لا أعلم تماماً متى كانت اول مرة رنّ فيها إسم فلسطين على خشبة مسرح في برودواي في نيويورك، قلبَ الحياة الثقافية في الولاياتالمتحدة، ولكني لا أظن أن ذلك حدث منذ زمن طويل. كما أني لا أظنه، إن حدث، قد خلّف أي ذكرى قوية أو غيّر أي انطباع سلبي أو لا مبالٍ عن فلسطين ذاتها والفلسطينيين بين رواد المسرح في نيويورك من سكان المدينة، وغالبيتهم من اليهود الأميركيين الأثرياء والمثقفين والليبراليين - والمؤيدين لإسرائيل من دون كثير تحفظ او تفكير. ولكن الوضع مختلف اليوم، ففكرة فلسطين كأرض وكوطن وكدولة - مبترة ومقصوصة الحدود حتى عن حدود ال1967 كما يبدو - فكرة تطرح وصيرورة تنتظر بين هؤلاء اليهود الأميركيين الليبراليين أنفسهم على رغم انهم ما زالوا في غالبيتهم على ولائهم الأعمى لإسرائيل، ربما بسبب من إحساسهم بالذنب لكونهم لم يهاجروا إليها ويسهموا في بنائها كما فعل غيرهم من بني عقيدتهم، وربما لأسباب أعمق وأكثر تعقيداً. ومما يؤيد اختلاف الوضع اليوم هو ان فلسطين، ومجاورتها، وصورتها المعاكسة في المرآة، ومنافستها على التاريخ والأرض والمصير، ومغتصبتها وصالبتها، إسرائيل، هما موضوع مسرحية مؤثرة وعميقة المغزى وذكية الحوار تُعرض على خشبة مسرح بووث في برودواي في نيويورك ابتداءً من الثامن عشر من آذار مارس الماضي. المسرحية، "درب الآلام" Via Dolorosa عبارة عن مونولوج متعدد الأصوات والشخصيات يؤدّيه ببراعة فائقة لمدة تسعين دقيقة مؤلف المسرحية نفسها السيناريست الإنكليزي المشهور دافيد هير، الذي يقول لنا في بداية العرض أنه لم يقف على خشبة مسرح منذ كان في الخامسة عشرة من عمره عندما مثّل دور توماس كرومويل في مسريحة "رجل لكل الفصول" في مدرسته اليوم عمره 51 سنة، ولكن ذلك لا يمنعه من ان يكون معبّراً مبدعاً فعلاً، إذ أنه يستحضر وحده ومن دون كثير مؤثرات صوتية أو ضوئية أصوات وآراء وإيماءات وتلميحات مجموعة من الإسرائيليين والفلسطينيين 33 شخصية التقاهم خلال زياراته للبلدين كما يستعمل الكلمة هو نفسه وينسج من خلال هذه اللقاءات ومن خلال إنطباعاته عن محاوريه وعمن يتحدثون عنهم من الشخصيات العامة في كل من فلسطين وإسرائيل قصة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي اليوم والآراء المتداولة في كل من مجتمعي الطرفين وبينهما. ثم يضيف لكل ذلك آراءه الشخصية التي تتميز بالجرأة والواقعية والمباشرة المنطقية من دون أن تسقط في فخ الصراحة الفجة او التاريخانية الملفقة او العاطفية المستسلمة. كتب دافيد هير الكثير من المسرحيات المشهورة التي لاقت إقبالاً شديداً في لندنونيويورك وآخرها مسرحية "الغرفة الزرقاء" التي تحلل سيكولوجية الجنس والشهوة والحب من خلال لقاءات متعددة بين رجل وامرأة، أدّتها الممثلة المشهورة والجميلة نيكول كيدمان، يتقمّصان شخصيات مختلفة ومتتالية. وهو في عمله الجديد المتميز، "درب الآلام"، يعتمد ايضاً على العبر والتحليل التاريخي والنفسي لشخصياته ولتاريخ فلسطين واليهودية والصهيونية وصراع الأديان في القدس. وهو يخرج من كل ذلك عرضاً واعياً وقوياً وباحثاً ومنقباً، وفي نهاية الأمر متشائماً بسخرية. ولكنه ايضاً يطرق