ربما يفاجأ اللبنانيون اذا علموا ان مدينة الصويرة المغربية هي تصغير لكلمة "صور"، اهم مدن فينيقيا. هذا التقارب الاسمي وأسباب حصوله يعرفها كل مهتم بتاريخ المغرب يعلم ان الفينيقيين وفدوا على سواحله قادمين من لبنان البعيد على متن سفنهم للتجارة مع سكانه، واستطاعوا بذلك الوصول الى الموقع الحالي مدينة الصويرة في جنوب المغرب على سواحل المحيط الاطلسي، واستقروا في موقع المدينة وتركوا آثاراً لا تزال قائمة وتشهد على علاقتهم بأهل المنطقة. هذه المدينة التي لم يتغير اسمها منذ اقدم العصور تعني باللغة الفينيقية "الصخور". فهل اطلق الفينيقيون على جزيرة الصويرة كلمة "صخيرة" لما شاهدوا بالقرب منها عدة جزر صخرية او صخيرات، فتحولت "الصخيرة" الى الصويرة، كما تحولت الصخور الى صور؟ هذا سؤال من بين الاسئلة الكثيرة التي تطرح حول أصل هذه المدينة المغربية الاسطورية التي عرفت بأسماء مختلفة بعضها موثوق به ومحدد استعماله زمنياً، والبعض الآخر يقترحه بعض الباحثين المعاصرين. وهناك مؤرخون اغريق ورومان أشاروا اليها، كما ان هناك علامات دقيقة تربط بين بنايات ومنشآت ترجع الى الملك "يوبا الثاني". الا ان البعض يرى بأن مدينة الصويرة لم تحمل طيلة عصورها التاريخية مصطلحاً آخر غير مصطلح "سور"، وهو مصطلح جاء في صيغة مفخمة في اللهجة البربرية "امكدول" او السور الكبير، وقد ظهر هذا المصطلح من خلال معظم المصادر الاسلامية للدلالة على "موكادور". وفي صيغته العربية جاء مصغراً "الصويرة" او السور الصغير، ولم ينتشر هذا المصطلح الاخير بكثرة الا بعد اعادة بناء مدينة الصويرة في عهد الملك محمد بن عبدالله سنة 1764. يقول المؤرخ الصديقي في "ايقاظ السريرة في معرفة الصويرة": "اما تسميتها بموكادور الذي تداولته الالسن ويجري على السنة الاعاجم والبحارة وغيرهم فهو تحريف من تسميتها باسم صالحها المشهور "مكدول" الذي تحول بتوالي السنين والاعوام الى مكدور، وهكذا يقال والظاهر ان بقعة الصويرة المتحدث عنها كانت معمورة في اقدم العصور وتسمى الصويرة". غير ان المدينة ارتبطت، في ما بعد، بالسلطان محمد بن عبدالله حين اتخذها ميناء اساسياً لمبادلات المغرب مع الخارج، وذلك ابتداءاً من 1773 حين فتحها للتجار الاجانب وخصها بامتيازات جمركية جعلها تتفوق على غيرها من الموانئ المغربية. وبهذه المبادرة بعث السلطان نفساً جديداً في المنطقة وانعشها مع المغرب وللتجار المغاربة، وبالخصوص منهم اولئك الذين كانوا يرتادون بلاد افريقيا السودان على يد القوافل المتواصلة والمخترقة للصحراء الغربية. واهتم السلطان محمد بن عبدالله اهتماماً كبيراً بالجهاد البحري، فاتجه الى تبني سياسة دفاعية تهدف الى الوقوف في وجه الاطماع الاوروبية وقتئذ، لا سيما الاسبانية والبرتغالية. وقام بتجديد فن بناء السفن لجعلها قادرة على مواجهة اهوال المحيط وعلى التصدي للسفن الحربية الاوروبية، وعياً منه للأهمية الاستراتيجية للثغور المغربية على المحيط الاطلسي، والاهتمام المتزايد لهذا المحيط في المواصلات الدولية. ويقول كاتبه وسفيره احمد بن المهدي غزال في "نتيجة الاجتهاد": "وقد بنى بهذا الثغر المبارك العدد الكبير من التجار دورهم حتى ضاق عليهم، واسقط سيدنا - أيده الله - على من يتردد اليه او يؤويه