فعل علي سالم، في مقالته "حكماء المشروع القومي والمثقف الشمولي كطبيب" المنشورة في صفحة "أفكار" في 29 آذار مارس 1999، مثل ما يفعله المثقف الشمولي الذي كتبت المقالة لهجائه. فمن أهم سمات هذا المثقف، فضلا عما ذكره علي سالم، أنه انتقائي. فإذا كتب أو تحدث اختار ما ينسجم مع موقفه أو دعوته، واستبعد ما يتعارض مع وجهة نظره، وهرب مما يهدم أفكاره أو يقوضها. فهو لا يناقش الظاهرة، أي ظاهرة يتعاطى معها، من جوانبها المختلفة لأنه ليس مستعداً لمراجعة أي من أفكاره أو مواقفه. ولذلك فهو ينتقي ويأخذ ما يروق له ويترك ما ينفر منه، من دون ان يشعر بأنه فعل إثما أو أتى عيبا. ولكن هذه السمة ليست مقصورة على المثقف الشمولي. فهى ملازمة لكثرة كثير من المثقفين العرب، بدليل أنها لا تنقص علي سالم الذي لا يعتبر شموليا. ولكنه انتقى المثقف الشمولي ليحمله المسؤولية كاملة عن تردي الفكر العربي، على رغم ان هذه مسؤولية موزّعة على المثقفين العرب عموماً كلّ بمقدار. وربما يجوز القول، فضلا عن ذلك، إن مسؤولية المثقف الشمولي تاريخية اكثر منها راهنة، بدليل ان الكاتب نفسه دعا الى تنظيف ادراج المكاتب من التعبيرات التي تركها اصحابها ورحلوا. وهذه دعوة نتفق معه عليها، ولكن نتمنى ايضا تنظيف اللغة السائدة الآن من تعبيرات أخرى لم يرحل اصحابها ممن يمكن ان نسميهم مثقفي السلطة الواقفين على أعتابها. فإذا كان إرث المثقف الشمولي يمثل عبئاً على الفكر العربي، وهو كذلك فعلا، فهو لا يقارن حجما - على الأقل الا بالاثر الفادح الذي يترتب على خطاب وممارسات مثقفي السلطة. ولكن علي سالم وقف عند المثقف الشمولي فحسب بسبب خصومته معه على خلفية قضية التطبيع مع اسرائيل. وهذه قضية اتخذ علي سالم فيها موقفاً معروفا عرَّضه الى انتقادات واسعة. ولكن ما صدر عمن يدخلون في دائرة المثقف الشمولي تجاوز الانتقاد وتخطى كل حدود الاختلاف في الرأي، ووصل الى أعلى ذرى التجريح الشخصي. وهذا مرض عضال يعاني منه المجتمع العربي كله وليس فقط مثقفوه، ناهيك من أن يكون مقصوراً على ضعف منهم. ولذلك يبدو لي التركيز على آفات المثقف الشمولي، وغض النظر عن غيره، بمثابة انتقاء غير موفق إذا كان الغرض منه هو اثارة أزمة الفكر والثقافة في عالمنا العربي الراهن. فهذا مدخل جزئي بل وحتى يتعلق بالجزء الاقل اهمية. ولا يرجع ذلك الى ان الفكر الشمولي قليل الخطر، وانما الى كونه محدود التأثير الآن. فقد صار خطابه مفارقاً للواقع الى الحد الذي يجعل عسيرا على الاجيال الصاعدة الالتفات اليه. كما ان جانباً من هذا الخطاب صار مثيرا للاشفاق حيناً وباعثاً على الضحك حيناً اخر. اما الجزء الاكثر اهمية وخطرا فهو الخاص بمثقف السلطة الذي لا يطرح حلولا خاطئة لمشاكلنا، وانما يبحث عن حل لمشكلته هو، عبر الاقتراب من اروقة الحكم بأي وسيلة ساعياً الى بيع ما غلا ثمنه بأبخس الاثمان. فهو مستعد لأن يفعل أي