الموضوع شائق وشائك. شائق لأن الحديث عن "تحديث" المجتمع المصري حديث ذو شجون. والشجون كثيرة متشعبة، وشائك لأن هذا الحديث عن التحديث يمس أوتاراً حساسة في حياة المثقف المصري - والعربي عموماً - وحياة المجتمع المصري. وشجون الحديث عن "التحديث" تؤدي بنا الى حال من المراجعة والتأمل، ما مكونات المثقف المصري؟ وما قدراته؟ وما دوره؟ وما مدى قدرته على الفعل المستقل؟ وما مدى سلطة المجتمع على مثقفيه؟ وما المحظورات التي تصل الى اتهامه بالخيانة او الكفر إذا انتهكها؟ وما مدى تسلط السلطة على الثقافة والمثقفين؟ ثم ما أدوات المثقف في إنجاز مهمة التحديث، أو محاولة انجازها؟. هذه الاسئلة، وما يتفرغ عنها بالضرورة تُمثل لب الموضوع/ المشكلة. إذ أن المثقف في مصر وغيرها ليس موجوداً في عزلة اجتماعية أو فكرية، كما أنه ليس قوة فاعلة بذاتها في بلاد تحتكر السلطة فيها وسائل الإعلام ومعظم وسائل التثقيف مثلما تحتكر وسائل الحكم والعمل السياسي. وربما يكون من المناسب أن نحاول التعرف على تكوين المثقف المصري المعاصر بحيث يمكن التعرف، بالتالي، على حدود قدراته في "مهمة التحديث". في ظني أن المكوّنات الأساسية للمثقف تتمثل في نوع التعليم الذي تلقاه في حياته من ناحية، ونمط الثقافة السائدة في بيئته من ناحية ثانية، وموهبته وقدراته الذاتية من ناحية ثالثة، ثم الخبرات الثقافية/ الاجتماعية التي مرت عليه من ناحية رابعة. فإذا ما أخذنا في الاعتبار أن المثقف المصري المعاصر نتاج لنظام تعليمي تقليدي قام على البناء المعرفي طوال الاربعينات والخمسينات والستينات من هذا القرن، ثم تعرض لهزة عنيفة منذ منتصف السبعينات وحتى الآن نتيجة لاعتبارات سياسية و إدارية معروفة، أدركنا ان العنصر الأول في تكوين المثقف المصري يتعرض للتآكل والتراجع المستمر حيث يشكل خطراً على حاضر هذا المثقف ومستقبله. فالتوسع في إنشاء الجامعات المصرية ومن قبلها المدارس منذ السبعينات من دون توفير الكادر والمكتبات والمباني. ثم ازدياد تدخل الادارة والأمن في العملية التعليمية، وفرض قوانين تحد من الحرية الاكاديمية وتزيد من قبضة السلطة وتقلل من قيمة العلم، وما تلا ذلك من منع حقيقي للنشاط الثقافي الحر في الجامعات بدعوى الأمن - كل هذا الى جانب عوالم أخرى كثيرة، أدى الى تراجع حقيقي في مستوى خريجي الجامعات المصرية طوال العقدين الاخيرين. وهو تراجع لا يمكن لأحد أن ينكره. وهكذا، فإن العنصر الأول في تكوين المثقف المصري ما يزال، في حال من التدهور والتراجع. وربما يكون هناك بعض الأمل في إصلاح النظام التعليمي بعد أن اعترفت الدولة بأن التعليم في حاجة الى إصلاح حقيقي. أما العنصر الثاني من العناصر المكونة للمثقف المصري، والذي يتمثل في الثقافة السائدة، فإننا يمكن أن نلاحظ أنه تعرض لموجات من التذبذب والتغير المستمر نتيجة للظروف التاريخية الموضوعية التي جرت على المجتمع المصري منذ الاربعينات وحتى الآن وأنا اتخذ البداية من الاربعينات لأنني احاول أن أجعل الحديث مقصوراً على أجيال المثقفين التي تعيش بيننا الآن، فقد كانت ثقافة المجتمع المصري مزيجاً من التفاعل بين موروث حضاري شاحب لم يبق منه غير نظام القيم والاخلاق المصرية التقليدية، وانفتاح على الثقافة الاوروبية، وأهداف وطنية تحررية ونضال ضد الاستعمار وقوى التخلف والرجعية. وأدى هذا الى قدر من التنوع الذي خلق نوعاً من الحوار والمنافسة. وتمثلت النتيجة في وجود