دخلت القدس من باب دمشق. ولباب دمشق معي علاقة خاصة. عثرت ذات يوم بين أوراقي على "كارت بوستال" باهت بعض الشيء، يسيطر على ألوانه الباهتة اللون الأخضر الباهت أيضاً. ومكتوب عليه بأربع لغات - ليس من بينها العربية أو العبرية - "باب دمشق. حقوق الطبع محفوظة الاخوة سانافاتي. بيت لحم، الأردن". و"الكارت" مطبوع في الولاياتالمتحدة الأميركية. واحتفظت بهذا الكارت لأسباب غامضة، لسنوات طويلة، خصوصاً أثناء حملات التنظيف التي أقوم بها - مضطراً - بين وقت وآخر للتخلص من الأوراق التي تتراكم عندي. وبقي "الكارت"، أنقله بين البلاد التي أتنقل بينها حتى استقر معي في هولندا. وحينما قررت السفر إلى فلسطين، تذكرت "الكارت"، وأخرجته من بين الأضابير، وضعته فوق مكتبي، على وعد مني - له - بأن ارجع إليه حين أوبتي! ما أثار انتباهي في "الكارت"، وحرصي عليه، هو العنوان الذي يقول "بيت لحم، الأردن". والمتتبع لتاريخ الحروب الغابرة والمعاصرة قد يفوته أن ينتبه إلى "بيت لحم" ووضعها القديم أو الحديث على الخرائط، فبيت لحم ليست سوى ضيعة صغيرة مثل عشرات الضيع المشابهة في فلسطينوالأردن وسورية، ولكنها دخلت التاريخ لسبب خارج عن إرادتها: لأن السيدة العذراء مريم، ولدت المسيح هناك، في حظيرة للبقر، كما تقول الحكاية... أما القدس فقد نالت "تاريخها" من وضعها الجغرافي الخاص، ومن موقعها العاطفي المرتبط بتاريخها، وتاريخ الشعوب والأديان التي تقدسها وتتخذها قبلتها. وهكذا، وجدت نفسي أدخل القدس من باب دمشق، من دون ترتيب مسبق أو اتفاق، بل لسبب جغرافي بحت يتعلق بشبكة الشوارع المفضية إلى مدخل المدينة القديمة، والتي لا بد أن تأخذك وتقودك وتدخلك إليها عبر باب دمشق. ساعتها تذكرّت صديقي المهندس أحمد هشام الذي يعلق على جدار مكتبه في الدقي بالقاهرة ملصقاً كبيراً بعنوان "أبواب القدس". وسأذهب إليه - حينما ارجع إلى القاهرة - ونتأمل سوياً الملصق وسأرضي رغبته ورغبتي في الحديث عن القدسوفلسطين. فقد ذهب أحمد هشام أيام الدراسة في كلية الهندسة، في تلك السنوات - سنوات تأجيل الحرب في بداية عهد السادات بسبب الضباب، كما ادعى - ذهب ذات يوم إلى الأردن ليشترك مثل غيره في استرجاع فلسطين... التي لم يرها حتى الآن. * * * كنّا اتفقنا في مجموعة العمل التلفزيونية على أن نزور القدس مرة قبل جولتنا الكبيرة الموسعة في المنطقة، ومرة أخرى - أو مرات - بعد الانتهاء من الجولة. هذه هي الزيارة الأولى للعديد منّا ما عدا الزميل الذي جاء منذ زمن ليعمل متطوعاً في الكيبوتز، وألقت به الأقدار بعد ذلك في إسرائيل ليعمل مراسلاً صحافياً واذاعياً للصحافة الهولندية، قبل أن يختار العمل التلفزيوني. لهذا نصبناه دليلاً ومرشداً لنا في تجوالنا لمعرفته بالمنطقة ولمعرفته أيضاً بالعبرية التي تسهّل بعض الأمور. واليوم... هذه رحلتي الأولى لوحدي، من تل أبيب إلى القدس. كنت قد أتيت بالباص الذي لا يركبه الفلسطينيون من تل أبيب، بعد أن أوصلني صديقي الديبلوماسي الهولندي، من يافا حيث نقيم إلى تل أبيب فمحطة الباصات المركزية - هذا اسمها - وتركني لمصيري! ولأن الباصات من أهم وأسرع طرق المواصلات في إسرائيل، وفي أراضي السلطة الفلسطينية أيضاً، فلا بد من التوقف عندها قليلاً. المحطة المركزية للباصات في تل أبيب أكبر بكثير - لأسباب تاريخية وسياسية - من تلك التي في القدس، خصوصاً أن