جديداً لا اظنه سينسى بسهولة: فهو يضع قضية فلسطين في جملة القضايا المعاصرة والمهمة مسرحياً في عقر دار المسرح المصهيَن في الولاياتالمتحدة كما وضع ادوارد سعيد القضية نفسها في عقر دار الأكاديميا المصهينة في الولاياتالمتحدة قبل نحو عشرين سنة من خلال كتابه "الإستشراق" وتاليه "تغطية فلسطين". وأظن أن الأول، أي مسرح هير، ما كان ممكناً لو لم يكن الثاني، أي كتاب سعيد، قد سبقه ومهّد له الطريق، ولو أن هناك نقلة نوعية مهمة في إخراج القضية الفلسطينية الى المسرح الأميركي نفّذها دافيد هير ببراعة فائقة وذكاء فذّ. وما أظنه في نهاية الأمر إلتزام فني وفكري عميقين، ولولاهما لما كان لهذه المسرحية ان تُعرَض في نيويورك بالذات بالشكل الذي تعرض فيه، على رغم شهرة مؤلفها وخلفيته وجنسيته وانتمائه الغربي بنهاية الأمر. فالمسرحية، على رغم أنها تعرض رأي الطرفين بنفسهما وبتاريخهما وبصراعهما من خلال مقابلات هير مع اشخاص حقيقيين وفاعلين على الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية، أهمهم حيدر عبدالشافي وبيني بيغن، ابن مناحيم بيغن الذي يشبه أباه في تعصّبه، وشولاميت ألوني الوزيرة السابقة والناقدة الجارحة لنتانياهو، ما زالت بنظر بعض المعلّقين الأميركيين، من اليهود وغير اليهود، مقلقة، إن لم يقولوا عنها مباشرة أنها منحازة، فقط لأنها تأتي بين وجهتي النظر المختلفتين وتمنح الطرف الفلسطيني مجالاً مساوياً للطرف الإسرائيلي لمناقشة مواقفه. ولأنها أيضاً، وبكل بساطة ومباشرة، تؤنسن الإنسان الفلسطيني وتسيّسه وتعرض آلامه، أي تمنحه الصفات الثلاث التي احتكرها الإنسان اليهودي في المخيّلة الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واجتراح إسرائيل في فلسطين بتأييد من الغرب، ربما كتكفير عن إحساسه بالذنب او كحل لأزمة مزمنة في التاريخ الأوروبي: أزمة التعايش مع الآخر اليهودي في الفراغ المسيحي الغربي. هذا هو على الأقل الإنطباع الذي خرجتُ به إثر قراءتي لمراجعة المعلّق المسرحي المعروف جون لار، في المجلة الثقافية الفاعلة في الولاياتالمتحدة "ذي نيويوركر"، الذي يرفض فيه أن يرى الأبعاد الإنسانية والتاريخية للمسرحية ويركّز فقط على أبعادها السياسية المحضة، وينتهي طبعاً برفضها. وهو في تعليقه الذي يقطر غلاً مغلفاً بهراء نقدي يرفض حتى ان يكتب كلمة فلسطين ويكرر أن "هير كتب المسرحية إثر زيارته لإسرائيل" على رغم ان هير نفسه يقول في المونولوج اكثر من مرة إسرائيل وفلسطين. وهذا في الحقيقة جديدة على أسماع النيويوركيين اليهود من حضور المسرحية، الذين رام عليهم السكون للحظات عصبية إثر تفوّه هير بالكلمة - المأزق للمرة الأولى، والذين كانوا خلال العرض يحاولون إخفاء مشاعرهم القلقة بالضحك بعصبية زائدة لأقل نكتة. ومع أن هير يستعمل إسم فلسطين كتأكيد منه على اعترافه بأحقيّة فلسطين في أن تكون، فهو ليس في الحقيقة مع فلسطين وضد إسرائيل. ربما كان افضل نعت لموقفه هو انه مع محاولة تفهم القضية كما تطرح نفسها اليوم ومع الإعتراف بحق الشعبين بالوجود الوطني من دون اي عودة للسؤال الأخلاقي الأساسي الذي ما زال يشغل بالي كمتفرج، او بالأحرى كإنسان عربي لم ينسَ التاريخ القريب بعد: على أي اساس قانوني او اخلاقي او تاريخي يمكننا تبرير اغتصاب فلسطين برمتها لإنشاء إسرائيل؟ ولكن هير، والحق يقال، يقارب في بعض طروحاته البعدين التاريخي والأخلاقي للقضية بكل عقدهما الشائكة التي لا بد وأن يواجهها كل إنسان حساس ومفكر خارجي عن المأساة نفسها، كأن يسأل واحدة من المستوطنات عن تبريرها لسكنها، فيما تعرف انه كان حتى في وقت قريب قرية فلسطينية، او كأن يعلق على لامعقولية ان يحتفظ 500 مستوطن بقلب الخليل تحت حراسة مشددة من 4000 عسكري إسرائيلي خوفاً من البحر الفلسطيني الذي يحيط بهم على شكل 150 الفاً من الخليليين، او كأن يلاحظ ان المتعصبين اليهود لا ينظرون الى التوراة على انها كتاب تاريخي بل على انها تعليمات للإستعمال الآني، او كأن يؤيد آراء حيدر عبدالشافي من خلال ملاحظاته عن تفشي السرقة والرشوة والمحسوبية والإستهتار بحقوق الإنسان في فلسطين اكثر مما كانته الحال تحت الإحتلال الإسرائيلي. وهو يفعل ذلك بحنكة ودراية منقطعتي النظير لأنه مدرك لحساسية طروحاته وقابليتها للإلتهاب، وواعٍ لميول وتعصّب متفرّجيه، المهذبين في نيويورك اكثر مما كان بعضهم في لندن في نهاية الأمر بما انهم لم يقاطعوه بموجة من السعال العالي والمفتعل كما فعل فوج من اليهود الأرثوذكس في لندن. ولن احاول حتى تخيل ما يمكن ان يواجهه هير فيما لو أمكنه ان يعرض مسرحيته في تل أبيب او القدس او غزة او بيت لحم او اريحا، ولو أنه من الواضح انه كتب مسرحيته لجمهور غربي حصراً، ولا أظنه يريد حتى ترجمتها إلى العربية او العبرية. هير، كما بدا لي يحاول في مسرحيته هذه ان يسبر العمق الذي يمكن له ان يغوص اليه في عرضه للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي امام متفرجيه الغربيين المؤيدين لإسرائيل بغالبيتهم العظمى قبل ان يفقد تعاطفهم المبدأي ثم انتباههم او استعدادهم للتلقي بعد ذلك وهذا على الغالب يحصل مع بعض المتفرجين بعضهم خرج في منتصف العرض. وقد لاحظت انه يدفع حافة النقد تصاعدياً خلال المسرحية من دون ان ينسى ان يكيل صفعات نقدية معنوية متوازية للطرفين، ولكنه بدا لي متحفظاً بعض الشيء في بعض اللحظات كما فعل حينما وضع الكلام عن سوء حالة سكان غزة وعن حتمية انفجارهم بسبب من الضغط العنصري الإسرائيلي والتعسفي السلطوي الفلسطيني على لسان المتطوعة الإنكليزية نيكول بدلاً من ان ينسبه لفلسطيني او فلسطينية ممن التقاهم وممن لا بد عبّر عن هذا الوضع المتأزم امامه كما لا بد يفعلون كل يوم في غزة وحتى هنا في كامبريدج. ولا ينسى هير ان يضع نفسه في قلب مسرحيته كواحد من شخصياتها بالإضافة لكونه المتقمص الوحيد لكل الشخصيات الأخرى والناطق المطلق باسمها جميعاً. وهو يدخل نفسه في المسرحية كإنكليزي ما زال يحمل بعضاً من ذكريات ومن أوزار الإنتداب وكمسيحي ما زالت القدس بالنسبه له محجاً وموئلاً وذكرى مقدسة للسيد المسيح الذي بشّر في دروبها وقضى على صليبه خارج أسوارها ودفن فيها. وهو لا يملك إلا ان يعلق على سخرية المشهد في كنيسة القيامة حيث تتنازع الطوائف المسيحية الشرقية الحصص في الكنيسة: 75 في المئة لليونان والباقي