قطاع من المثقفين القادرين على الفعل والمبادرة على رغم اختلاف مواقعهم السياسية ورؤاهم الاجتماعية. ولكن وحدة الهدف الوطني من ناحية، وذلك القدر من حرية المجتمع المدني من ناحية اخرى، اعطى للمثقف الفرصة على الفعل الاجتماعي والسياسي والفكري من خلال الاحزاب والصحف والكتب والندوات والمناظرات التي جعلت المجتمع المصري يمور بحيوية شديدة آنذاك. ومنذ نجحت ثورة تموز يوليو 1952 في احتكار النضال من أجل تحقيق الأهداف الوطنية، حدث بالتداعي نوع من احتكار العمل الثقافي. صحيح ان تلك الثورة وفرت كل مقومات التثقيف للكافة - وهذا بحد ذاته مما يحمد لها - ولكن نتيجة هذا العمل الايجابي على المدى الطويل كانت سلبية. وتفصيل ذلك أن الثقافة السائدة بدأت تسير في اتجاه واحد يقوم على الموافقة والرضا، ولا يسمح بالاختلاف والمعارضة. ولم يكن ذلك عن رغبة في القهر، وإنما كان صادراً عن نية حسنة في بناء اجتماعي/ ثقافي متسق ومتناسق. ولكن النية الحسنة اصطدمت بحقائق التاريخ والاجتماع، فالانسان بوصفه فرداً في جماعة ينبغي أن يتمتع بحق الاختلاف والمعارضة والتمرد ثم حدث ذلك الزلزال الاجتماعي الذي بدأ مع منتصف السبعينات واستمر حتى الآن. فقد حدثت تغيرات هائلة في البنية الاجتماعية والاقتصادية المصرية، كما جرى تبديل عنيف في الاولويات الوطنية والقومية، وخلال فترة طويلة من حكم السادات كان العرب انتقلوا الى فندق العدو على حين احتل الاميركان والصهاينة مواقع الاصدقاء والحلفاء. وتداخلت الخطوط وارتبكت، وعلى المستوى القيمي والاخلاقي حلت ثقافة الاستهلاك والمباهاة الاجتماعية والتضافر والكسب السريع بأي طريق محل النظام القيمي والاخلاقي الذي كان سائدا منذ الاربعينات حتى بداية السبعينات، وتراجعت المفاهيم القومية الاشتراكية لحساب المفاهيم الشوفونية والاستهلاكية. وساد نمط من الاخلاق الموقتة من نوع "الغاية تبرر الوسيلة". وكان طبيعياً ان يتفرق المثقفون شيعاً واحزاباً، فاختار معظمهم الدفاع عن الثوابت الوطنية والقومية، على حين رأى البعض في ما جرى فرصة للوثوب الى مواقع لا يستحقونها فساندوا كل المواقف الحكومية بلا تمييز، بل ذهب بعضهم الى المزايدة على الحكومة في تبني مواقف التعاون مع الاسرائيليين. لقد كانت اتفاقية السادات مع اسرائيل مصحوبة بسياسات اجتماعية/ ثقافية لتغيير مواقف المصريين من العرب ومن الصهيونية، وظهرت كتابات تنفي انتماء مصر العروبي والاسلامي وتكونت جماعات وجمعيات تبشر بالسلام، وتورط عدد من المثقفين في هذا الاتجاه. وعلى الجانب الاقتصادي بدأت سياسة الانفتاح لتصل بنا الى ما يسمى بالخصخصة، وتخلت الدولة عن دورها في الرعاية الاجتماعية او كادت، وسادت قيم الفردية والانتهازية وصار المال معبوداً تقدم له القرابين الاجتماعية والاخلاقية والسياسية والثقافية، واستشرت حال من التمزق الثقافي، فاختار البعض الرجوع الى كهوف السلفية وانحاز البعض الآخر الى ثقافة الغير تماماً. واُستخدم مفهوم "العولمة" للتشويش على الهوية الثقافية. هكذا، إذن، تراجع العنصر الثاني من عناصر تكوين المثقف المصري واضطرب، وما تزال العوامل السلبية تعمل عملها في هذا العنصر بشكل يحد من قدرات المثقفين عموماً. ويبقى العنصران الثاني والثالث بمثابة خط الدفاع الاخير، والحصين، عن المثقف المصري. فالمثقف الحقيقي لا يمكن ان يكون فاعلاً ومؤثراً ما لم يكن موهوباً، ولأن الموهبة منحة إلهية لا يمكن لأية سلطة