يجدر بالعراق التدقيق في خلفيات ومقومات السابقة التي حققتها ليبيا في كونها اول دولة عربية تتخلص من عقوبات اقتصادية فرضها عليها مجلس الأمن الدولي لسبع سنوات. وأول ما في وسع بغداد التمعن فيه هو كيف ان طرابلس صقلت وهذّبت ثقة البيئة الاقليمية بها وبنواياها لمواجهة تسلط اميركي - بريطاني عليها وعلى مجلس الأمن، فتمكنت كدولة "منبوذة"، في القاموس الاميركي والبريطاني، من فرض التراجع على واشنطن ولندن. وأدى هذا الى اختراق تاريخي لم يأت على ليبيا بانقلاب على عزلها وتلطيخ سمعتها فحسب، وانما سجّل لها انجاز تعزيز المنظمات والمجموعات الاقليمية على الساحة الدولية، في مواجهة مجلس الأمن بالذات، اضافة الى انجاز المساهمة في تقوية الامانة العامة للأمم المتحدة والأمين العام بشكل خاص. فسمعة الاعتباطية والمزاجية واللاجدية والبهلوانية التي التصقت بطرابلس، بحق او بباطل، سقطت في تعاملها مع ملف "لوكربي" باستراتيجية متكاملة، فيما البراعة العراقية في التكتيك ما زالت سيدة القرار القاصر عن التفكير الاستراتيجي الضروري لخلاص العراق من العقوبات. ظروف فرض العقوبات وشروطها على كل من العراق وليبيا مختلفة تماماً. والأهداف وراء فرضها متباينة باعتبار ان العراق اساسي في العمق الاستراتيجي العربي في شتى المعادلات، بينما ليبيا، بالمقارنة، اقل اهمية ان لم تكن هامشية. هذا لا ينفي ان مدى العزم الاميركي على عزل و"تحقير" النظامين في بغدادوطرابلس كاد يكون متساوياً من خلال تصوير الرئيس العراقي صدام حسين بأنه "هتلر" الشرق الأوسط ومن خلال تصوير الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي بأنه "الأهبل الخطير" الذي يحتضن "الارهاب" ويسوقه. ففي الذهن الاميركي تم تقليص العراق الى صدام كما تم تقليص ليبيا الى قذافي. وكلاهما في الاستراتيجية الاميركية "منبوذ"، احدهما من خلال التذكير الدائم بوجوده، والآخر من خلال اهماله عمداً. الاختلاف الآخر كان في نوعية العقوبات وشروط رفعها كما في ظروف تطبيقها. فمجلس الأمن فرض العقوبات الاقتصادية الشاملة على العراق بعد غزوه الكويت وأدرج في القرار 687 شروط رفعها بوضوح في الفقرة 22 التي ربطت بين شهادة اللجنة الخاصة المكلفة ازالة الأسلحة المحظورة اونسكوم بنظافة سجل العراق من الاسلحة المحظورة وبين رفع الحظر النفطي، فيما عالجت فقرات اخرى من القرار وسائل رفع العقوبات الاقتصادية الاخرى. في حال ليبيا، تبنى المجلس قرار فرض العقوبات على اساس الاشتباه بتورط ليبيين في تفجير طائرة "بان اميركان" فوق لوكربي وترك ظروف رفع العقوبات عائمة في القرارات الأولية تحت عنوان "التوقف عن دعم الارهاب ونبذه". ولم تحدد ظروف تعليق العقوبات ورفعها الا السنة الماضية في القرار 1192 الذي جاء في اعقاب الحملة الليبية المنظمة في استراتيجية الخلاص من العقوبات. وعليه، كان اسهل على العراق الخلاص من العقوبات نظراً لوضوح شروط رفعها في القرارات، فيما كان اصعب بكثير على ليبيا ازالتها تماماً بسبب الغموض المتعمد. اما العزم السياسي على احباط محاولات ازالة او تخفيف العقوبات عن ليبيا او عن العراق فقد كان في المستوى ذاته. ما حدث، باختصار، ان بغداد تبنت اسلوب "التنقيط" ملبية طلباً بعد الآخر بدون الاستفادة من