شيء وكل شيء كي ينال الرضا والاستحسان ممن يفترض ان دوره الحقيقي هو تقييم ادائهم. وفي بلد مثل مصر، اصبح وقوف أعداد متزايدة من المثقفين على أبواب السلطة ظاهرة اجتماعية وليس حالات فردية. وربما يُصار قريباً الى اعتبار من يحرصون على احترام انفسهم وثقافتهم وعلمهم هو الأقرب الى الحالات الفردية وهذا هو مصدر الخطر في ظاهرة مثقف السلطة. ويزداد هذا الخطر أضعافاً في ظل بناء اجتماعي - سياسي شديد السيولة يعاني في ظله شباب المثقفين الصاعدين حال ضياع وفقدان للاتجاه. وما اسهل ان يصير مثقف السلطة، في مثل هذه الحال، قدوة لهم يقتفون أثره ويفعلون مثله ويصبحون اكثر تشوهاً منه. فعلى سبيل المثال كان هناك اعتقاد في أن أسوأ ممارسة يقوم بها بعض مثقفي السلطة هو الوشاية بزملائهم وكتابة تقارير ضدهم. ولكن، في جيل تالٍ، تبين ان هناك ما هو أسوأ لأن التقارير الامنية التي كانت سرية صارت في العلن وعلى صفحات الصحف، في صورة تحريض مباشر للسلطة على منع كتّاب من الكتابة أو طرد صحافيين من مؤسساتهم أو حظر استطلاعات الرأي العام أو غلق منظمات حقوق الانسان. والأخطر من ذلك ان مثقف السلطة الأسوأ هذا كان يتعرض لمقاطعة واسعة ويعيش في عزلة خانقة. أما الآن فهو لم يتجاوز العزلة فحسب، بل وازداد التحلق حوله ممن يظنون انه يستطيع اختصار الطريق التي ينبغي عليهم ان يسلكوها الى السلطة، ومن دون ان يفعلوا الإثم الاقصى الذي أتاه. وعلى رغم ان هذا وضع مهين للمثقف، فهو يغدو صعباً على السلطة نفسها، عكس ما هو مفترض من ان الإقبال عليها يؤكد سلامة سياساتها وحسن أدائها. فمن المستحيل عليها إرضاء جيش من المثقفين الباحثين عن مكان لهم في داخلها، والمتطلعين الى مناصب في مقابل تخليهم عن دورهم الحقيقي النقدي. لقد كانت السلطة تبحث في ما مضى عن مثقفين يزينونها. كما كانت تعتمد اسلوب الولاء قبل الكفاءة. ولكن الكثير من المثقفين الآن هم الذين يبحثون عن السلطة، فإذا كثر الموالون، انقضى مغزى تقديم الولاء على الكفاءة. فلم يعد الولاء عملة نادرة، وإنما الكفاءة هي التي صارت قليلة، طالما اختلت أولويات عدد متزايد من المثقفين، ولم يعد تطوير ادائهم وتحسينه هو أول ما يشغلهم. ومع أن كثرة المنتظمين في الطابور تجعل مهمة السلطة صعبة في استيعابهم لأن الفرص المتاحة أقل ما هو مطلوب، فقد تبين ان الكثيرين منهم لا يستعجلون ذلك. ومع ذلك فهم يتسابقون على نحو يخلق ما يشبه سوقا للأنتلجنسيا يزداد عدد المتعاملين فيها عارضين بضاعتهم. ومن الطبيعي ان يعمل القانون الذي يحكم العلاقة بين العرض الكثير والطلب القليل. فليس هذا قانوناً اقتصاديا فقط. إنه القانون الاساسي في أي سوق ولأي بضاعة. وحين يزيد العرض ويقل الطلب، تكسد التجارة وتبور، ويخسر المتعاملون فلا يجد بعضهم غير التسول. ويترتب على ذلك خفض التطلعات وتدني التوقعات. فنجد من يرضى بالقليل، والبعض يرضيه الفتات، وهو