دنيوية ان تسبغها على احد، فإن المثقفين الموهوبين ينحازون بالضرورة الى الحقيقة والصالح العام للجماعة الانسانية التي ينتمون اليها، ويلفت النظر هنا ان المثقفين الموهوبين هم الذين شكلوا، وما يزالون يشكلون حتى الآن جبهة المعارضة الرئيسية لكل التوجهات التي تعوق تحديث المجتمع المصري. ويمثل الكُتاب والشعراء والفنانون قلب الحركة الثقافية في كل مكان وليست مصر استثناء في ذلك بطبيعة الحال. بيد أن المشكلة تكمن في ان المثقف في مصر ما يزال في حاجة الى رعاية وحماية لا يستطيع توفيرها سوى الدولة بحكم ميراث موقف ثورة تموز يوليو من رعاية الثقافة من ناحية، وعجز رجال الاعمال الذين افرزهم عصر الانفتاح والخصخصة عن تمويل النشاط الثقافي الذي لا يرون له فائدة او عائداً مادياً من ناحية اخرى. كذلك فإن الخبرات الثقافية/ الاجتماعية تدخل ضمن المكونات الخاصة للمثقف الفرد، وبطبيعة الحال لا يشترك الافراد في خبراتهم الا اذا اتخذت شكل ظاهرة اجتماعية. وعلى رغم تفشي انماط ثقافية سلبية في المجتمع المصري بفعل قدرات وأذواق اصحاب القدرة الاقتصادية، وبحكم ازدياد تأثير العوامل الاجنبية، فإن المتتبع للنتاج الثقافي المصري، في الكتب والاعمال الفنية الدرامية والتشكيلية، وفي المؤتمرات والندوات، وفي وسائل الاعلام، سيجد ان مساحة لا بأس بها يحتلها مثقفون يعرفون دورهم ويحاولون اداء واجبهم. صحيح ان الجزء الاكبر من الضجيج الثقافي ينتج عن اعمال "ثقافية" تتسم بالتفاهة والسطحية، ولكن الصحيح ايضاً ان هذه الاعمال هي من نوع "الزبد الذي يذهب جفاء"، على حين تبقى الاعمال الثقافية "التي تنفع الناس" وتمكث في الارض. ومن ثم، فإن عناصر تكون المثقف تبقى متوازنة مع وجود احتمال بتحسين عنصري التعليم والبيئة الثقافية السائدة. ولكن هل نستطيع ان نتعامل مع المثقفين باعتبارهم من نسيج واحد، وبحيث يمكن ان نطلب منهم القيام بمهمة التحديث وكأنها "عملية عسكرية" او "مقاولة" او "تكليف" بواجبات معينة؟. ان المثقفين لا يمثلون طبقة اجتماعية بعينها ولا ينبغي لهم ان يكونوا كذلك. فالمثقف دائماً ما يكون في خدمة الجماعة، وقد تكون هذه الجماعة طبقته الاجتماعية، او وطنه، او السلطة الحاكمة او غيرها، ولأن طبيعة العمل الثقافي تقتضي اختلاف الرؤى ووجهات النظر، فإن النتيجة الطبيعية ان نجد المثقفين في مواقع اجتماعية وسياسية وفكرية مختلفة ومتباينة متمايزة. والناظر في الخريطة الثقافية المصرية سيجد، عند الوهلة الاولى، هذه الحقيقة متجسدة في اختلاف انتماءات المثقفين ومواقعهم الفكرية، فمنهم من يبحث في الموروث والتوراث عن باب يخرج منه الى التحديث والتجديد وإعادة الحيوية، ومنهم من يتطلع الى انجازات الحضارة الاوروبية / الاميركية الغالبة باعتبارها النموذج والقدوة والمرجعية، او حتى باعتبارها قارب الانقاذ الوحيد. ومنهم من يرى أن في الإمكان حدوث نهضة تأخذ بانجازات الحضارة الحديثة داخل اطار تراثنا الثقافي وواقعنا الاجتماعي. وعلى الهوامش جماعة تعوي بأصوات تشكك في انتماء مصر الى تراث الحضارة العربية الاسلامية، وتطرح اسئلة مريبة عن الذات والهوية. وجماعة اخرى تبشر باليأس وتدعو الى الذوبان في الآخر. وهناك على الهوامش جماعات اخرى تصادر الحاضر والمستقبل لمصلحة ماضٍ لم يروا منه غير الظلمة والعتمة. ومع هذا، وربما يكون بسبب هذا الموقف، فإن دور المثقف ما يزال حيوياً ومهماً في محاولة تحديث المجتمع المصري. ان