بدأت واشنطن اخيراً تلوّح بخيارالانقلاب العسكري لتغيير نظام الحكم في العراق بدلاً من الخيارات الاخرى التي سبق لها ان طرحتها في مناسبات عديدة سابقة. واطلق مساعد وزير الدفاع الاميركي والتر سلوكومب تصريحات اكد فيها بأن واشنطن تعمل من اجل خلق اوضاع سياسية وعسكرية تشجع حدوث تغيير ناجح للنظام في العراق، ثم اعقبه المنسق الاميركي لشؤون المعارضة العراقية فرانك ريتشياردوني قبل ايام بتصريح آخر مشابه قال فيه: "ان تغيير الحكم في العراق سيكون عبر انقلاب عسكري سيفاجيء الجميع". ترافقت هذه التصريحات مع تكثيف للحملات الجوية الاميركية لضرب المواقع العراقية في الجنوب والشمال، الامر الذي دفع الى الاعتقاد بان تصريحات المسؤولين الاميركيين في ما يتعلق بخيار الانقلاب العسكري ينسجم مع حملة اضعاف العراق عسكرياً من خلال الضربات المتتالية لمواقعه التي من شأنها ان تخلق وبشكل فعلي نوعاً من الانهيار العسكري وتضعف معنويات الجيش العراقي وتدفع بعض القادة الميدانيين او الذين يحيطون بمركز القرار في الحلقات العليا من المؤسسة العسكرية الى التحرك باتجاه قلب نظام الحكم انطلاقاً من الشعور بعجز النظام من مواجهة الوضع الشائك الذي تخلقه ظروف المواجهة العسكرية المستمرة مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا. بيد ان آراء اخرى تشكك في صدقية واشنطن لقلب نظام الحكم في العراق انطلاقاً من تصريحات بعض هؤلاء المسؤولين التي تشير الى عدم وجود البديل لشخص صدام حسين الذي يستطيع قيادة الوضع بعد اطاحة النظام. ومعنى ذلك ان المراهنة على البديل المجهول تصبح في حال التكهن الذي يثير المزيد من الاحتراز لدى واشنطن، فظروف الحرب الماضية مع الولاياتالمتحدة خلقت مرارة تفوق الحسابات في نفوس معظم العسكريين العراقيين على مختلف درجاتهم وليس فقط العسكريين المحيطين بالرئيس ونظامه، حيث تتصاعد النزعة العدائية في صفوف المؤسسة العسكرية العراقية ضد الولاياتالمتحدة، لتكون سبباً في نقمة هؤلاء العسكريين على النظام الحالي لا لانه يواصل حرب التحدي "الفارغ" ضد القوات الاميركية والبريطانية من خلال صد الهجمات الصاروخية، وانما لأنه حجَّمً ودمّر القدرات العسكرية العراقية في القيام بدور اكبر واوسع لمواجهة القوات الاميركية والبريطانية في ميادين قتالية أشمل. وهذا الامر ربما تدركه الولاياتالمتحدة جيداً، لكنها قد تعتمد فيما اذا حدث الانفجار وقادت الاوضاع الى تصدّر احد العسكريين مقاليد السلطة بدلاً من صدام على ما يتاح لها من فرص مستقبلية من تطوير تأثيرها على الوضع عموماً، لكنها في الظرف الملموس والراهن تفضل عدم المجازفة غير المضمونة في التعامل مع هذه القضية، ومن هنا فان بعض التصريحات يدخل في اطار آخر ربما يختلف عن المضمون الحقيقي او الهدف الرئيسي الذي تخطط له واشنطن، لذلك فان اي موقف اميركي ينبغي ان يؤخذ من اتجاهات مختلفة قطعاً. وانطلاقاً من فرضية الانقلاب العسكري الذي يركز عليه بعض المسؤولين حالياً، فان المعطيات تطرح جملة احتمالات، منها الاحتمال الذي يدخل في عداد