تشهد الذكرى العاشرة لسقوط جدار برلين العدد المتوقع من الكتب التي تتناول الحرب الباردة تأريخا وتحليلا. لكن ما يُفتَقد من بين الاصدارات مؤلَف من نوع "كتاب الحرب الباردة" الذي يحمل مختارات من أدبياتها. ذلك ان لكل من الصراعات الرئيسية خلال القرن، مثل الحربين العالميتين والمواجهات الاقل شمولا كالحرب الأهلية الاسبانية، كتاباً من هذا النوع. أما الحرب الباردة، التي استمرت اربعة عقود وشملت كل القارات وقتل فيها ما لا يقل عن عشرين مليون شخص، اي ما يساوي قتلى الحرب العالمية الأولى، فلا تزال تنتظر كتبا من هذا النوع تستعيد تاريخها على صعيد التأملات والمساهمات الأدبية. لكنها رغم هذا الافتقار، بعد عقد على زوالها، تعود الى الظهور في مجالات ثقافية غير متوقعة. ففي ألمانيا، البلد الذي تحمل العبء الأكبر من الحرب الباردة في أوروبا، نشرت صحيفة "تزايت" أخيرا ملحقا عن الأدب الألماني والحرب الباردة. كما تشهد المانيا عموما موجة من "الحنين الى الشرق"، أي الى أيام دولة المانياالشرقية، تمثلت اخيرا في فيلم "زونيناليه" الذي تدور احداثه هناك خلال 1971. وفي الولاياتالمتحدة يخوض السناتور جون ماكّين معركة الترشيح للرئاسة معتمدا الى حد ما على تجربته عندما كان أسيرا في هانوي خلال حرب فيتنام، كما وصفها في كتابه "ايمان أجدادي". واذ يستمر الأدب الانكليزي في اهتماماته المحلية، او التاريخية التي تخص عهد الامبراطورية، فان ثلاثا من الروايات الأميركية الأهم - "تزوجتُ شيوعيا" لفيليب روث و"اندر ورلد" لدون ديليلو و"خليج هافانا" لمارتن كروز سميث - تناولت دور الحرب الباردة في تشكيل المخيلة المعاصرة. ويعتبر روث وديليلو أن ثقافة أميركا ارتبطت في شكل لا يقبل الفكاك مع عقود تلك الحرب. وقد قال روث ان رواياته الثلاث الأخيرة تناولت الاحداث التاريخية الأقوى تأثيرا على الحياة الأميركية، وهي الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام وصعود المكارثية. فيما تبدأ رواية ديليلو بوصف لمسابقة بيسبول في تشرين الاول اكتوبر 1951، يحضرها مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي ادغار هوفر، الذي يفكر اثناءها بالقنبلة النووية الأولى التي فجرها السوفيات وقتها. ثم تصل الرواية الى أزمة الصواريخ مع كوبا في 1962، والصيحة الشهيرة من الهزلي ليني بروس: "سنموت كلنا!". وفي "خليج هافانا" يذهب أركادي رينكو، بطل رواية "غوركي بارك" الشهيرة، الى كوبا مفتشا عن سياق في عالم ما بعد الشيوعية. اضافة الى هذه الروايات هناك اليوم أصداء كثيرة متفرقة من الحرب الباردة تشكل مجتمعة لوحة فسيفساء تذكارية عنها. وكانت تقارير كشفت قبل فترة عن تشجيع ال"سي آي أي" لمدرسة التعبيرية التجريدية في الرسم لمواجهة مدرسة الواقعية الاشتراكية. الا ان كتاب "من دفع للعازف؟ السي آي أي والحرب الباردة الثقافية" لفرانسيس ستونور سوندرز بيّن أن تدخل السي آي أي في مجالات الثقافة والفن كان أوسع بكثير. ويصف الكتاب الدور الذي لعبته شخصيات مثل الروائيين آرثر كويستلر وجورج اورويل والشاعر ستيفن سبندر والاعلامي مالكوم مكرج في الحملة على الشيوعية. وتشهد جمهورية تشيخيا حاليا جدلا عنيفا حول اعادة بث المسلسل البوليسي من العهد الشيوعي "30 قضية للرائد زيمان" التي يواجه البطل خلالها تشكيلة من المعادين للنظام، من المتعاونين مع النازية الى فرقة موسيقى الروك في السبعينات "بشر من البلاستيك". كما انعكست الحرب الباردة في جوائز نوبل للأدب، كما في نيل الشاعرة البولندية فيسلافا جيمبروسكا لها، هي التي رفضت الشيوعية، ثم الروائي البرتغالي خوزي سارامانغو