موزّع بين السريان والأقباط والأرمن واللاتين والأثيوبيين. ولكنه كذلك يصبح غامضاً عندما يخبرنا عن سبب اختياره اسم "درب الآلام" لمسرحيته، وهو الإسم الذي يحتمل اكثر من قراءة وقراءة. فهو يعتبر نفسه خارجاً عن الصراع كونه يتبع التقليد المسيحي. ولكن درب الآلام محفور في القدس نفسها، والتقليد المسيحي يستقي جذوره والكثير من رموزه من الأرض المقدسة ذاتها، وحتى هير نفسه لا يملك إلا ان يركع على ارض درب الآلام ويقبّلها بشغف مؤمن عندما تحين اللحظة في المسرحية التي يزور فيها القدس. وهذه برأيي لحظة مفعمة بالمعنى ولو ان المعلقين الأميركيين فضّلوا المرور بها من دون تعليق: كيف يمكن لهير، كمسيحي، ان يعتبر نفسه خارجاً في القدس؟ وإذا افترضنا جدلاً أنه لا يرى في القدس اكثر من ذكرى بداية المسيحية ولا يريد لنفسه او لقومه فيها اي وجود، فهو من دون شك يدرك ان بين الفلسطينيين مسيحيين، ولكن الإسرائيليين، ما عدا القلّة المتفتحة منهم، يريدون لدولتهم ان تكون حصراً يهودية بصرف النظر عن الحركات التجميلية السطحية من نوع انتخاب الآنسة رنا رسلان ملكة جمال إسرائيل هذا العام. وتبلغ المسرحية لحظة الذروة، وربما كذلك لحظة الميلودرامية البصرية المفتعلة، خلال وصف هير لزيارته للقدس بمحجّاتها وبقعها المقدسة، وهي لحظة مفعمة بالمعنى بالنسبة لي شخصياً بما أني مهتم بدلالات المباني وتأثيرها. فهو يبدأ بوصف محطات درب الآلام خلال مروره بها ويلاحظ أنها وإن كانت جميلة ومرهفة إلا أن الكثير منها يحمل في أعطافه آثار التأثيرات الخارجية على تشكله: فكنيسة روسية وأخرى غوطية وثالثة أنجليكانية، وعندما يصل في وصفه الى حائط المبكى يلاحظ قدمه ومهابته وآثار الخشوع حوله. ولكنه يلتفت بعد ذلك الى الأعلى وينبهر بقبة الصخرة المسيطرة على القدس كلها بقبتها الذهبية السامقة وتموضعها على قمة الحرم الشريف. وفي هذه اللحظة تفتح الخلفية خلف هير عن مجسم مصغر للقدس مع قبّتها المتلألئة وأسقفها القرميدية للحظات قبل ان تغلق ثانية. ومع ان في هذه الحركة الفريدة الكثير من الإفتعالية، لكنها لا تخفق ابداً في التركيز على سمو القبة فوق القدس كلها واحتكارها لقوة الترميز فيها بما يلغي اي دور لغيرها من المباني القائمة في القدس في إضفاء اي معنى آخر على المدينة. فعلاً ما زالت قبة الصخرة في القدس الوعاء الأهم والأقوى لمعاني القدسية والرهبة والخشوع في هذه المدينة المقدسة للديانات الكتابية الثلاث. وما زالت قائمة هناك تتحدى محاولات الإسرائيليين تهويد القدس بجمالها وكمالها المعماري وتلألئها الزخرفي وموقعها المجبول بالتاريخ. وما أظن الأمر بغافل عن دافيد هير الذي وضعها في اللحظة القمة في مسرحيته. وأنا كذلك مدرك لقوة قبة الصخرة المعمارية والمعنوية التي لا تجارى والتي تجعل المتعصبين من اليهود يحلمون باليوم الذي سيزيلونها فيه، ليس فقط لبناء معبدهم الذي لا نعرف عنه اي حقيقة تاريخية، بل لأنهم أيضاً واعون تماماً ان المدينة لن تصبح يهودية حقاً ما دامت قبة الصخرة قائمة فيها. * أستاذ مشارك لتاريخ العمارة، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الولاياتالمتحدة الأميركية.