زخم المبادرة. تصرفت على أساس الانفعالية فوقعت تكراراً في فخ تلو الآخر ولبت شروط بقاء العقوبات. نجحت في التكتيك وفشلت في الاستراتيجية. بالمقارنة، ادركت طرابلس ان نمط التحدي والانفعالية لن يفيدها ولن يؤدي الى ازالة العقوبات فاعتمدت بدلاً العمل المنهجي المؤسس على تحديد الاهداف، والوضوح في الوسائل والأساليب، والقدرة في تهذيب الادوات، وتوقفت قبل سنتين عن العمل العفوي أو المزاجي. وكان ذلك في منتصف عام 1997. وضعت استراتيجية قوامها اميركياً تجنب المواجهة مع الولاياتالمتحدة وتحديد تسع نقاط للتعامل مع الموقف الاميركي في قضية "لوكربي" استخدمت جميعها شملت الاتصال غير المباشر مع المسؤولين الاميركيين، واتصالات مباشرة مع ذوي المصالح في ليبيا، اما لاحياء الحماسة او لفتح الشهية. والى جانب العمل مع منظمات ذات اهمية سياسية وشخصيات سياسية اميركية، وضعت خطة عمل مع اسر الضحايا ومع الاعلام، وجُنّد القانونيون في استشارات قانونية اساسية. مع بريطانيا، وُضعت استراتيجية من خمس نقاط. مع فرنسا نُفذت استراتيجية ابعادها عن ملف "لوكربي" وتقنين العمل معها في معالجة قضية طائرة يو تي آي UTA التي انفجرت فوق صحراء النيجر واتهمت ليبيا بالتورط فيها. مع الصين استمر العزم على ابقائها في الصورة دون معاملتها وكأنها طرف هامشي. ومع روسيا تم العمل على مفاهيم متعددة بدءاً من حسابات الأرباح والخسائر والاسواق وانتهاء بتطوير الدور الروسي واستعادته نفوذه في المنطقة. ولم تتجاهل الاستراتيجية الليبية الدول غير الدائمة الاعضاء في مجلس الأمن فوجدت لكل مدخله، اما لكسبه او لتحييده. وكان الأساس الواضح تجنب الاستفزاز. انما الأهم في الاستراتيجية الليبية كان في انطلاقها من بيئتها ومحيطها فتوجهت الى المجموعات الاقليمية التي تنتمي اليها، وهي منظمة الوحدة الافريقية، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، ومجموعة عدم الانحياز. وبناء على سوابق، قررت الديبلوماسية الليبية ان المجموعة الافريقية هي المرشحة للعب دور اكبر من غيرها من المجموعات الاقليمية. فبدأت في صقل وتهذيب العلاقات بكثير من الصبر والشرح والاهتمام والجهد، وبقليل من الانفاق. العام الماضي بدأت النتائج الملموسة للاستثمار الليبي المتماسك والمنهجي. في شباط فبراير صدرت احكام محكمة العدل الدولية. وفي آذار مارس كسرت ليبيا حلقة الجمود في مجلس الأمن وعقدت جلسة علنية مفتوحة. وفي نيسان ابريل تبنى وزراء خارجية عدم الانحياز في كارتاخينا مواقف دعمت ليبيا وأغضبت الولاياتالمتحدة. وفي حزيران يونيو جاءت القمة الافريقية في واغادوغو بانذار مجلس الأمن بأن خضوعه للمواقف الاميركية والبريطانية في شأن ازمة "لوكربي" سيضطر دول القارة الى وقف الامتثال لنظام العقوبات المفروضة على ليبيا. وحددت القمة التاريخية المواعيد والاجراءات الجريئة، فأطلقت زوبعة ارعبت واشنطن ولندن واضطرت بهما الى التراجع. فقد كان امامهما اما خيار المرونة والموافقة على اجراء محاكمة المشتبه في تورطهما بعملية لوكربي في دولة ثالثة، او التفرج عن تقويض جماعي لقرارات مجلس الأمن وهيبته ونفوذه وسلطته بقرار قمة ل52 دولة افريقية، كان متوقعاً ان يلقى دعم 140 دولة في حركة عدم الانحياز، لولا الاستدراك. كذلك