الذي انعكس التزامه الشيوعي في معارضته الطويلة للفاشية في بلده. وبالطبع فان الفائز الأخير بالجائزة غونتر غراس من أهم مؤرخي مفارقات الوضع الألماني، خصوصا في كتابه الأخير عن بلاده قبل الوحدة وبعدها. وطالت اصداء الحرب الباردة فضيحة "مونيكاغيت"، بعدما كشف سيدني بلومنتال، وهو من اقرب المقربين الى بيل كلينتون، انه وجد الرئيس تلك الأيام وهو يقرأ "ظلام الظهيرة"، رواية آرثر كويستلر الشهيرة عن الارهاب الستاليني التي نشرت اول مرة في 1938. وتلقي الحرب الباردة ظلالها أيضا، مهما كانت باهتة، على عالم التصميم والموضة. فهناك التصميم المأخوذ عن الجيش الأحمر في محلات "بري أي مانجيه" والتصاميم في "احب الأحمر او الموت". وجاء التقرير الرئيسي في عدد أيلول سبتمبر لمجلة "سين" تحت عنوان "النموذج السوفياتي الغازي: من ديور الى فرساتشي، الجيش الأحمر يجتاح صالات العرض". وتستعمل شركة عطور يابانية شعار حركة نزع السلاح النووي لترويج منتوجاتها. ويستعمل اعلان تلفزيوني عن شوكولا "تويكس" اللهجة الروسية. ونرى على شاشة السينما فيلم "اوستن باورز" الذي يستعيد بطريقة ساخرة الهوس بالجاسوسية الذي ساد اجواء الستينات، فيما يعيد التلفزيون مرارا وتكرارا أفلاما ومسلسلات مثل "جيمس بوند" و"الرجل من منظمة أونكل" التي تدور على الحرب الباردة، ونجد اصداء من هذه في الكثير من الالعاب الالكترونية الجديدة. وفي "اسبوع ترينيداد وتوباغو السابع والثلاثين لكالبسو عموم الكاريبي" فازت بالجائزة الأولى فرقة تسمي نفسها "ستالين الأسود". وللحرب الباردة أيضا حضورها الثانوي في عدد من استطلاعات الأدب المعاصر الصادرة حديثا. ومن هذه "أطلس الأدب" لمالكوم برادبري الذي يخصص اربع صفحات لروايات الجاسوسية من كتّاب مثل ايان فلمنغ وجون لو كاريه ولين ديتون. وهناك أيضا "رصد القرن: كتاب بنغوين للقرن العشرين في الشعر"، الذي يشمل ثلاثة أقسام عن الحياة في ظل النظام الشيوعي والحرب الباردة وانهيار الشيوعية. لكن هذه نتفاً متفرقة من قصة أدبية تاريخية أوسع، تذوب فيها الحرب الباردة ذاتها. لقد شملت هذه الحرب أصنافا تعبيرية مختلفة مثل الشعر والمسرح والرواية والقصة القصيرة والسينما. وربما أمكن ايجاد علاقة بين مواضيع هذه الأشكال والأزمة أو الصدمة التاريخية المعنية. من ذلك ان هوس البريطانيين بشخصية الجاسوس الخائن المنتمي الى الطبقات العليا قد يعكس قضية برجس ومكلين وفيلبي الشهيرة، فيما قد يعود اهتمام النصف الأول من الستينات بالمسرحيات والروايات عن الخطر النووي الى التطورين الرئيسيين وقتها: السبق السوفياتي في مجال الاقمار الاصطناعية ثم أزمة الصواريخ الكوبية. أما في ألمانيا فان التوحيد السياسي للبلاد لم يقض على الانقسام في مجالات كثيرة اخرى. وهناك خلف الأدب اللغة نفسها، هي التي عكست الحرب الباردة وشكلت في الوقت نفسه واحدة من جبهات المواجهة. ويمكن القول ان اورويل كان على حق، فقد ولّدت الحرب الباردة تعابيرها اللغوية الخاصة، المتسمة في غالبها بالتبسيط والفجاجة. ومن الصعب ايجاد ترجمة لتعابير فرنسية مثل langue du boise أو ألمانية مثل Partiechinesich، لكن اكثرنا لن يأسف على اختفاء تعابير مثل "خدم الاستعمار" من جهة و "عملاء الشيوعية" من الجهة الثانية، أو "السائرين على درب الرأسمالية" و"مسايري الكرملين"، أو "الزمرة المنحرفة"، أو "نمور الورق"، و"العملاء" و"الانتقاميين" الخ. كما اختفت اسماء مثل فورموزا والصين الحمراء وبايبنغ وبانكوف واللجان المركزية والخطط الخمسية. وغمر تراب التسعينات تلك التعابير الدالة على الغائية الشيوعية: "الخطوات الى