خلال السنوات السبع العجاف من تاريخ الأزمة السياسية في الجزائر، لم تحظ البلاد بفرصة تاريخية لحقن نزيفها، وانجاز مصالحة وطنية حقيقية، وتفعيل مسار بناء المؤسسات، وحيازة أسباب الاستقرار السياسي والسلم المدني، مثلما حظيت بذلك في الفترة الأخيرة بمناسبة الانتخابات الرئاسية المبكرة. فقد كادت هذه الانتخابات تنفرد بحظوة الاجماع الوطني عليها، في شكل غير مسبوق مذ وقعت الواقعة، ودلفت البلاد الى منطقة المتاهة! كما كانت على وشك أن تقدِّم للجزائر شهادة ميلاد مرحلة جديدة من رشدها السياسي، ومن تعاليها على أخطائها في حق تاريخها وتراثها، تصحح بها صورتها عن نفسها وصورتها لدى العالم من حولها. يكفي المرء أن يتأمل في قائمة الذين تقدموا للمنافسة، كي يقف - بالبيّنات - على نوعية الرهان الذي كانت البلاد على أعتاب خوضه. لم يقع اختيار المؤسسة العسكرية على السيد عبدالعزيز بوتفليقة اعتباطاً. كان اختياراً محسوباً منها وعلى غير العادة! فبعد أن دعتها الحاجة في مرحلة الاستثناء - بين 1992 و1995 - الى المناداة على محمد بوضياف أحد قادة الثورة التحررية المعزولين، ثم على علي كافي رئيس "منظمة المجاهدين" لرئاسة "المجلس الأعلى للدولة"، لم تجد - بعد "ارتفاع" حالة الاستثناء وتنظيم انتخابات رئاسية - الا اليمين زروال، من صلبها، مرشحاً لها. الأمر الذي لم يكن قمينا بإسباغ الشرعية على نتائج الانتخابات الرئاسية في 1995. وها انها تحاول - اليوم - تصحيح تلك الأخطاء بالبحث عن رئيس مدني - أول رئيس مدني في الجزائر منذ الانقلاب على أحمد بن بلة قبل ثلث قرن - بل عن مرشح كانت هي نفسها قد لفظته ورفضته - قبل عشرين عاماً - لتدعم الشاذلي بن جديد خلفاً للرئيس هواري بومدين. والأهم من ذلك، ان اختيار بوتفليقة مرشحاً لهذه المؤسسة، قصد به تجديد الشرعية السياسية للنظام من خلال إعادة اسنادها الى المشروع البومديني، ودغدغة المشاعر الوطنية للشعب الجزائري حيال حنينه الدفين الى العصر الذهبي للبلاد! أما المعارضة الديموقراطية، فلم تتردد - من جهتها - في التجاوب مع فكرة الانتخابات الرئاسية بعد أن قاطعتها، في ما مضى، لتجرى بين مرشحين اثنين من النظام: اليمين زروال، ومحفوظ نحناح. لكن الأهم، اليوم، ان ذلك التجاوب حمل دلالات سياسية فائقة الأهمية، وغير قابلة للتجاهل، وأنتج حقائق سياسية جديدة في البلاد غير مسبوقة في قيمتها، لعل في صدارتها اثنتين: أولى تلك الدلالات والحقائق أن قوى المعارضة لم تكتف بإسباغ الشرعية السياسية والوطنية على هذه الانتخابات الرئاسية فقط، بل هي سعت - أكثر من ذلك - الى رفع رصيد تلك الانتخابات لدى الشعب من خلال تقديم مرشحين من طراز مميز، وخاصة أحمد طالب الابراهيمي، وحسين آيت أحمد، و - الى حد ما - مولود حمروش، والشيخ جاب الله. إذ ليس تفصيلاً أن يرتضي زعيم وطني أدمن المعارضة - منذ أربعين عاماً - مثل حسين آيت أحمد، المشاركة في هذه المنافسة، والمغامرة بتقديم رصيده التاريخي غطاء لها. كما أنه ليس تفصيلاً أن يفعل الدكتور أحمد طالب الابراهيمي الشيء نفسه، وهو الذي وقف موقف مناهضة شديدة للنظام القائم منذ انقلابه على المسار الديموقراطي. ويمكن - هنا - أن نضيف القول إن مشاركة مولود حمروش تحاول - من جهتها - تصحيح صورة وموقع "جبهة التحرير الوطني"، التي مالت حسابات قيادتها الى ممالأة الجيش ومرشحه، كما أن مشاركة جاب الله عبدالله اقتضت ثمناً تنظيمياً فادحاً في حزبه حركة "النهضة": هو الانشقاق! أما ثاني تلك الدلالات والحقائق، فهو دعوة "الجبهة الاسلامية للانقاذ" مناضليها، وأنصارها، والشعب الجزائري برمته، الى المشاركة في الاقتراع، والى التصويت على السيد أحمد طالب الابراهيمي، باعتباره المرشح الأكثر دفاعاً عن المقومات الحضارية العربية - الاسلامية للجزائر. ولعل المدعاة الى الاعتبار - هنا - هو أن هذا الموقف هو أول موقف سياسي للجبهة منذ الانقلاب يتعاطى - ايجاباً - مع "الاستحقاقات" الدستورية للبلاد، ويغادر مواقع الرفض المبدئي والعدمي. بل ان "الجبهة" دعت إليه حتى دون أن تتشبث بحقها في مرشح رسمي لها، مختارة تفويت أصواتها الى أحد رجالات الثورة والنظام السابق، ليس محسوباً عليها، ولا تجد فيه أكثر من رمز وطني للدفاع عن العروبة والاسلام في الجزائر. والمؤسف ان الجزائر أضاعت على نفسها مجدداً استثمار هذه الفرصة النادرة! لم يترك نظامها السياسي مجالاً لمرشحي المعارضة غير الانسحاب من المنافسة بعد ان تبينوا مقدار الانحياز السافر الذي تبديه السلطة لمرشحها، غير عابئة بذيول وتداعيات ذلك على مصداقية العملية الانتخابية، وعلى الاستقرار السياسي! لقد اختار النظام ان يضحّي بصورة الانتخابات، ومصداقيتها الوطنية، التي قدمتها المعارضة، لكي ينتصر لمرشحه: لم يعبأ بحقيقة أن السيد حسين آيت أحمد يعيد وصل العلاقة بين "القبائليين" والجزائر، ويمنح البلاد فرصة وحدة وطنية تحتاج اليها أكثر من أي وقت مضى. ولم يعبأ بحقيقة أن مجرد دعوة "الجبهة الاسلامية للانقاذ" الى المشاركة في الانتخابات، والتصويت على أحمد طالب الابراهيمي هي - في حد ذاتها - مصالحة وطنية ما أحوج البلاد اليها بعد تجربة مريرة من الاقتتال الأهلي! لم يعبأ الا بشيء واحد: تنصيب السيد بوتفليقة رئيساً للبلاد! لكن المشكلة الأكبر هي في أن الجزائر لم تشهد - في نهاية المطاف - انتخابات رئاسية. شهدت - فقط وفقط - استفتاء على مرشح واحد للرئاسة!!! * كاتب مغربي.