يمثل الحسين ميلودي مرحلة كثيفة في الفن التشكيلي المغربي بامتياز، الى جانب عبدالله الحريري وآخرين، فقد تلقى تعليمه على بعض الفنانين المؤسسين للتجربة التشكيلية المغربية في أواخر الستينات، مثل فريد بلكاهية، محمد شبعة، محمد المليح. غير ان ثلاثين سنة من الممارسة اعطت لتجربة ميلودي حضوراً مميزاً في المشهد الفني. وقد نعته ادمون عمران المليح بأنه أكثر الرسامين المغاربة سرية. نسج هذا المفكر علاقة غنية مع ميلودي سيما وأنهما ينتميان لنفس المتخيل الجمعي المرتبط بمدينة الصويرة. كل متتبع لأعمال ميلودي لا يمكن أن لا يثيره التوزع الكبير بين استمرار أسلوبه في الانشغال وتوتر البحث عن ذات في تحول مستمر. تلقى علومه في مدرسة الفنون الجميلة، أيام شهدت ما يسمى ب"جماعة الدار البيضاء"، محمد المليحي، محمد شبعة وفريد بلكاهية، فضلاً عن التشجيع الذي حفزه على الاستمرار في الرسم في ذلك الوقت اذ كان ثمة الحاح على ابراز موضوعات "الفن المغربي" و"الثقافة الوطنية" سواء ما عاد منها الى "الفنون الشعبية" أو الى "الثقافة العالمية"، ونظمت رحلات دراسية في مناطق مختلفة من المغرب، للوقوف عند المرجع الرمزي والتشكيلي الذي تزخر به الثقافة الشعبية، وللاشتغال على الرموز والعلاقات والاشكال الهندسية... الخ. وعلى الرغم من الصرامة التي كانت تسير بها المدرسة من حيث التكوين والمتابعة والتقييم أملى عليه مزاجه الخروج على القواعد التي كانت تلقن للطلبة، والانخراط في مغامرات شخصية. وأقام معارض أبانت عن هذا الاختلاف بين التكوين والانجاز، وقد استثمر مجموعة كبيرة من الرموز البربرية المحلية والعلاقات التي يشتغل عليه المتخيل الشعبي. ومنذ ذلك الوقت وهو مرتهن، بكيفيات مختلفة، الى هذه المرجعية، ولم يبدل اي مجهود نظري من أجل ذلك، لان الأمور أتت بشكل تغلب عليها العفوية. ولا يحركه في ذلك أي هم آخر سوى الرسم. بعد ذلك عاش مرحلة سوريالية، قصيرة نسبياً، بعد سفره الى باريس، في بداية السبعينات، وعاد الى أسلوبه الأصلي، شاعراً بضرورة التغيير في علاقته باللوحة هنا انخرط في مرحلة جديدة تتميز بالصراع داخل اللوحة بين النظام واللانظام، والأشكال المختلفة للتفجر، ثم اهتم في بداية الثمانينات بصور المخطوطات، واشتغل على كثير من الاشكال والخطوط التي تختزنها والتوقيعات التقليدية، وما زالت هذه التجربة ممتدة الى الآن. يشعر ميلودي كما يعبّر بتقارب كبير مع الكون الشعري، وله تعاطف خاص مع الشعراء، كما هو الشأن مع المهندسين المعماريين، والعمل المشترك بين الشاعر والرسام لا يعني أن هناك نقصاً ما يعانيه أحدهم في نظره، ليس لأن الشاعر لا يرسم معناه أنه يشعر بإحساس معين، والعكس صحيح، فهما يتكاملان، ويعطيان قطعة جميلة تشبه القطعة الموسيقية وكأنه لحن مشترك. لا يقوم بتزويق أو زخرفة للكلمات، بل بمصاحبة حميمية للقصيدة، لدرجة أن نصوص الشاعر مصطفى النيسابوري في عمله الاخير خلقت لديه قلقاً حقيقياً دام أكثر من ثلاثة أشهر، لكن الحيرة التي ولدتها أملت عليه سلوكاً لإعلان مشاركته الخاصة في القصيدة، حيث أنجز ستين رسماً لهذا العمل، وهو ليس سهلاً على كل حال. فهو لا يريد أن الاشتغال تحت تأثير النص، بل بخلق المناخات الخاصة التي تستلزمها العملية الابداعية، للآخر حضور أكيد في المشهد بلا شك، ولكنه عمل شخصي محض، لأنه يقاوم الشعور بأنه موجه من الخارج. ميلودي ابن مدينة "الصويرة"، و بابتعاده عنها اكتشف الى أي حد هي غنية بأنظمة الرموز التي تستهويه، فضلا عن أنها مدينة ملغزة. ولا يدعي أنه يفهمها تماماً، من حيث إيقاعها ونمط حياة ناسها وأشكال تعبيرها ومظاهرها التشكيلية... الخ. سافر كثيراً، لكنه يشعر بحاجة حيوية للاستيحاء من "الصويرة". كما أنه لا يخفي معاناته الحقيقية بوجوده فيها ، فهي "مدينة ظاهرة" في علاقتها بالفنون التشكيلية، هناك مئات الرسامين، كما أن الخارج يتحدث عن هذه المدينة وكأنها "عاصمة الفن" في المغرب، وهذا ليس صحيحاً نهائياً. أنه يعرف ما يجري في كل تفاصيله، ويعرف دور بعض الأجانب في تشويه العمل التشكيلي، وقد أصبح البعض منهم خطراً حقيقياً يتعين التنديد به. صحيح أن المدينة تختزن طاقات هائلة، لكن الاسلوب التجاري الطاغي لا يترك العمل الابداعي يختمر ويتطور ويأخذ مداه المناسب. يرى ميلودي ان وضع الرسم في المغرب وضع مرتبك، وأن غياب النقد ساهم، بشكل ما، في هذه الحالة، كما أن الاعلام حين يفسح المجال لبعض الظواهر الشاذة، فان ذلك، يشجع الميوعة والرداءة. فضلاً عن أن الرسامين تشتتوا ولم تعد لهم أطر لتنظيم عملهم، والسوق يعرف ركوداً مثيراً، اذ تقام معارض من مستوى عال في الدار البيضاء والرباط ولا تلقى الاقبال الذي كان يميز العلاقة مع اللوحة في السابق، لدرجة ان الفنان يجد نفسه يصرف على معارضه ولكن بدون مردود يذكر.