يوهم نفسه بأنه يلعب دوراً ما في السياسة العليا، بعد ان تخلى عن دوره الحقيقي في السعي الى ترشيد هذه السياسة عبر الإبداع في مختلف المجالات. فالإبداع لا يكون ابداعا إذا وقف امام باب السلطة ينتظر حسنة أو صدقة أو مكافأة مادية كانت أو معنوية، الإبداع الحقيقي يقتحم الابواب كلها ولا يقف امامها، ويسعى الى فتح الطرق التي توصل الى التقدم. تقدم الوطن والأمة وليس التقدم الشخصي في الطريق الى السلطة. وهذا هو السبيل الذي سلكته الأمم التي سارت على طريق النهضة في مراحل سابقة وتبوأت مكانها الآن على قمة العالم. وهذا هو الدور الحقيقي للمثقف من اجل وطنه ومن اجل نفسه في آن معا. ولكن، يغيب الآن عن كثير من شباب المثقفين ان المثقف الحقيقي يستمد قيمته من إبداعه وانتاجه وليس من موقعه في السلطة. فأين نحن الان مما كانت عليه غالبية المثقفين في مراحل سابقة حين ضربوا المثل في الصمود والاصرار على الدور الابداعي النقدي حتى تحت القيود والضغوط. أين نحن من عصر لجأ فيه معظم المثقفين الى التحايل على الرقابة المباشرة من اجل مواصلة دورهم في اصعب الظروف، عبر الرمز والاسقاط والتجريد والاستعارة. وهذا هو ما تعلموه من مثقفين عالميين كبار، مثل شاعر روسيا العظيم الكسندر بوشكين الذي تمر في آيار مايو المقبل مئتا سنة على مولده في العام 1799. وحافظوا على دورهم في فترة كانت السلطة تتعاطى فيها مع الكلمات كما لو كانت قنابل. كانت الرقابة فجة وقاسية. ولكن كان كثير من المثقفين مصرين على توصيل رسالتهم. والمفارقة هي ان يحدث التراجع وينتشر نمط مثقف السلطة بعد ان ازدادت مساحة الحرية وصارت السلطة اكثر تسامحاً مع منتقديها. صمد كثير من مثقفينا في مواجهة العصا. فلما اختفت أو كادت او صارت ناعمة، بدأ البحث عن الجزرة، ورغم ان قليلين فقط هم الذين وجدوها، وقف الكثيرون بانتظارها. لقد فعل الإحباط العام فعله في هؤلاء الذين فقدوا الثقة في انفسهم وفي دورهم، فانكفأ كل منهم على ذاته لا يشغله غير مصلحته الخاصة، وهم يساهمون بدورهم في اشاعة مزيد من الاحباط، وفي تقديم قدوة سيئة للأجيال الصاعدة في حال ضياع يبعث على القلق. وفي مثل هذه الحال لا يكون المثقف الشمولي هو مصدر الخطر الاول. فهو لا يقنع احدا رغم صوته العالي وقائمة الاتهامات الجاهزة لديه ليرمي بها في وجه كل من يختلف معه. المصدر الاول للخطر هو مثقف السلطة من كل لون، وغالبا الذي بلا لون. ولكن عندما يصير المثقف الشمولي هو نفسه مثقف السلطة، يصير الخطر اكثر فداحة، ولكن لحسن الحظ مازالت الحالات التي يحدث فيها هذا التطابق محدودة. ولحسن الحظ ايضا، ما زال في عالمنا العربي مثقفون يرفضون اهانة انفسهم وثقافتهم في سوق مثقف السلطة. وهؤلاء هم الذين يبقون على الأمل في المستقبل حتى إذا بدا لكثيرين انهم من "أهل الكهف". * كاتب مصري. رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".