التحدي الذي تواجهه الولاياتالمتحدة في العراق لم يعد تحدياً مرتبطاً فقط بأمن الكويت أو بأمن المملكة العربية السعودية، بل أصبح أكثر ارتباطاً بالدور الاميركي في منطقة الخليج، وهو أكثر ارتباطاً بتوازن القوى بين الولاياتالمتحدة من جهة ودول مثل روسيا والصين وفرنسا من جهة اخرى. الصراع حول العراق أصبح يرمز للصراع بين الدول الكبرى وبين القوة الاميركية التي تشكل جزءاً من هذا العالم الذي تتعدد أقطابه. ولكن هذا الصراع يعكس في الوقت نفسه خلاف الدول الخليجية مع الكثير من التفاصيل في السياسة الاميركية، فهذه الدول التي كانت مع الحسم العسكري منذ عام 1991 وضد إبقاء جرح نازف حول العراق عنوانه الدائم: صدام حسين تجد في السياسة الاميركية غياباً في الوضوح، وفي الكثير من الاحيان تجد تفضيلاً للخيارات التي لا تأخذ المقياس الاقليمي في الاعتبار... والسؤال الأكبر اليوم في الولاياتالمتحدة، الى أين تسير السياسة الاميركية تجاه العراق؟ بداية، لا بد من توضيح طبيعة السياسة الاميركية تجاه العراق بعد تحرير الكويت وحتى العام 1998. فهذه السياسة كانت ناجحة في احتواء صدام موقتاً، بل كانت الإدارة الاميركية ترى في المشكلة العراقية مشكلة يمكن السيطرة عليها، كان الهدف الاميركي إبقاء صدام وايضاً ايران في حال احتواء، وإبقاء الاقليم الأوسع في حال اعتماد على الحماية الاميركية. السياسة الاميركية أمنت حماية للخليج بما يضمن عدم تحول صدام الى خطر مباشر، وحققت في الوقت نفسه احتواء للعراق اعتبرته غير مكلف، وتم في الوقت نفسه منع روسيا وفرنسا من استثمار محاولات رفع العقوبات عن العراق. في هذا كانت المكاسب الاميركية أكبر من الخسائر. لكن الرئيس العراقي بدأ يسعى للتخلص من هذه المعادلة بطريقة تتناسب وأسلوب حكمه وطبيعة نظامه القائم على ردود الفعل ومواجهة كل شيء دفعة واحدة، هكذا بدأت الأزمات تتحرك واحدة وراء أخرى الى ان تخلص العراق من فرق التفتيش، ولكن بعدما دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً لهذا. والآن يحاول العراق التخلص من منطقة الحظر الجوي، ولكن في ظل ثمن أكبر منه. لذا تجد السياسة الاميركية انها أمام إصرار عراقي على التخلص من كل القرارات الدولية من دون ان يقوم العراق من جانبه بالتعاون في تطبيق هذه القرارات، مما يعود ويعمق من الأزمات ويزيد من حدة العقوبات أو المواجهات التي تضر العراق والشعب العراقي. بمعنى آخر بدأت الإدارة الاميركية ترى ان صدام يعمل بقوة باتجاه العودة الى الوضع الذي كان سائداً قبل الثاني من آب اغسطس 1990، وانه يعتقد وفي هذا الكثير من سوء التقدير بإمكانية استعادته النفوذ والدور والسيطرة التي كانت لديه قبل الثاني من آب والتي سمحت له بالأساس باحتلال الكويت وتهديد دول الخليج. ونتيجة هذا الوضع يتحول الشأن العراقي الى قضية اميركية داخلية، فالإعلام والصحافة والكونغرس والبيت الأبيض ينظرون للعراق كقضية بدأت تمس الأمن القومي الاميركي بدرجة أكبر من السابق. وعلى هدي المواجهات العسكرية فوق منطقة الحظر الجوي وفي ظل استمرار المشكلة نجد ان الميزان العام في الإدارة الاميركية وفي أروقة صنع القرار بدأ يميل لصالح التعامل مع المشكلة العراقية بطريقة جديدة فيها درجة أكبر من المواجهة... وقد شكل اعلان الرئيس الاميركي في تشرين الثاني نوفمبر الماضي بأن الولاياتالمتحدة تسعى الى اطاحة صدام، ثم قيام الرئيس بالتوقيع على قرار الكونغرس القاضي بتوفير مبلغ 97 مليون دولار لدعم المعارضة العراقية سبعة فصائل بأسلحة ومعدات عسكرية في اطار السعي لعمل انتفاضة في العراق أحد أهم التعبيرات عن هذه السياسة الجديدة. وقد جاء تعيين الإدارة الاميركية لمنسق لشؤون العراق، والذي يعتبر نفسه منسقاً لشؤون الانتقال