مايكل جي. هوغان تحرير - ترجمة محمد أسامة القوتلي. نهاية الحرب الباردة - مدلولها وملابساتها. وزارة الثقافة، دمشق. 1998. 478 صفحة. استغرقت ترجمة هذا الكتاب ومراجعته وطبعه أكثر من سنتين. ومعه أن كتب على الغلاف أنه من اصدارات عام 1998، إلا أنه لم يصدر في الواقع إلا في مطلع شهر شباط فبراير من العام الحالي. والكتاب مجموعة أبحاث ومقالات جادة لدراسة نهاية الحرب الباردة بمدلولاتها وملابساتها. إذ ما تزال هذه المدلولات والملابسات، في رأي المحرر، تستدعي تفسير الباحثين المهتمين بالديبلوماسية الحديثة. وهذا ما دعاه إلى أن يستحث عدداً من كبار الباحثين للكتابة. ويقول في هذا الصدد: "كان هدفي تجنيد اسهامات من اختصاصيين بارزين يمثلون مختلف حقول الدراسة ومختلف أوجه النظر. وقد أعطيت المساهمين تفويضاً مطلقاً ليتطرقوا إلى تناول أي جانب يرونه مهماً من جوانب هذا العنوان الكبير: نهاية الحرب الباردة... ليس من أجل المستقبل فحسب، بل من أجل الطريقة التي ننظر بها إلى الماضي أيضاً". شارك في إعداد هذا الكتاب اثنان وعشرون باحثاً ومؤرخاً ينتمون إلى بلدان عدة، خصوصاً الولاياتالمتحدة وبريطانيا وروسياوفرنسا. اذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: ريتشارد ج. بارنيت، باحث لدى "مؤسسة دراسات السياسية"، وهو مؤلف لاثني عشر كتاباً في السياسة الخارجية الأميركية والاقتصاد الدولي، ونعوم تشومسكي العلامة الأميركي المعروف، ودينيز آرتو الباحثة المتقدمة لدى "المركز الوطني للبحث العلمي" في فرنسا، واليكسي فيليتوف الباحث لدى "معهد تاريخ العالم" في موسكو، والذي اعد كتاباً بعنوان "التاريخ الموثق للحرب الباردة"، وجون لويس غاديس مدير "مؤسسة التاريخ المعاصر" في جامعة أوهايو، وديفيد رينولدز المختص في العلاقات البريطانية - الأميركية في جامعة كمبريدج، وأخيراً لا آخراً مايكل ج. هوغان أستاذ التاريخ في جامعة أوهايو، ومحرر هذا الكتاب. سجّل هدم جدار برلين في أواخر 1989، على نحو رمزي، بداية النهاية للحرب الباردة بين الشرق والغرب. كان هذا الحدث الكبير الذي هيأ السبيل أمام إعادة توحيد المانيا، ووضع نهاية ل"الامبراطورية السوفياتية" في شرق أوروبا، قد سبقه قبل ذلك اصلاحان مهمان الغلاسنوست والبيريسترويكا وضع تصميمهما الرئيس السوفياتي غورباتشوف. وعقب أحداث عام 1989، انتقل تركيز وسائل الاعلام انتقالاً فجائياً إلى التطورات في الشرق الأوسط، وبخاصة حرب الخليج، وإلى "العالم الجديد" الذي علّق عليه جورج بوش الآمال. ولم يكن هناك متسع من الوقت للتأمل بعناية في ما كانت الحرب الباردة تعنيه لحكومات العالم وشعوبه. واتسمت المقالات والتعليقات الكثيرة التي ظهرت آنذاك حول "سقوط" الاتحاد السوفياتي وانهيار النظام الاشتراكي بالطابع الصحافي المتسرع والمتصف بالابهار أو التسطيح. ولم يتسن للدراسات الجادة التي يعدها باحثون ومحللون سياسيون مختصون أن تظهر إلا بعد سنتين على الأقل من وقوع الحدث. ومع توارد هذه الدراسات كان من الطبيعي أن تكون هناك تفسيرات مختلفة واستنتاجات متعارضة. وكانت هناك خلافات في وجهات النظر بين الباحثين والمؤرخين حتى حول تحديد نقطة البداية في الصراع أو المواجهة الأميركية - السوفياتية. إذ رأى بعضهم أن الصراع يعود إلى محاولات البلدين ملء فراغات القوة المتخلفة عن الحرب العالمية الثانية، أي صراع على النفوذ. وذهب هذا المذهب آرثر شليسنجر وجون غاديس. في حين رأى آخرون ان المواجهة أو "الحرب الباردة" هي في الأساس صراع ايديولوجي، وهذا ما أكد عليه الباحث جون مويلر. لم ير الباحث الروسي اليكسي فيليتوف في الحرب الباردة معركة عقائدية بالدرجة الأولى، بل صراعاً عسكرياً وجيوسياسياً أضاع فرص الحوار. وهو يعتقد أن الحرب الباردة عززت من قبضة متشددي الكرملين ومن اختفاء المشروعية على الشيوعية. ورأى بارنيت في هذا الصدد، متوافقاً مع فيليتوف إلى حد ما، انه كان من الممكن وضع حد عاجل للصراع المتمادي بين الشرق والغرب لو أن الولاياتالمتحدة كانت أقل ميلاً نحو المجابهة، وأكثر رغبة في التفاوض. أما الباحثة الفرنسية دينيز آرتو فهي تسلك مسلكاً وسطاً يجمع ما بين عنصري الصراع معاً: الايديولوجيا والمصالح المتعارضة معاً. وتسلم الباحثة بأن الشيوعية هُزمت، وهي إلى اضمحلال، ولكن هذا لا