ان قمة واغادوغو بعثت الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان رسالة فحواها ان له دور وعليه واجب ليس فقط بموجب قرارات مجلس الأمن وانما ايضاً امام قرارات قمة اقليمية فتحرك. تحرك أولاً من خلال وكيله للشؤون القانونية، هانز كوريل، الذي توصل مع السلطات القانونية الليبية الى اجراءات عملية مفصلة في شأن محاكمة المشتبه فيهما وكيفية نقلهما الى هولندا للمثول امام محكمة بموجب القضاء الاسكوتلندي، وتحرك ثانياً بزيارته الى ليبيا اواخر السنة الماضية للقاء العقيد معمر القذافي. ما اخذه كوفي انان معه الى ليبيا شمل تأكيدات من وزير الخارجية البريطانية، روبن كوك بأنه ليس لدى بريطانيا غايات سياسية، كما اخذ معه تفاهمات واضحة في شأن الحلول والضمانات. فهو لم يذهب الى ليبيا فارغ الأيادي ولم يغادرها بأيادٍ فارغة. فليبيا جمعت بينه وبين مانديلا، وعلى ذلك الأساس، بدأ التنسيق الفاعل والفعّال. مساهمة المملكة العربية السعودية ايضاً جاءت بتنسيق دقيق مع مانديلا، والمبعوث السعودي الامير بندر بن سلطان كان في جنوب افريقيا لدى زيارة الرئيس بيل كلينتون عام 1998 وزار ليبيا برّاً سبع مرات في وساطة مشتركة مع مبعوث مانديلا. فالحلقة العربية كانت بدورها اساسية ورئيسية في تشييد طرابلس للحزام الاقليمي، والمملكة العربية السعودية لعبت دوراً مهماً سيما ان ليبيا في تلك الفترة كانت مستاءة من "تقاعس" عربي مقارنة مع الجرأة الافريقية في دعمها، كما كانت الثقة الليبية بالدور المصري تراجعت كثيراً. المهم ان الاستياء وخيبة الأمل لم تؤد بطرابلس الى طلاق بيئتها ومحيطها العربي الاستراتيجية الليبية اعتمدت على القاعدة الاقليمية اساساً ضرورياً لاستراتيجيتها. وهذا ما تفتقده بغداد. تلك الأرضية الضرورية المتمثلة في دعم المحيط المباشر للعراق والتي تتطلب نقلة نوعية في الخطاب السياسي كما في صقل العلاقات ثنائياً وفي اطار المجموعات والمنظمات الاقليمية. فالعلاقة الجيدة مع الصينوروسياوفرنسا بصفتها دول دائمة العضوية في مجلس الأمن ليست المفتاح الى رفع العقوبات. المفاتيح تشمل تطبيع العلاقة في البيئة المحلية والمحيط العربي، تشمل الاستفادة من افراد ودول ذات نفوذ مميز، تشمل البناء على مثل مبادرة كوفي انان بزيارته الشهيرة الى بغداد، تشمل تقوية الاصدقاء بزخم المبادرة. ففرنساوروسيا ليستا اقل حماسة لتحقيق انجاز في ملف العراق مما كانتا عليه نحو ملف ليبيا. الفارق ان طرابلس ساعدتهما في لعب دور حقق انجازات، فيما بغداد تتركهما تكراراً في حال احباط واخفاق بسبب نمط التصعيد والمكابرة. كذلك في ما يخص بريطانيا، طرابلس استفادت من الانفتاح الجديد في السياسة البريطانية بينما بغداد تجاهلت كل المؤشرات على المرونة والاهتمام بصيغ توفيقية. طرابلس تعمدت تجنب الاستفزاز كي لا تقع مواجهة مع الولاياتالمتحدة، فيما بغداد اعتمدت الاستفزاز والمواجهة اساساً في علاقتها مع واشنطن. طرابلس احبطت وأفشلت الغايات الاميركية السيئة نحوها، وبغداد انجحتها ووفرت لها الذرائع والادوات. وفيما حققت الديبلوماسية الليبية سابقة انجاز تاريخي لليبيا والمنظمات الاقليمية والأمم المتحدة دلقت بغداد القدرات الديبلوماسية العراقية الهائلة على رصيف ضيق في طريق مسدود.