بوسع الحكومات ان تقوم بتحديث الحياة المادية ومقوماتها في يسر وسهولة اذا توفرت الموارد المالية المطلوبة وحدث هذا فعلاً في دول الخليج العربي بفضل اموال النفط، وحدث بشكل نسبي في البنية التحتية المصرية بفضل اموال القروض والاستثمارات الاجنبية ولكن تحديث المجتمع بالمعنى الثقافي والاجتماعي يستدعي جهداً كبيراً يكون المثقفون قادته ومنفذيه. وهنا لا بد من ان نشير الى ان ادوات المثقفين لا بد ان تكون حرة وفي متناول ايديهم. الحاصل ان ادوات المثقفين في مصر، والعالم العربي عموماً، ليست في متناول ايديهم. فالصحف المستقلة قليلة الى حد الندرة، كما انها رهن الرقابة والمصادرة والإغلاق عند اول بادرة تغضب الحاكم، او تزعجه قليلاً. وليست هناك إذاعات او تلفزيونات خاصة. كما ان دور النشر لا تستطيع المغامرة بالمشاريع الثقافية الكبيرة، ولا تستطيع تخطي حدود المحظورات الحمراء. وفي ظل احتكار السلطة، واحتكار وسائل الإعلام، واحتكار العمل السياسي، يبقى هامش الحركة الحرة للمثقف المصري ضيقاً شديد الضيق. وفي تصورنا ان المثقف لا يمكن ان يقوم بدوره الا إذا كانت ادواته ملك يمينه، ولن يتحقق ذلك سوى في ظل جو من حرية النشر وحرية الكلمة عموماً. هذا الوضع السلبي، ليس سلبياً تماماً في حقيقته، ولكن النضال بين رغبة السلطة في الإمساك بزمام الحياة الثقافية وتوجيهها الوجهة التي تراها من ناحية، ورغبة المثقفين في الانطلاق نحو آفاق رحبة في العمل الثقافي من ناحية اخرى، خلق نوعاً من التوتر الايجابي في الحياة الثقافية. فقد نتجت عن محاولات تخطي حدود الالغام الحكومية والقفز فوق الاسلاك الثقافية الشائكة، انماط من الفعل الثقافي الايجابي داخل مؤسسات العمل الثقافي الحكومي نفسها. ومن جهة اخرى، لم يكن بوسع احد ان يصب التفاعلات الثقافية لمجتمع له عراقة المجتمع المصري في قناة واحدة توجهها السلطة. وعلى رغم ان الليبرالية الاقتصادية المتطرفة هي السمة الغالبة على الحياة الاقتصادية، فإن الاحتكار هو السمة الغالبة على الحياة السياسية، ادى هذا الى تمسك السلطة باحتكار ادوات العمل الثقافي وقنواته، ولكن الحيوية التي تميز العمل الثقافي جعلت المثقفين يبحثون عن طرق ومسالك جديدة لهذا العمل. هذه الصورة، التي تجسد الصراع والتوتر بين السلطة والمثقف في مصر، تؤكد ان هناك ازمة حقيقية في مجال العمل الثقافي لا سيما اذا كان الامر يتعلق بتحديث المجتمع. إذ ان رغبة السلطة في احتكار ادوات العمل الثقافي، ورغبتها في الانفراد بتحديث المجتمع والدولة، جعلها ترى ان طريقتها في التحديث هي الأنسب والأجدى، كما جعلها تنكر اية محاولة اخرى او اجتهاد آخر. أدى ذلك، بطبيعة الحال، الى نمط من التخاصم الضار، وبات "نفي الآخر" وإعدامه معنوياً من آليات الحوار بين المؤسسات الثقافية الحكومية وبين المثقفين الذين لا يرون رأيها. ربما كانت هذه هي المرة الاولى في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة التي نرى فيها المسؤولين عن الثقافة يخوضون معارك متواصلة من خنادق الحكومة ضد فيالق المثقفين الذين يخالفونهم الرأي والرؤية حول قضايا ثقافية متواترة على مدى عدد من السنوات. وعلى الجانب الآخر، حفرت الخنادق الثقافية، واقيمت الاستحكامات ووُضعت خطط الهجوم. وتحولت الساحة الثقافية الى ساحة للحرب والنزال والطعان. وكانت ابرز النتائج السلبية لهذا الموقف ان توقفت قدرتنا على الحوار، وتوارت فكرة "الآخر" خجلاً