بقصد التجارة ما يجب عليه من الوظيف في وده وجمعه، فانقادت اليه التجارة من جميع الاجناس حيث تحقق لكل منهم بالحصول على ربحه ونفعه فهو في غاية العمارة". وروعيت في بناء ميناء مدينة الصويرة اعتبارات عدة، منها موقعها بين آسفي شمالاً وآكادير جنوباً علاوة على كونها لا تبعد كثيراً عن مدينة مراكش، عاصمة البلاد آنذاك، وتعزيز حركة المعاملات التجارية مع الخارج وتأمين شروط مواتية للتواصل الديبلوماسي لانعاش المبادلات التجارية. وفي هذا الاطار لعبت العائلات اليهودية دوراً حاسماً في الازدهار التجاري والمالي لمدينة الصويرة ما بين النصف الثاني للقرن الثامن عشر والنصف الثاني من القرن التاسع عشر. اذ تراوح عدد اليهود ما بين 30 و40 في المئة من سكان المدينة، ومن الباحثين من يرى ان نسبتهم تفوق ذلك بكثير. وكان السبب الذي جلبهم اليها الامن الذي كانت تعيشه ورواج التجارة وتمتعهم بحقوقهم الدينية والمدنية. وعاش اليهود مع المغاربة في نطاق ما يحدده الشرع في الكتب الفقهية لأهل الذمة، وأصدر السلطان محمد بن عبدالله سنة 1764 "ظهيراً" ينص على معاملة اليهود في المملكة من قبل الاداريين والمواطنين طبقاً للعدل واعتبارهم متساوين امام المحاكم. واستفادوا بذلك من رعاية استثنائية من جانب هذا السلطان لدرجة انهم سُمّوا ب "تجارة السلطان". واستطاعت الصويرة ان تؤدي مهمتها كأحد الثغور التي راقب فيها "المخزن" الدولة المغربية التقليدية تحركات الاوروبيين على شواطئ "سوس" والجنوب المغربي، وادت مهمتها في اطار تنظيم التبادل التجاري الخاص بالبضائع الاوروبية والبضائع الواردة من سوس والصحراء وتنبكتو بواسطة طاقم من التجار اليهود والمسلمين، وشكلت مصدراً لمداخيل هامة لبيت المال. الرياح... ظاهرة فريدة تعرف مدينة الصويرة، من جهة اخرى، ظاهرة فريدة من نوعها تميزها عن باقي المدن الشاطئية المغربية، وهي ظاهرة الرياح الشديدة لدرجة ينعتها البعض ب "مدينة الرياح". وهي تقع في موضع متميز على الساحل الاطلسي، فوق رأس قاري يمتد داخل عرض المحيط وتتقدمه جزيرات انفصلت عنه اكبرها واهمها "موكادور". ولا ريب ان لوطأة الرياح نتائج مباشرة على بعض المظاهر الحضارية والاقتصادية والصحية بالمدينة. والهبوب القوي للرياح يجري في شريط ساحلي ضيق لا يتعدى احياناً كيلومترات عدة. وتهب الرياح في فصلي الربيع والصيف خصوصاً، اما في الخريف والشتاء فتكون المدينة دافئة وهادئة، مما يشجع السياح، من كل القارات، على زيارتها، ووصل الامر بالبعض منهم حد السعي الى الاستقرار الدائم او المؤقت فيها، من خلال شراء منازل والاقامة فيها داخل المدينة القديمة. لا تتمثل جاذبية مدينة الصويرة في طبيعتها المناخية فقط، بل كذلك في هدوئها وطيبة سكانها ومسالمتهم، وايضاً للغنى الثقافي والفني الكبير الذي تختزنه، بمدارسها القديمة ورباطاتها وزواياها الكثيرة، او بارتباط الناس ببعض اوجه الثقافة التقليدية والانواع الغنائية والموسيقية القديمة، وتعدد الفرق الموسيقية فيها التي تنتمي لطائفتي "شيشاوة" و"احمادشة". الا ان اكثر الفرق شهرة وبروزاً هي فرق "كناوة". ولهذا السبب اصبحت مدينة الصويرة نهاية الستينات حجاً لمجموعات "الهيبيين" الذين جاؤوا بكثرة، ومن بينهم مغنون موسيقيون كبار مثل كات ستيفنس