المناورة ذات الطابع التخويفي للنظام، والغرض هو زعزعته وادخاله في دوامة من التصفيات لقواه ومسؤوليه ارتباطاً بعنصر الشك والاحتراز، ما يؤدي الى اضعافه لتسهيل عملية الاطاحة به. والاحتمال الآخر يندرج في صيغة اليقين، اي ان الاميركيين استطاعوا فعلاً اختراق الحلقات المؤثرة في السياسية العسكرية العراقية وكسبوا من وعدهم بالقيام بانقلاب عسكري وهذا الاحتمال ينبغي ان لا يستبعد انطلاقاً من التجارب الماضية حيث جرت اتصالات اميركية وبريطانية ببعض قادة الجيش العراقي بمساعدة معارضين لكنها انقطعت وتلاشت بعد ان تسربت معلومات عن هؤلاء العسكريين الى السلطات العراقية في وقت لاحق وتم اعدامهم جميعاً جماعة راجي التكريتي وغيرهم. والاحتمال الثالث يفترض ان الغرض من استخدام الدعوة لانقلاب عسكري تحمل مضامين سياسية اخرى تتعلق بمواصلة الضغط على النظام للانصياع لتطبيق القرارات الدولية وهو جزء من عملية احتواء النظام التي اعلنتها الولاياتالمتحدة منذ حرب الخليج والى الآن. هناك بطبيعة الحال رأي يقول بأن التعويل على الانقلاب العسكري واتخاذه وسيلة اعلامية مباشرة انما يراد منه تعليق الوضع الراهن على ما هو عليه الى أمد أبعد، اي ان الهدف منه هو اطالة عمر النظام بانتظار حدوث حركة عسكرية معادية له، وهذه الحركة ربما تستغرق بضعة سنوات، يكون فيها النظام استعاد موقعه في الاطارين العربي والدولي، او ربما قد تستطيع واشنطن خلال هذه السنوات فيما اذا بقي الوضع على ما هو عليه حالياً تحقيق احد اتجاهين، اما انها تقع على البديل المناسب الذي ينسجم مع توجهاتها، او انها تقتنع بالابقاء على صدام ونظامه كضمانة اكبر لمواجهة مطامع او سياسات بعض الدول الاقليمية كايران مثلاً. غير ان هناك من يعتقد بان الادارة الاميركية لا تسعى حالياً الى اطاحة صدام بقدر ما تسعى الى اعادة ترتيب المنطقة في اطار جديد يبدأ بترسيخ الانقسامات بهدف فصل كردستان العراق عن الوسط والجنوب. لذلك تركز القوات الجوية الاميركية على ضرب المواقع العسكرية في الشمال وخصوصاً المناطق المحاذية للجيب الكردي الآمن، اكثر مما تركز فيه على المناطق الجنوبية، وهي ربما توجه رسالة الى الاكراد وتركيا والنظام العراقي فحواها بأن حدود الامر الواقع اصبحت ضمن عملية التدويل، ولا يمكن التراجع عنها الا في اطار شروط محددة، وهذه الشروط تصل الى مستوى ترسيخ مضمون الدولة الكردية القائمة بذاتها في كردستان العراق. وهذا الأمر علّق عليه زعيم الاتحاد الديموقراطي الكردستاني جلال طالباني حين قال: "اننا نمارس حقاً صلاحيات دولة قائمة بذاتها، والذي ينقصنا فقط هو الاعتراف الدولي". ويقيناً ان هدف واشنطن فيما اذا ترسخ مضمون التقسيم ليس هدفاً انسانياً او قومياً يتعلق بالشعب الكردي وانما الغاية منه تفتيت الدولة العراقية لضمان عدم بروز مخاطر تهدد المصالح الاميركية والاسرائيلية مستقبلاً. بعض المعارضين العراقيين يفسرون اتجاه واشنطن لتبني وسيلة الانقلاب العسكري من منظار سياسي بحت، حيث يشيرون الى ان الادارة الاميركية اصبحت في موقف