هناك بقي يفكر، يحلم، ويطلب أن يعيش في سلام مع تلك الحياة التي أنجبته ليغدو كائنا منسجما مع الجمال والمثالية والخلق، يفكر كيف يمكن أن يكون إنسانا حرا بكل ذلك المعنى العميق للكائنات التي تعيش طليقة اليدين، يخترق دائرة المجتمع الشائكة، يتحاور معه، يفكر عنه وله، يرتفع صوته ويناديه بدواخله، يعيش معزولا به وعنه ومن خلاله، يعيش ذلك الاحتدام الكبير تجاه أفكاره واتجاهاته ... يعيش في عزلة روح وفكر ولكنه يبقى على اتصال بكل شيء يتعلق بمجتمعه الذي قد لا يحسن الإصغاء إليه جيدا ولكنه - أيضا - لا يتركه وحيدا.. بكل تلك العلاقة التصادمية والصلة الشائكة يعيش المثقف مفتوح الفكر نحو تهذيب كل شيء في مجتمعه الذي برغم عزلة الروح والعالم العميق الذي يسكنه ولكنه يبقى يطلب"الود"معه بأن يصل إلى ذلك الكمال الإنساني الذي يتخيله مجردا من جميع الأحكام المسبقة والاختلافات التي تقضي على أصل"الفكرة"... يعيش"المثقف"من خلال ذلك النسق، ويصر بأنه صاحب رسالة في مجتمع ربما يدور حوله ككائن غرائبي أو مختلف فيما يصر المثقف أن يكسر حاجز الدوران ذلك بأن يخترق مجتمعه بأحلامه التي تسيطر عليه، والتي يرى من خلالها بأن له صوتا يرغب من الجميع أن يصغي إليه ويفكر في أطروحاته حتى إن دفع ثمن ذلك التصادم رفضا واحتجاجا وربما"هماً ثقافيا"يغرق فيه حتى يموت. وتبقى العلاقة شائكة بين المثقف والمجتمع، محكومة بالتنازع على رؤى مختلفة ففي الوقت الذي يطمح فيه المثقف إلى"المثالية"يطمح فيه المجتمع أن يحتفظ بكل ما اعتاد عليه وما جاء به من تلك الأحقاب القديمة... فحتى قبول الجديد إنما هو ضمن إطار التقليدي الذي عاش به وجاء من خلاله... وعلى الرغم من تلك المثالية لفكرة"الثقافة"إلا أن هناك من سار في خط مواز لها ولكنه تلوث كثيرا بعد أن نزل لسوق القيم وأصبح يبيع ويشتري كيفما اتفق، فله صوت يشبه ذلك النزيه ولكنه"أبدا"غير حقيقي صادق.. فالمثقفون يطلبون النزاهة والمثالية في الوقت الذي أصبح هناك منهم من يحتاج إلى أن يغتسل في مائها... فيما بقي المجتمع يغرق بكل الاختلافات التي فيه، ويتنوع بحسب تياراته التي تتنازعه فلا هي التي تركته في"حاله"ولا هي التي مكنته من أن يتشكل من جديد... فهل نستطيع أن نجزم بأن المثقف تصالح مع المجتمع أم أن العلاقة بينهما مازالت ملتبسة محكومة بالتصادم والاختلاف؟ ومن الذي أشعل فتيل الخلاف... المثقف الذي يتصف بالطبيعة المختلفة روحيا وفكريا؟ أم السمات العامة للمجتمع؟ أم الثقافة نفسها هي أول من أشعلت ذلك الفتيل؟ حسين بافقيه حسين بافقيه: لا معنى لثقافة بدون المجتمع ولا معنى لمثقف يدير ظهره للمجتمع تصالح المهادنة: يقول حسين بافقيه -الناقد- بأن الثقافة مفهوم اجتماعي، والمثقف كائن اجتماعي وأسئلة المثقف تكون قوية بالمجتمع لأنه لا معنى لثقافة بدون المجتمع، ولا معنى للمثقف يدير ظهره للمجتمع، فعادة المثقفون يضعون نصب أعينهم تطوير المجتمعات التي ينتمون إليها ويشعرون بأنهم يؤدون رسالة فلديهم هذا البعد الرسالي فالمجتمع في الأوضاع الطبيعية لا يصطدم بالمثقف، إنما الذي يصطدم بالمثقف هي القوة المتنفذة بالمجتمع كأصحاب المصالح في المجتمع والتيارات المحافظة التي ترى في الصوت المثقف خطرا عليها، وهنا إنما نتحدث عن المثقف"التنويري"وليس المثقف الذي يربط مصالحه بالسلطة السياسية أو السلطة الدينية أو القوة الاجتماعية المحافظة، بل بالعكس فإن المثقف دائما تكون عيناه على المجتمع ويهمه تطوير مجتمعه، والتصالح مع المجتمع ليس تصالح مهادنة وإنما هو يشعر بأنه عليه جزء من المجتمع وعليه واجبات تجاه هذا المجتمع. وإنما من يصطدم بالمثقف والمثقفين عادة هي القوة المحافظة سواء كانوا النخبة السياسية التي تحاول أن تدجن المثقف حتى يخدم مصالحها ويصبح بوقا من أبواقها أو القوة الدينية المحافظة التي ترى في صوت الثقافة المستنيرة عدوا حقيقيا لمصالحها وخطابها الرمزي للهيمنة على الناس، لأن الذي يكشف هذه الخطابات التقليدية هو المثقف الذي يحاول أن يبصر مجتمعه، فينتج عن ذلك تصادم بين المثقف وبين هذه القوة المحافظة التي تحاول في أعماقها المحافظة على مصالحها الاجتماعية، فالثقافة ليست عملا استهلاكيا إنما هي في أعماقها تحمل خطابا تغييرا فالمثقف قد يطمح إلى التغيير فالثقافة ليست زينة هنا، إنما هي فعل من أجل التغير ومن هنا يأتي التصادم بين المثقف وبين تيارات معينه في المجتمع ولكن في الحقيقة لا قيمة لأي مثقف إلا بالمجتمع الذي يحتضنه ويشعر بأنه هو الذي يعبر عن همومه ومشاعره بما يؤتيه من معرفه وقدرة على المساجلة والحجاج. التصالح مع السلطات المختلفة: إن هناك مثقفين تصالحوا مع السلطة السياسة ومع السلطة الدينية وربما يكون هناك نوع من المهادنة وربما لا يكون هناك تعاقد حقيقي إنما طبيعة الفكر لا يميل إلى الصدام نتيجة لمؤثرات ثقافية وفكرية يصبح فيها المثقف لديه شيء من المهادنة فعلى سبيل المثال من تاريخنا الثقافي في العالم العربي"مرحلة الفكر الليبرالي في مصر الذي من أبرز ملامحه، ثورة 1919 التي هي ثورة الأفندية في مصر وهي المجتمعات المدنية وهذه الثورة ناعمة على قوتها وأثرها في مصر لأنها أثبتت بعد ذلك النخبة الليبرالية في مصر لطبيعة الفكر الليبرالي أثبتت إخفاقها وفشلها حينما تهادنت مع القصر ومع الاستعمار وكشف أن خطابها هش حينما فرض على مصر في تلك المدة معاهدة بما يعرف بمعاهدة 1936 والتي تعرف ثقافيا إعلام النخبة الليبرالية في مصر إفلاسها وفشلها بدليل أن المؤرخين للحركة الثقافية والفكرية والسياسية في مصر يعيدون بروز العسكر الذين تسلموا مقاليد الأمر عام 1952 مع ثروة 23 يوليو إلى إخفاق الخطاب الليبرالي في مصر، فالخطاب الليبرالي مهادن ولكن لأنه يعبر عن أصحاب المصالح الاجتماعية خاصة أن الذين يقيدون الرأي في تلك الفترة هم من أبناء الأسر الكبيرة التي لها حضورها القوي في العمق الريفي في مصر ومن ثم حتى تحافظ على مكاسبها لابد أن تهادن القصر