الجيش اليوغسلافي و70 في المئة من مصادر الوقود التي يعتمد عليها، فضلاً عن تعطيل قدراته الآلية على التحرك في الميدان البري، في حين ان الجيش العراقي ما زال يحتفظ بامكانات لا بأس بها في الميادين العسكرية المختلفة، لذلك فان اي ضربات اميركية مقبلة لاطاحة النظام سوف تركز على الضربات الجوية، مع تحريك قوى عراقية في الشمال والجنوب باتجاه التقدم نحو بغداد، او تشجيع قطعات عسكرية في المنطقة الوسطى وكذلك في المناطق الاخرى على التحرك باتجاه السيطرة على العاصمة العراقية وحسم الموقف كلياً، بذلك تستكمل خطة الاطاحة بالنظام عبر القوى العراقية وليس عبر الغزو البري الاميركي الذي يكون مكلفاً جداً للادارة الاميركية التي تسعى الى تجنب مخاطر الاطاحة بها بأي ثمن. اما التوقع الثاني الذي يعتمد فكرة الابقاء على النظام وتسوية المشكلة بالمصالحة مع واشنطن، فإنه يستند الى الانفراج النسبي في السياسة الاميركية تجاه الدول التي ادرجت في سجل الارهاب وتعرضت للحصار الاميركي سنوات طويلة، وهي ليبيا والسودان وايران، اذ اعلنت واشنطن تقليص الحصار على هذه الدول. وبالنسبة للعراق اعلنت واشنطن بأنها سوف توسع دائرة "النفط مقابل الغذاء" وانها اقرت اعفاء السلع او الحاجات الطبية والانسانية غير المدرجة في جداول الاممالمتحدة وكذلك معدات التصنيع الطبية والغذائية التي لا يمكن الاستفادة منها في تصنيع مواد اخرى، وبذلك أفسحت المجال امام الشركات الاميركية المنتجة لهذه السلع والمعدات من ابرام العديد من الصفقات التجارية مع العراق، وتوجد حالياً مجموعات من ممثلي الشركات الاميركية في بغداد لتوقيع اتفاقات تجارية. وكل هذه التطورات ربما تشير الى امكان حدوث انعطاف سلمي في العلاقة بين العراقوالولاياتالمتحدة، وان تصريحات المسؤولين العراقيين المشحونة بالقلق والخوف واشاراتهم الى توافر معلومات أكيدة "لعدوان اميركي" على العراق، انما هي مجرد تهويلات وزوبعة في فنجان، يراد منها تضليل الرأي العام اكثر من كونها تفصح عن حقيقة ماثلة. المواقف الاميركية تجاه العراق ما زالت غامضة، وان محاولات واشنطن للتحرك على المعارضة العراقية لا تكفي لايداع الثقة بتوجهاتها الحقيقية، فتجربة السنوات الماضية خير دليل على ان الادارة الاميركية لها استراتيجيتها غير المعلنة في ما يخص القضية العراقية، أما تصريحات بعض المسؤولين في البيت الابيض التي تتضارب في كثير من الاحيان مع بعضها ليست سوى تغطية للنوايا غير المعلنة. وعلينا ان ننتظر فترة اخرى لنتأكد من ان ما يقوله البيت الابيض عن الملف العراقي، ليس هو الحقيقة كلها وانما جزء يسير من هذه الحقيقة، أما الجزء الاكبر فهو غير معروف الى الآن. * كاتب وصحافي عراقي مقيم في لندن.