امام قذائف الاتهامات المتبادلة. ونسينا مع الوقت ان من حق "الآخر" أن يوجد وان يختلف وان يحاورنا ونحاوره، وان ندافع عن حقه في الاختلاف. ولأن الثقافة لا يمكن احتكارها، فإن الذين حاولوا احتكارها كانوا واقعين تحت وهم احتكار العمل السياسي، ولذلك وجدوا أنفسهم يستخدمون مصطلحات الفكر السياسي الشمولي في مواقع ثقافية لا يمكن ان تخضع لقوانين العمل السياسي. وعلى رغم ان الصورة تبدو قاتمة للوهلة الاولى، فإن القتامة الظاهرة تخفي تحتها ألواناً زاهية براقة. فثمة مجال ممكن للعمل الثقافي المستقل، ما يزال محدوداً، ولكن امكانات اتساعه ونموه ما تزال قائمة اذا تم إفساح المجال امام مؤسسات المجتمع المدني، وامام المثقفين الافراد، كما ان احتمالات تصاعد الاسهام الاهلي في مجالات العمل الثقافي، الفردي والجماعي، تبدو معقولة. فإذا ما عدنا الى أصل الحديث، اي مهمة "التحديث" التي انيطت بالمثقف المصري، وجدنا أن من الأنسب أن نبحث في "تحديث" المثقف نفسه بغرض زيادة فاعليته. ذلك ان واقع الحال الذي يعيشه المثقف المصري يحمل في طياته من عوامل الإحباط اكثر من عوامل التشجيع. إذ أن الظروف التاريخية الموضوعية التي سادت على مدى نصف القرن المنصرم جعلت المثقف المصري في حاجة دائمة الى "حاضنة" يعتمد عليها، لأن الدولة اخذت على عاتقها مهمة الانتاج الثقافي ومن ثم كان لها حق توجيهه الوجهة التي تراها، واختلط العمل الإعلامي بالعمل الثقافي الى اداة من ادوات الاحتكار وبحيث فقد القدرة على المبادأة. ويلفت النظر هنا ان المثقف الذي تمرد على هذا الاحتكار كان يوضع دائماً في زمرة المعارضين الذين تحرمهم الدولة من "حضانتها". ولا تزال السلطة قادرة على "توظيف" المثقف واستخدامه لحسابها، لأن الدولة تكاد تكون الجهة الوحيدة التي تموّل العمل الثقافي من خلال مؤسساتها، ولا يزال المثقف المستقل غائباً بحكم اختفاء التمويل الاهلي للعمل الثقافي. ولا بد ان نقرر ان حرية اصدار الصحف والمطبوعات، وحرية انشاء محطات التلفزيون والاذاعة، والسماح بدور اكبر للاتحادات والنقابات والجمعيات، فضلاً عن اشاعة جو من الليبرالية الثقافية يسمح بوجود الآخر ويفسح صدره لاختلاف المواقف والرؤى- نقول ان هذه كلها امور لا بد وان تساعد في تحديث المثقف المصري ومن ثم تكسبه الفاعلية اللازمة لتحديث المجتمع الذي ينتمي اليه. وبداية ذلك تتمثل في نزع قناع الرضا عن الذات الذي ترتديه الحياة الثقافية المصرية. وتفسير ذلك اننا دأبنا منذ فترة على أن نكيل المبدع لأنفسنا بلا مبرر واضح، كما اننا اصبحنا نتلمس كلمات المديح والاطراء عنا في تصريحات الغير. واتخذت اعمالنا الثقافية سمة مظهرية تسعى الى تحسين صورتنا امام الغير الذي نشعر ازاءه بدونية لا تجد لنفسها سنداً من الحقيقة او الواقع. بل اننا لا نعترف بالرموز الناصعة في حياتنا الثقافية الا اذا اعترف بها الغرب. ونبالغ في الاحتفاء بها بشكل يجعلنا في صورة من يكفّر عن ذنبه، او يداري جهله، أو يخفي اهماله. تبقى نقطة اخيرة ومهمة في مسألة "تحديث" المثقف، وهي إخراجه من حضانة الدولة الى رحابة المجتمع. ويمكن ان يحدث هذا من خلال "خصخصة" الثقافة، فليس من المعقول او المقبول ان تتم "خصخصة" المقومات الاقتصادية للبلاد على حين تبقى الثقافة قطاعاً حكومياً او قطاعاً عاماً. وانما ينبغي نقل ادوات الانتاج الثقافي ووسائل الترويج الثقافي الى ايدي مؤسسات المجتمع المدني. * كاتب مصري.