تل ابيب كانت العاصمة الفعلية لإسرائيل حتى العام 1967. ولأن الباصات هي وسيلة الانتقال الأساسية يوجد خط قطارات بطيء بين القدس وتل أبيب بمعدل رحلتين في اليوم فلذلك تكتسب الباصات أهميتها. نتيجة لهجوم "الانتحاريين" الفلسطينيين على الباصات، فقد تعززت الحراسة عليها، وعلى المحطات. فأصبح الباص قلعة صغيرة متحركة على اتصال مستمر بالراديو واللاسلكي مع غرفة عمليات مركزية، كما توجد حراسة مسلحة داخل الباص واضحة للعيان. بالإضافة للمراقبة المسلحة داخل المحطات وعلى مخارجها مدعمة بكاميرات تلفزيونية ونقاط تفتيش متحركة وفجائية. حتى بالنسبة إلى الباصات المحلية داخل المدينة، مثلما حدث، في المرة الثانية عندما استقليت الباص - المحلي - من شارع يافا المتوجه إلى محطة الباصات لأجد الباص يتوقف فجأة على مدخل المحطة المركزية ويقتحمه شخص يرتدي الثياب العسكرية ومعه "ووكي توكي" ويتمعن في الركاب ويختار شخصين رجلاً وامرأة في منتصف العمر ويقول كلمة واحدة آمرة فيتبعانه وقد امتقع وجهاهما. لم يعلق واحد من الركاب، وحينما سردت الواقعة بعد ذلك على العارفين ببواطن الأمور، قالوا لي إن ما حدث اجراء روتيني في نطاق سياج الأمن الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. ومن الملاحظ أيضاً أن جنود الجيش يتحركون بكثرة وبكثافة بواسطة الباصات وهم يحملون أسلحتهم، حتى ان كانوا في طريقهم إلى بيوتهم ومعسكراتهم أو العودة منها. بالطبع لم أكن أعلم - ولا حتى صديقي - ان ثمة سيارات سرفيس "مخصصة" للعرب تطبيقاً لنظام كل طائفة على حدة! لهذا حينما توجهت إلى البنت التي تجلس في الاستعلامات أسألها - بالانكليزية - عن موقف باصات القدس، لم أفهم نظرتها المتسائلة المندهشة، لكنها اعطتني المعلومات الضرورية وأرشدتني أين اشتري بطاقة الباص. وقد فعلت كل هذا بنية سليمة وبريئة، ويبدو ان جهلي ببروتوكولات السفر والحياة في فلسطين انقذني. في الباص، كنت أنا المندهش حينما رأيت الركاب يتجنبون الجلوس بجواري، حتى أتى جندي ومعه سلاحه واحتل المقعد المجاور. لعل الأمر تم كله بالصدفة، هكذا قلت لنفسي، لكن لم أقل ذلك لنفسي في المرة الثانية حينما أصبحت خبيراً بمحطة الباصات وبالمواعيد، وتحركت بخبرة داخل المحطة، واستقليت الباص المتجه إلى القدس ليجلس بجواري جندي بسلاحه... الخ! وهكذا من محطة الباصات الرئيسية في القدس، وبالسيارة المؤجرة، توجهت مع الزملاء في زيارتي الأولى إلى المدينة القديمة، فالمدينة الحديثة لا تثير الانتباه، فهي تشبه عشرات المدن الأخرى تلك التي تدعي لنفسها أهمية العاصمة الحديثة. هي بالفعل "حديثة" إذا ما طبقت عليها مقاييس المدن التاريخية الأخرى المجاورة، مثل دمشق، مثلاً... لذلك كانت حركتنا فيها مهدفة باعتبارها "معبراً" إلى المدينة القديمة التي لا تتجاوز مساحتها - التاريخية - كيلومتراً مربعاً واحداً. طبقاً للتعداد الرسمي الأخير الإسرائيلي فقد ازداد النمو السكاني العربي في القدسالشرقية القديمة بنسبة 29 في المئة، فقد كان عددهم العام 1967 حوالى 296 ألفاً ليصبح اليوم 630 ألفاً. وطبقاً لهذا الاحصاء، فإن نسبة الخصوبة العربية زادت بمقدار 9،4 في المئة، مقارنة باليهود الذين زادت نسبة خصوبتهم بمقدار 6،3 في المئة احصاء الجامعة العبرية. لكن ما يعنيني هنا هو المدينة القديمة التي تضم المزارات المسيحية والإسلامية