في العراق لصالح توجه يرى في المسألة العراقية أمراً أكثر إلحاحاً. وهذا الأمر يدفع الادارة الآن للبحث في سبل تقوية وضع المناطق الكردية والعمل على اعطاء الشمال صفة الحماية بشكل حقيقي من أي هجوم عراقي، بمعنى آخر هناك مزيد من الجدية باتجاه العامل مع الوضع العرقي. هذا ما يبدو على سطح الحدث اليوم. ولكن من جهة اخرى يواجه هذا التوجه الذي تتبناه الإدارة الاميركية الكثير من الانتقادات والمعوقات. بل تشكل تصريحات انطوني زيني قائد القوات الاميركية في المنطقة الوسطى تعبيراً عن هذا النقد. اذ اعتبر زيني ان المعارضة ضعيفة وان فكرة تسليحها وتدريبها كما يؤكد قرار الكونغرس تتطلب دوراً كبيراً للجيش الاميركي، وان هذا قد يضع الجيش الاميركي في ظروف صعبة تتطلب دعماً جوياً وربما برياً للمعار ضة لحمايتها من قوات النظام. ووفق زيني ان هذا الطريق ليس مضموناً من حيث النجاح، بل قد يمهد لفشل لا يقل عن فشل اميركا في كوبا في عملية خليج الخنازير... هذا الرأي بشكل عام هو رأي المؤسسة العسكرية الاميركية التي تحرص على القيام بمهمات يمكن تنفيذها بأقل خسائر ممكنة ووسط أكبر الفرص للنجاح. لكن الأمر الذي يزيد المسألة صعوبة في ذهن المؤسسة العسكرية الاميركية ان دول المنطقة ليست مستعدة لتأمين قاعدة للمعارضة خصوصاً ان الصراع من الخارج قد لا يؤدي الا الى مزيد من الاستنزاف، بل نجد ان الكويت التي تلتزم بترسيم حدودها ليست تواقة لانتهاك هذه الحدود المعترف بها دولياً. كما ان الأتراك لا يؤيدون فكرة تحويل الشمال الى قاعدة تساهم في تسليح وتدريب وتقوية الأكراد مما قد يساهم في نهاية المطاف بنشوء دولة كردية، أما الأكراد فهم مترددون في الدخول في هذا السيناريو الجديد وذلك بعد تجاربهم السابقة والمؤلمة مع النظام وضرباته ضدهم، كما انه ليس سراً ان الاكراد لا يثقون بالإدارة الاميركية بعد تخليها عن حمايتهم في ظروف شبيهة في السابق وعلى الأخص بعد انتفاضة 1991، ثم عدوان العراق على أحد فصائل الأكراد وتحالفه مع آخر في آب 1996. ويفضل الأكراد استغلال ضعف النظام والضغوط عليه لكسب الوقت وخلق واقع عدم اعتداء بين الطرفين. لنتذكر ان لكلا الفصيلين علاقات وممثلين في بغداد. ويزيد من أزمة الثقة بين المعارضة والولاياتالمتحدة ان الادارة الاميركية على الأقل بلسان انطوني زيني قائد المنطقة الوسطى ما زالت ترى بأن نجاح الأكراد أو الشيعة في اسقاط صدام سيفتح المجال لتقسيم العراق أو لفوضى تصعب السيطرة عليها. لقد بقي التفكير الرسمي الأميركي وهو لا يزال يعمل في اطار "انقلاب سني" يغير الرئيس العراقي برئيس آخر يمكن التعامل معه. بمعنى آخر هناك تخوف من اللعب بالتوازن الاقليمي والوضع العراقي الأوسع بحيث ينفتح صندوق البلقنة والتقسيم مع احتمال ان يجر دول المنطقة وينعكس عليها قوة أو ضعفاً. لهذا فإن دعم المعارضة العراقية وتدريبها كما تطرحه الادارة الآن قد يتحول الى ورقة ضغط بعيدة الأمد أو حتى متوسطة الأمد أكثر منها ورقة تغيير جدية تهيئ لجهد حقيقي لإسقاط النظام العراقي. وتعي الإدارة الاميركية جيداً بأن دول المنطقة تخشى التورط في تغيير نظام عربي لخشيتها من تحول ذلك الى سابقة تسمح لأطراف اخرى بالتدخل في شؤونها وتغيير انظمتها. لكن الأهم انه لدى الدول العربية المحيطة بالعراق تصورات متناقضة بخصوص شخصية ونوعية القادم الجديد في العراق. فبالنسبة لسورية يجب ان يكون الضابط الجديد معادياً لاسرائيل وخارجاً عن السيطرة الاميركية أو التركية، وذلك لئلا يكتمل الطوق على سورية في التحالف التركي - الاسرائيلي. لهذا بغياب ضباط بهذه المواصفات يبقى صدام حسين أقل الشرور. أما بالنسبة الى تركيا، فتخشى من ان يكون القادم الجديد ضعيفاً بحيث يفشل في احتواء الأكراد، فبغياب