والمستعمر. فطبيعية الفكر الاجتماعي - أحيانا - قد تفرض على ممثليه شكل الخطاب وأداته ولكن بلا شك أشكال الخطاب تتغير من مرحلة إلى أخرى ولكن المثقف بما يحمله من حمولة فهو مفهوم حديث فنشأت هذه الكلمة في فرنسا في سياق الدفاع عن الحريات وعن الضعفاء وعن الفئات المغلوبة وذلك يدل أن الأشكال تتغير للفعل الثقافي ولكن مضمون الثقافة ومضمون رسالة المثقف هي كما يقول"إدوار سعيد"وهو من أكبر من نظر في المسألة الثقافية"إزعاج السلطة من أجل الدفاع عن مصالح الفقراء والطبقات المسحوقة"وهي رسالة المثقف الأساسية التنويرية ولذلك فإذا حاد المثقف عن دوره التنويري فطبيعي أن يكون مهادنا للفئات المتنفذة التي تتخذ من بلاغة المثقف أداة من أدواتها عرف ذلك أو لم يعرف. الدكتور فالح العجمي الدكتور فالح العجمي: احذروا المندسين في صفوف المدلسين ورواد الغوغائية باسم الثقافة مدّعو الثقافة: ويقول الدكتور فالح العجمي - الناقد والكاتب الصحفي -"لا، بالطبع المثقف لا يمكن أن يتصالح مع المجتمع، لأن وظيفته الرئيسة هي النظرة النقدية لمسيرة المجتمع وموقعه بين المجتمعات الأخرى، وتطوير آليات الحكم والتقويم عند أفراده. وحيث يكون تسيير المجتمعات غالباً قائماً على أمزجة الغالبية، التي هي في الأساس تابعة للنخب الغالبة؛ فإن وظيفة الناقد دائماً لفت النظر إلى ما لا تراه تلك النخب ولا تابعوها. هناك فئات تحسب أنفسها على وظيفة الثقافة، فتدّعي أنها تُعنى بهموم المجتمع غير المرئية (وهي بالمناسبة من مناقب النظرة الثاقبة للانتجلنسيا – التي ترجمت في العربية إلى فئة المثقفين)، وفي الوقت نفسه سائرة في وسط الخط الثقافي السائد. وهذا تناقض أكيد لا يدركه أولئك المدّعون، لكنه يبدو في أفعالهم التي تُظهر انتهازيتهم وانتمائهم إلى صف المدلسين ورواد الغوغائية. وذكر قائلا"ما لم يتصادم المثقفون مع رؤى المجتمع السائدة، وينقدونها بصراحة، فليسوا مثقفين. وما لم يلتفتوا إلى منعرجات الطرق، ليقدموا مبادرات فكرية جديدة، تسهم في صنع خيارات ممكنة لطرق الحياة في المجتمع، فهم مزيفون. هناك فرق بين المثقف والثوري في دراسات تأريخ الأفكار؛ لكنهما يلتقيان في عدم مجاملة أي منهما لما اعتاد الناس على سماعه أو رؤيته. أما الاختلاف، فوارد لدى المثقف الحقيقي؛ بينه وبين أفراد مجتمعه وتياراته المختلفة من جهة، وبينه وبين المثقفين الآخرين من جهة أخرى. ولا بد له من أن يتقبل تلك الاختلافات، إذا كان يؤمن بأن تغيير الحال إلى الأفضل يتطلب النظر إلى الخيارات الممكنة، واختيار ما يناسب منها المكان والزمان وقدرات الناس وظروفهم. وفي قضية مسببات الخلاف بين المثقفين ومجتمعاتهم، هي بنية نسقية تفرضها طبيعة كل من الطرفين (مع أن وصفهم بالطرفين فيه جناية على المثقف الحقيقي الذي يحرق أعصابه من أجل أن يقدم وصفة لحالة مزرية في مجتمعه، ويكافأ غالباً على ذلك الحرص بالنكران والاستبعاد ووصفه بالخروج على مسلمات المجتمع وقيمه). للتيارات المتنفذة