محرج امام الكونغرس فيما يتعلق بتطبيق قانون تحرير العراق، لذلك فان هذه الادارة اخذت في الآونة الاخيرة التي اعقبت صدور القانون تبحث عن وسائل اخرى تجنبها اسئلة الكونغرس وضغوطه، لذلك لجأت الى بعض اطراف المعارضة مؤكدة جديتها في ايجاد مخرج من الوضع الراهن، لكنها فشلت في اقناع الاطراف الاساسية ولم تحصل على التجاوب المطلوب، فبدأت تصرّح بأنها ستعتمد على القوى الفاعلة في الداخل، وحددت الاكراد بشقيهما والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية، ويبدو ان هذا المسعى لم يُكتب له النجاح خصوصاً بعد تصريحات السيد باقر الحكيم الذي اعتبر ان "قانون تحرير العراق" يتعارض مع توجهات المعارضة العراقية وامتنع عن القبول بالحصة المالية المخصصة للمعارضة، وكذلك تصريحات رئيس الحكومة الكردية السابق، عضو المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني فؤاد معصوم ل "الحياة" التي استخفّ فيها بالقانون واعتبره قانوناً اميركياً ذا طابع محلي لا يمكن تطبيقه على العراق، وكذلك الموقف الرافض الذي أبداه مسعود بارزاني رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني. كل هذه المواقف جعلت الادارة الاميركية تتراجع عن التمسك بمضون القانون فعوّضت عنه بطرح جديد لا تستطيع من خلاله ان تدفع ضمانات لأية جهة من الجهات وهو ما يتعلق باطروحة الانقلاب العسكري، فاذا سؤلت من الكونغرس فلديها اجوبة جاهزة حول هذا الامر، احدى اجزائها ترتبط بعملية القصف المتواصل للمواقع العراقية حيث تعتبر ان هذه العملية تدخل في اطار تهيئة الاجواء والمناخات المناسبة للقيام بانقلاب عسكري بدلاً من اختيار الوسائل الاخرى التي تثير بعض المخاطر لا فقط للعراق وانما للمنطقة بعمومها وهي منطقة حيوية للمصالح الاميركية. ان قضية الانقلاب العسكري من القضايا التي تطرحها المعارضة العراقية بيد ان تخمينات المعنيين بالشأن العراقي لا تستبعد الوسائل الاخرى، انطلاقاً من التجربة الماضية وخاصة انتفاضة آذار مارس 1991 والتحرك الاخير بعد اغتيال السيد محمد صادق الصدر. لذلك فان طبيعة التطورات المقبلة لا يمكن ان تحدد اطاراً واحداً معيناً، ومن هنا فان الولاياتالمتحدة لا تستطيع فهم الخصوصية العراقية بقدر ما تفهمها قوى المعارضة العراقية، اما التعويل المنفرد على انقلاب مقبل يقوم به ضابط او مجموعة ضباط فانه من الامور المتوقعة ولكن المشكلة ليست في الانقلاب وانما فيما سيترتب من سياسات اميركية تجاه العراق الجديد بعد اطاحة نظام صدام حسين، هذا هو الذي يجب على واشنطن ان تقوله للشعب العراقي، خصوصاً وان بعض المسؤولين الاميركيين اشار الى ان العقوبات الاقتصادية سوف تستمر حتى وان حصل انقلاب او حركة وسقط النظام وجاء بعده نظام آخر، لذلك فان هذه المسألة ربما تسبق من حيث التعبير عن المواقف الجديدة لواشنطن موضوع الانقلاب، لانها في المحصلة ستساعد على استيعاب امكان الاطاحة بالنظام لتخليص البلاد والشعب العراقي من الوضع الاقتصادي والمعاشي والانساني الراهن. * كاتب وصحافي عراقي مقيم في لندن