يعني الانتصار الكامل للرأسمالية التحررية الليبرالية، وبالتالي نهاية التاريخ. إنها تفضل أن تنظر إلى نهاية الحرب الباردة بوصفها فصلاً واحداً في صراع أطول أمداً ما بين الحرية والعبودية، بين الديموقراطية والتوتاليتارية. وذهب الباحث الأميركي صموئيل ويلز مذهباً يتوافق مع النغمة السائدة في الاعلام الأميركي والتي تقول إن الحشد الدفاعي في عهد الرئيس ريغان حرب النجوم هي ما حَدَت بالسوفيات أخيراً للاستسلام للعم سام. فهذا البرنامج أرغمهم على الاعتراف باخفاق نظامهم الاقتصادي، وبعجزهم عن منافسة الولاياتالمتحدة في انتاج مثل تلك المنظومات العسكرية الحديثة التي اطلق عليها مبادرة الدفاع الاستراتيجي. ورأى غارتوف وبارنيت أن ضغوط سباق التسلح عملت على تسريع الانهيار السوفياتي ولكنها لم تكن العامل الأوحد. وجادل ستيل في أن القادة الأميركيين بالغوا دوماً في القدرات العسكرية للاتحاد السوفياتي، مما أدى إلى خلق العدد الذي هم بحاجة إليه لتبرير السياسات التي كانوا يتبعونها. وعند الحديث عن الرابحين والخاسرين نجد القناعة متوافرة عند عدد كبير من الباحثين بأن المانيا هي الرابح الأكبر من نهاية الحرب الباردة. ويجادل باحثون آخرون في أن هزيمة روسيا في الحرب الباردة لا تعني بالضرورة انتصاراً لأميركا، كما ان سقوط الشيوعية لا يعني حكماً انتصار الرأسمالية، فمستقبل الرأسمالية والديموقراطية في الاتحاد السوفياتي السابق - كما ترى الباحثة الفرنسية آرتو - ما يزال موضع شك كبير. كذلك يختلف المساهمون في هذا الكتاب حول ما يخبئه المستقبل. فهل تعني نهاية الحرب الباردة نهاية الاجماع السياسي في الولاياتالمتحدة، وإحياء المعارك الاقليمية والاقتصادية والحزبية والعقائدية المريرة حول السياسات المحلية والخارجية؟! إلا أننا نجدهم يتفقون تقريباً على استبعاد اشتعال حرب كونية بين الكتل الكبرى. فقد أصبحت سمة العصر اتكال البلدان المتطورة والنامية على حد سواء على بعضها بعضاً بصورة متزايدة، كما باتت أكثر ميلاً إلى قيم السوق والديموقراطية السياسية. ويشذ عن هذا الاجماع كل من الباحث النرويجي لونديستاد مدير مؤسسة نوبل والبروفيسور لافيبر أستاذ التاريخ في جامعة كورنيل، فهما يريان ان نهاية الحرب الباردة قد تؤذن ببداية حقبة جديدة من المنافسة الكونية بين الولاياتالمتحدة واليابان والجماعة الأوروبية. ويستشرفان عالماً مقسماً إلى كتل نقدية متنافسة، مشدودة إلى معركة اقتصادية تتصف بالحدة والخطورة. أما الباحثة الفرنسية آرتو فهي تصر على أن الحرب الباردة لم تنته طالما أن هناك صداماً حول المصالح الحقيقية والثابتة. وهي تعتقد ان أوروبا ستظل على المدى الطويل بؤرة التوتر بين الولاياتالمتحدة وأية دولة تحل محل الاتحاد السوفياتي السابق. وتختلف الآراء ثانية حول مستقبل العالم الثالث، والعلاقة بين العالمين الأول والثالث. ففي حين يسلّم معظم الباحثين بحتمية النزاعات المحلية في العالم الثالث، ينفرد الباحث جون مويلر استاذ العلوم السياسية في جامعة روتشستر بنظرة متفائلة. وهو يرى ان القوى الكبرى فقدت اهتمامها بالنزاعات المحلية، وهي تميل إلى التعاون مع دول العالم الثالث لاحتواء النزاعات الاقليمية حرب الخليج كمثال. أما تشومسكي وكاميتز ولافيبر فينظرون نظرة متشائمة، بل لعلها واقعية. فسقوط الشيوعية ونهاية الحرب الباردة لن يخفضا، في رأيهم، من اعتماد أميركا على موارد العالم الثالث، وبالتالي استمرارها في ممارسة سياسة الهيمنة. والنزعة التدخلية في السياسة الأميركية التي تعود في تاريخها إلى ما قبل الحرب الباردة ستستمر، بل ستزداد، بعد زوال "المكابح السوفياتية" لها. ويؤلف اختلاف الآراء المعبر عنها في صفحات هذا الكتاب أحد عناصر قوة الكتاب الأساسية. وليس اختلاف الرأي مدعاة للدهشة، فأسباب الحرب الباردة ونتائجها هي قضايا شديدة التعقيد، عكف المؤرخون على مدى سنوات عدة على تحليلها من دون التوصل إلى اجماع في الرأي. وكان الأمر الأكثر مثاراً للتحدي هو التنبؤ بالمستقبل، ولكن إذا كان المساهمون قد اختلفوا على ما يخبئه المستقبل، فإنهم متفقون تمام الاتفاق على قيم التاريخ. لا بد ان أنوه أخيراً بجهد المترجم، وبالاضافات الغنية من الهوامش والحواشي التي أضفاها على الكتاب، مفسراً للقارئ الكثير من المصطلحات والتسميات.