وجيمي هاندريكس وآخرون من نجوم الموسيقى، وكذا بعض الفرق المسرحية مثل ليفينغ تياتر التي شدتها بعض الظواهر الموسيقية في المدينة لا سيما فرق "كناوة" لدرجة دفعت البعض الى القول بأنه اذا كانت آلة "الكنبري" في الصويرة هي "آلة الفقير" فالعناية التي اظهرها الهيبيون بهذه الموسيقى في الستينات ساهمت في نشرها واعطائها مشروعية فنية. ويندهش الجميع من التقارب بين موسيقى كناوة وموسيقى الجاز او "الريكي". واستوطنت قرب المدينة بناحية "غزوة" جماعة من الكتاب والفنانين من بلدان غربية مختلفة. لم تغر الصويرة الاجانب فقط، بل جذبت بعض الكتاب المغاربة ايضاً الذين جعلوا منها فضاء لكتاباتهم وعلى رأسهم محمد زفزاف الذي كتب روايتين: "الافعى والبحر" - 1979، و"الثعلب الذي يظهر ويختفي" 1985 وادموند عمران المليح وهو ابن المدينة اصلاً، الذي اعترف ان كل رواياته من "المجرى الثالث" الى "عودة ابو الحاكي" هي روايات "تستلهم عالم الصويرة، بل وتتخذه احياناً ذريعة لإعادة قراءة التاريخ الوطني روائياً". وعمران المليح يهودي يعتز بمغربيته وعروبته ويرفض رفضاً مطلقاً ان يكتسب هوية اخرى، وهو من مؤسسي "الحزب الشيوعي المغربي" في الاربعينات وأحد أشد المناهضين للحركة الصهيونية. وركز زفزاف في رواياته على مواضيع اللذة والعنف والحال. وهو يعتبر الصويرة في "الثعلب الذي يظهر ويختفي" كالمرأة، اذ ان "مدينة الصويرة كالمرأة والمرأة هي المفتاح والقفل معاً". فهي فضاء مسالم يؤوي اجناساً وتناقضات مختلفة تتساكن وتتحاور احياناً، تتنافر وتتناحر. والصويرة، عنده، فضاء جميل ومسالم مشرع على كل الثقافات والاجناس، ومكان للبحث عن الخلاص المستحيل معتبراً ان اكثر الشباب الغربيين الذي يحج اليها انما يفعل ذلك بقصد العثور على علاقات اكثر انسانية وعلى عفوية الحياة وبساطتها. وتؤمن هذه المدينة، بدون ادنى مبالغة، كثيراً من شروط التمتع بهذه الفرص. وللألوان والاشكال والرسوم مكانة بارزة ايضاً في الصويرة، الى درجة ان نسبة من يشتغل في الفنون التصويرية في المدينة تفوق عدد المشتغلين بها في المدن الكبيرة قياساً الى عدد السكان. وسواء كانوا رسامين محترفين معترف بهم وطنياً ودولياً، او من الهواة او من الناس البسطاء الذين وجدوا انفسهم منغمسين في عالم الرسم لضمان لقمة العيش، او بسبب المضاربات التي ادخلها بعض الاجانب الذين فتحوا محلات لهم بالمدينة لتسويق اعمال الصويريين بالخارج، فان المرء لا يمكن ان لا يندهش من الاهتمام المثير الذي يعبر عنه اهل الصويرة من كل الاعمار، بالرسم والصباغة والالوان والاشكال. وذكر احد الفنانين التشكيليين يوماً بأن الصويرة هي مدينة البحارة والصناع التقليديين وعباد الله. وربما لأنه منخرط في العمل التشكيلي فضل تجنب الاشارة الى الصفة التشكيلية البارزة على حيطانها وواجهات محلاتها، بل وحتى على طريقة صباغة سفنها. وبالاضافة الى الخاصيات المشار اليها، فإن للمدينة علاقة خاصة بالزمن لا تنتمي لا الى المغرب ولا الى العالم. والمظاهر الاستهلاكية التي جرفت المغاربة في المدن الكبيرة والمتوسطة، لا وجود لها في الصويرة الامر الذي يجعل من "مدينة الرياح والفنون" فضاء هادئاً، مسالماً، ساحراً يحوز جاذبية انسانية يصعب العثور عليها في مدن مغربية اخرى.