المقدسة، و"الحائط الغربي" الذي تقول إسرائيل إنه جزء من حائط هيكل سليمان، ونطلق عليه نحن اسم "حائط المبكى". والحقيقة انني لم أرَ أحداً يبكي بجواره أو عليه، وانه حائط سياحي تماماً مثل حائط برلين، يطل على باحة واسعة يقسمها حاجز يفصل بين النساء والرجال. وحينما أتيناه وجدنا أنفسنا نقف في صفين أمام جهاز كشف المتفجرات الالكتروني: صف للرجال وآخر للنساء. أمامي كان يقف إسرائيلي بثياب مدنية لكنه يحمل بندقيته. تفحص الجندي الذي يراقب الجهاز ورقة يبدو أنها تصريح بحمل السلاح... وسمح له بالمرور بسلاحه. تتوافد أفواج السياح ومعهم آلات التصوير، ويحيط بالحائط الجنود المدججون بالسلاح، ويلتصق به بعض اليهود الذين يرتدون الثياب السوداء، يقرأون صفحات من التلمود ويهتزون إلى الأمام وإلى الخلف... تحيط بهم العلامات الارشادية بعدم التدخين خصوصاً يوم السبت والأعياد الدينية. في اليوم السابق، كنّا في جولة سريعة على المستوطنات التي تقع في حزام مدينة القدس، وقفنا على ربوة مرتفعة، ورأيت قبة مسجد الصخرة تشع في ضوء الشمس وبجوارها قبة المسجد الأقصى. هو شعور مقارب لذلك الذي أحسسته، حينما ركبت مع غيري السيارة الجيب من معتقل الواحات الغربية في طريقنا إلى اسيوط ومنها إلى القاهرة ليتم الافراج عنّا. فمع أنها السماء نفسها والأرض ذاتها اللتان كنت اشاهدهما بملل طوال سنوات المعتقل، بدت لي السماء يومها شديدة الاختلاف كأنها مصنوعة خصيصاً لهذه المناسبة، مصنوعة للحظة الحرية هذه... خصيصاً. أوقفنا السيارة في باحة تطل على باب دمشق. هذا هو "موقف" السيارات الفلسطينية الأهلية التي تأخذك إلى الضفة الغربية، إلى جزء من الأراضي "المحررة"، أراضي السلطة الفلسطينية ثمة موقف آخر للسيارات الأهلية التي تذهب إلى تل أبيب. تحيط بالباحة فنادق "عربية" بسيطة لعلها نجمة واحدة! وتحتها دكاكين عربية تبيع البقالة والمياه المثلجة، علقت على أبوابها أجهزة هاتف سوداء قديمة للاستخدام التجاري تماماً مثل الأحياء الشعبية في القاهرة، ومقاه ومطاعم صغيرة متناثرة تبيع الشواء والشاورما والفلافل... ليس للفول الشهير شعبيته المصرية! أدلف إلى باب دمشق، وقلبي يدق! هاانذا في المدينة الأشهر في العالم! أجد نفسي في ما يشبه الخان، خان الخليلي أو الموسكي، وسوق الحميدية. لا عجب، فأنا في مدينة عربية، أنا في قلب سوقها الشعبي الضيق المزدحم الذي يعج بالروائح والأصوات. أرضه من الاحجار الكبيرة التي "نعمتها" مئات الآلاف من الأقدام التي خطت عليها، والآلاف من الخيول التي دقت بسنابكها فوقها، وامتزج صهيلها بوقع سيوف فرسانها وصيحاتهم. باب دمشق يقودك هبوطاً عبر درج حجري إلى مجموعة من الممرات الرئيسية نحن لا نتحدث عن شوارع هنا: ممر الشيخ ريحان الذي يفضي بك إلى درب صغير متعارض هو "الميدنة الحمرا"، وممر آخر هو "سوق خان الزيت" المتقاطع مع درب "الآلام" الذي تقول الحكاية الانجيلية إن المسيح صعد فيه حاملاً صليبه إلى مكان الصلب وليس هناك تأكيد اركيولوجي لهذا... لكن "هذا" جزء من السحر الخاص بالمدينة. درب الآلام يحمل أيضاً اسماً لاتينياً هو "فيا دولوروسا". وخلف درب الآلام تقع كنيسة "الروح القدس". هذه منطقة "الحي المسيحي" شرقي المدينة القديمة ويكاد يلتصق بحائطها الشرقي. به مجموعة من الكنائس أشهرها كنيسة القيامة التي تعلوها كنيسة دير السلطان المتنازع عليها بين