ضابط آخر قوي يبقى صدام هو أقل الشرور بالنسبة لتركيا. بل ان صدام مفيد لتركيا لأن الضغط الدولي عليه يبقي العراق ضعيفاً. أما ايران فهي بالتأكيد تريد ضابطاً يختلف عن ذلك الذي تريده الولاياتالمتحدة: أي ضابط يؤمن بعلاقة ايجابية وقريبة من ايران، ولكنها لا تريد ضابطاً ذا توجهات غربية تجعل من العراق نقطة اهتمام اميركية، لهذا في غياب هذا الضابط ستبقى ايران تفضل الأمر الراهن في العراق، وترفض في الوقت نفسه التدخل الاجنبي خوفاً من مجيء ضابط أو حكم غربي الميول يكمل الطوق على ايران. في كل بلد من الدول التي تحيط بالعراق تختلف مواصفات "الضابط" المطلوب. من جهة أخرى، هناك رأي يتردد في أوساط اميركية عدة مفاده ان الادارة الاميركية لا يمكن ان تكون جادة في التغيير في العراق. فالذي يريد ان يسقط نظاماً يسقطه من دون ان يعلن ذلك ومن دون ان يحولهالى لخطاب رسمي، بل ان الإسقاط يجب ان يكون سياسة غير معلنة. وقد أكدت الإدارة الاميركية في أكثر من مجال للكونغرس ان سعيها لتغيير النظام في العراق هو عمل "بعيد الأمد" وانه ليس عملاً تقوم به الادارة في المدى المنظور. هذا الأمر بحد ذاته يجعل الإدارة في حل من أية التزامات مباشرة في التغيير. وهذا يعيد الأمور الى المدى البعيد كما كان الأمر مع الاتحاد السوفياتي وكما هو مع كوبا منذ الستينات وكوريا الشمالية منذ الخمسينات. ومع ذلك تعج العاصمة الاميركية بالأفكار، لكنها لا تعج بالخطط في كيفية الوصول الى هدف "الإسقاط". ولكن الواضح ان الأمر سيأخذ وقتاً، وان أزمات قادمة على الطريق سيثيرها الرئيس العراقي اذا وجد الأمر مناسباً له، كما ان السياسة الاميركية ستجد انها تقوم بأعمال عسكرية اكبر نسبياً من "ثعلب الصحراء" وقد يساهم هذا في الاسقاط، لكنه قد يساهم في تقوية النظام ويزيد من دمويته الداخلية. ولكن على كل الاحوال فإن ميزان السياسة الاميركية تجاه العراق بدأ يتجه نحو مزيد من التصلب والمواجهة، وسيزداد هذا الخط تصلباً مع ازدياد المواجهات، وستجد الولاياتالمتحدة ان دورها الدولي ومستقبل وضعها كدولة كبرى مرتبط بتحقيق تقدم حقيقي في مواجهة الرئيس العراقي. لكن ستجد الولاياتالمتحدة ان الوقت ايضاً لا يعمل لصالحها وان المرحلة القادمة حاسمة وذلك لأن دول المنطقة لن تتحمل صراعاً متكرراً ينقصه الحسم. لهذا تدخل السياسة الاميركية تجاه العراق في مفترق طرق، وما الصراع حول منطقة الحظر الجوي والاشتباكات هناك إلا شراء للوقت. لهذا يصبح التساؤل المشروع: هل شعار الإسقاط قابل للتحول الى ورقة تستخدم للضغط على النظام العراقي لإعادة فرق التفتيش وللعودة الى الرقابة؟ بمعنى آخر، يبدو ان الصراع السياسي يدور حول عدم استعداد الولاياتالمتحدة لتأهيل صدام حسين الا في أضيق نطاق والوقوف بقوة في علاقاتها الدولية ضد هذه الامكانية. ويترافق هذا مع التمسك في مجلس الأمن بعودة فرق التفتيش بشكل جديد الى العراق لقاء إمكان رفع السقف الخاص بانتاج النفط وتخفيف العقوبات على العراق... ان الاساس في اللعبة السياسية حول العراق: هو اذعان النظام للقرارات الدولية بأكثر مما هو سياسة اسقاط حاسمة. بمعنى آخر: لا يوجد تعريف لمعنى "الاسقاط" في القاموس الاميركي، كما ان ورقة الاسقاط ليست بيد الإدارة الاميركية الآن، بل نجد ان ورقة الاسقاط هي بيد الظروف، وذلك لأن الإسقاط قد يتم في أي وقت وقد لا يتم البته، ولأنه عامل مبهم يتعلق بالوضع العراقي الداخلي كما هي الحال في أي مكان في العالم، بل قد يسقط الرئيس العراقي من جراء حادث سير بسيط، وفي هذا يكون شعار الإسقاط عنصر ضغط في ظل صراع لا نهاية واضحة له حتى الآن. * استاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت، حالياً مدير المركز الاعلامي الكويتي في واشنطن