دور كبير في شيطنة المثقفين، لأنها تظن بأن أفكارهم تهدد نفوذهم، وتشكل خطراً على موقعهم لدى قطاعات عريضة من المجتمع. لذا تحرص أبواق تلك التيارات على وصف الكتلة الصامتة، بأنها عامل الاستقرار، مما يتوجب معه على المجتمع ألا يؤذيها (وغالباً تقصد بعدم الأذى: ألا توقظها). وللثقافة بالطبع دور أحياناً في إنشاء دوائر راكدة؛ تسهم في جعل أصحاب التيارات المتنفذة قادرين على منع الهواء عن التنوير، والحراك الثقافي الصحي، الذي يقوم على النقد والتقويم والمراجعة المستمرة لكل الأبنية الاجتماعية. جاسم الصحيح جاسم الصحيح:الثقافة بحد ذاتها والعمل الثقافي يمثل حالة من حالات البحث عن الكمال حلم المثالية المستحيل: أما جاسم الصحيح - الشاعر - فيقول"عندما نعود إلى الجذر اللغوي لكلمة الثقافة فهي ثقف"تقول العرب ثقف الرمح أي عدل الرمح فنمت هذه المفردة وتحولت إلى مفهوم تجاوزت المعنى التقليدي بتثقيف الرمح فأصبحت الثقافة هي تثقيف وتعديل السلوك الإنساني برمته فتحولت المفردة إلى مفهوم ولذلك فالثقافة بحد ذاتها دائما تبحث عن أدوات الشعر والدراما والمسرح... إلخ وهذه أدوات الثقافة وكذلك يبحث عن أي اعوجاج في المجتمع يضع عليه الميكروسوب الثقافي يضخمه ويضعه للناس وتقوم الناس بعلاجه، فطبيعة الثقافة نفسها لا يمكن أن تتصالح مع المجتمع إلا في حالة واحدة إذا المجتمع جميعا أصبح مثقفا، وأصبح يبحث عن عيوبه بنفسه أما إذا أخفق جزء من المثقف وأصبح هناك المثقف الذي يحاول أن يصلح أي اعوجاج في المجتمع فطبيعة الثقافة تحتم أن يبقى المجتمع يطارد العيوب الاجتماعية إلى أن يصل به إلى"القبر"فيقضي على هذه العيوب.. فأصل الخلاف بين المثقف والمجتمع يعود إلى طبيعة الثقافة التي تتطلب منا عدم المهادنة ولكن في الوقت ذاته"الوعي الاجتماعي عندما يكبر لا يوصل القضية إلى قضية عدائية بين المجتمع والمثقف وإنما إلى حالة من الحميمية، فالمثقف يحاول دائما أن يحلم وحلم الثقافة دائما المثالية فالمثقف دائما مايبحث عن مشروع مثالي وإلى الكمال وهو مشروع مثقف ولكن الوصول شبه مستحيل، ولذلك يبقى العمل الثقافي عملا أبديا ومستمرا لأنه الوصول المستحيل ولأنه يطمح لما هو أفضل، والبحث عن الكمال الذي هو فعل ثقافي بامتياز هو الكمال المتاح للإنسان ولذلك الثقافة بحد ذاتها والعمل الثقافي يمثل حالة من حالات البحث عن الكمال. وعن حقيقة أنه ليس كل مثقف"مثالياً أو نزيهاً قال"الصحيح"نحن هنا نتحدث عن جوهر الثقافة أما المثقفون فهم مختلفون فهناك مثقف سلطة وهناك المثقف الحر وهناك المثقف الجميل وهناك للأسف من لا يؤمن حتى بثقافته ولكننا نتحدث هنا عن حقيقة الثقافة ولا شك أن كل عصر من العصور لم يخلُ من مثقفين حقيقيين خلدوا بعد أن انتهى ذلك العصر وانتهى المد الثقافي في ذلك العصر وقام التاريخ بتصفية المثقفين الحقيقيين فقد يخرج من المئة ثلاثون ممن يمثلون مثقفين حقيقيين وذلك يعتبر إنجازا كبيرا للثقافة والإنسانية في آن واحد.