الكنيستين القبطية المصرية والقبطية الحبشية. عند نهاية الحي المسيحي تجد "باب يافا" ينطلق منه دربان صغيران: درب داوود، ودرب بار السلسلة. جنوبي باب يافا تجد الحي الأرمني، وإلى الشرق منه "الحي اليهودي" وجنوبه باب صهيون. باب السلسلة يفضي - مثل مجموعة أخرى من الدروب - إلى المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، وإلى الشمال من المسجدين تجد كنيسة "الجلد" التي يقال إنها بنيت في الموضع الذي تم فيه جلد المسيح بالسياط. ومنها إلى الشمال وعلى مسافة بسيطة يقع "الحي الإسلامي" - كما تسميه الخارطة! - الذي يفضي إلى باب هيرودس وهو الوالي اليهودي، نائب الحاكم الروماني الذي عاصر ولادة المسيح. وفي الطرف الشرقي من الحي الإسلامي تقع كنسية "القديسة آن" القريبة من الباب الشرقي، "باب السباع". وتحيط بالمدينة - خارج السور - مجموعة من الشوارع الرئيسية، أشهرها من الشمال شارع صلاح الدين الذي يتقاطع مع شارع السلطان سليمان الذي يحيط بالجدار الشمالي الشرقي للمدينة، ليتقاطع مع شارع أريحا المفضي إليها. بعض أجزاء السور مهدم، والبعض الآخر تم ترميمه، وبعضها بقي على حاله محتفظاً بقوته في مقارعة الزمان. هنالك مجموعة من الحفائر تقوم بها "هيئة الآثار الإسرائيلية" في محاولة محمومة لإثبات "يهودية" المدينة. مثل الحفائر في قرية سلوان الفلسطينية في الجنوب الشرقي من المدينة القديمة، بعد ان تم هدم القرية الفلسطينية تماماً بحثاً عن "مدينة داوود"! إن الذكر الوحيد في التوراة ل "مدينة داوود" نجده في "سفر صموئيل الثاني" وفي سفر "الملوك الأول" يتحدث عن مدينة اسمها أورشليم بهذا الاسم قبل أن يقتحمها داوود: "وسار الملك داوود ورجاله إلى أورشليم لمحاربة اليبوسيين سكانها، فقال له هؤلاء، وهم يظنون أنه لا يقدر أن يدخلها: "لا يمكنك أن تدخل إلى هنا فحتى العميان والعرج يصدونك". لكن داوود احتل حصن صهيون وهو مدينة داوود... وأقام داوود في الحصن واسماه مدينة داوود... وقال لرجاله: من يدخل المدينة أولاً أعينه قائداً...". وبالطبع ذهب إلى مكان الحفائر، التي لم تكشف شيئاً مهماً حتى الآن - على رغم مضي سنوات على التنقيب - بل أصبحت مكاناً سياحياً تأتي إليه الباصات السياحية تحت الحراسة المسلحة! الزيارة الأولى كانت من وجهة نظري للتعارف! فأنا لست ذلك السائح المتلهف على زيارة "المواقع السياحية" مهما كانت شهرتها. أحب أن أتجول على مهلي في المدن الغريبة عليّ. أدلف إليها ببطء، اتشممها. وأتلمس أحجارها، وأتأمل بناياتها وشبابيكها وحدائقها، وأجلس على مقاهيها. أريد "أن استوعب" ضجيجها واتفهم عجيجها! لكن المقاهي نادرة في المدينة القديمة. فكل شبر صغير مشغول ببضاعة ما: عطور، وزعتر، وفضيات، وطوابع بريد، وملبوسات فلسطينية، ومسابح وصلبان ونجمة سداسية كله في دكان واحد أحياناً وشمعدانات سباعية اسمها العبري "منورة" لها مدلول ديني وطقسي يهودي، وأيقونات مقلدة، وكاسيتات لأم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز وماجدة الرومي وكاظم الساهر، ومطاعم صغيرة، وتليفونات دولية تبرز من دكاكين، وصنادل وأحذية... الخ. لذلك تنازلت مضطراً عن المقاهي، وأخذت اتجول ببطء وأحياناً أتوه عن عمد عن الزملاء الذين يحملون ثقافة الغزو السياحي... ثقافة رؤية كل ما تحكي عنه الكتب والنشرات السياحية بأسرع ما يمكن، وفي أقل وقت ممكن