الأمام"، "المكاسب"، "القفزة العظيمة"، "التعبئة الجماهيرية"، "قرارات الحزب"، وغيرها وغيرها، اضافة طبعا الى "اللاعودة" عن كل هذه. كذلك تلاشت تعابير كانت قيد استعمال واسع، مثل "رفيق" و"كادر"، ناهيك عن "محب للسلام"، فيما اتخذت كلمات مثل "التضامن" معنى يختلف عما مضى منذ بروز نقابة التضامن البولندية، وهو ما حصل ايضا لتعبير "الجبهة الشعبية" بعد بروز الحركات التي اتخذت التسمية في دول البلطيق بعد 1988. أما كلمة "التصفيات" فاحتفظت بمعناها الاقتصادي بعدما فقدت معناها اليساري السابق، أي القتل الجماعي. ولم يعد احد "يفقد صوابه" ليتخذ هذه الخطوة او تلك، او "يتواطأ" مع هذا او ذاك، أو "يرفع رأسه القبيح" ليقول كذا وكذا. لكن هذه اللغة لا تزال تلقي ظلالها على تعابير تتداولها بعض الأنظمة الراديكالية. من ذلك "الاستكبار العالمي"، وهو الوصف ولا بأس به الذي يطلقه النظام الثوري في ايران على الغرب. وتعبير "الكلاب السائبة" الذ يستعمله القذافي. وهناك أيضا كاسترو الذي يصف اعداءه ب"الأوحال" و"الديدان". والغريب في اللغة الانكليزية ان كلمات مثل "كوزمونوت" و"بولشي" أي المتذمر أو الغاضب، المأخوذة من "بلشفي" و"أباراتشيك" أي المسؤول الحزبي، تبدو باقية، فيما تمّحي من الذاكرة كلمات مثل "سبوتنك" ومن قبلها "سوبوتنك". أما "غولاغ"، أي معسكرات الاعتقال الستالينية، فهي كلمة تعود الى الثلاثينات ولم تدخل الانكليزية الا بعد عقود. والمفارقة أن كلمة "نومينكلاتورا" اي الفئات المستفيدة والنافذة اصبحت الآن متداولة بالانكليزية، لكنها لم تدخل اللغة الا بعد انهيار الشيوعية. وهناك التعبير الذي طالما استعمله بريجنيف، "التاريخ يعلمنا ..."، وهو الآن يوجه ضد مستعمليه. ربما كان هناك ايضا امكان بحث استعمال الأدب في الحرب الباردة. فقد كثرت وقتها الاشارات الى العهد القديم في تعابير مثل "أرماغيدون" و"القيامة" و"داود وغولياث"، وأيضا بالطبع "الجنة" و"الجحيم". كما لا بد من الاشارة وقتها الى هوس السوفيات بشخصية "هاملت"، وحظر حكومة شاه ايران لكل اعمال شكسبير التي تتحدث عن موت الملوك، واستعمال ماو تسي تونغ للأساطير الامبراطورية الصينية، وتوظيف الألمان الشرقيين لغوته. وثمة ما يستحق الدراسة في الاقتباسات التي تصدرت الصفحات الأولى من أدبيات الحرب الباردة - خصوصا من المؤلفين الذين ركزوا على المواجهة في حياة الانسان بين الصدق والتدليس، مثل ماكيافيلي ودستويفسكي وكونراد. وقد يكون عالم ما بعد الحرب الباردة أكثر أمنا والأبعد عن أوهام الايديولوجية. وربما رحب بعض الأدباء والفلاسفة بنهاية "السرديات العظمى". لكن انسداد الافق الأدبي والسياسي بعدها يشير الى الخسارة التي ترافق انقشاع ذلك السحر. ولنا ان نتساءل عن مصير كتّاب ارتبط اسمهم بالحرب الباردة، مثل غوركي وبريخت وسارتر. وهناك شيء نفتقده الآن بحدة في الثقافة السياسية في الدول التي كانت شيوعية: النكتة السياسية كما كانت ابان النظام الشيوعي وايضا في الشرق الأوسط، وهي من بين ما تولده الأنظمة التسلطية. كذلك زال التركيز الحاد على القراءة والاقتباس الذي رافق تلقي الأدب في تلك المرحلة المتوترة. الرأي السائد هو ان احدا لم يتنبأ بنهاية الحرب الباردة. لكن ربما كان التشبيه الأذكى لها ذلك الذي جاء به جورج كينان في مقالته الشهيرة الموقعة باسم "اكس" في مجلة "فورين افيرز" في 1947. وقد استعار كينان تشبيهه من رواية "بادينبروكس" لتوماس مان، عن تلك العائلة التجارية من مدينة لوبيك التي نشرت نفوذها في كل مكان. لكنها وهي في قمة مجدها كانت تعاني من التعفن الداخلي. وقال كينان ان هذا هو وضع الشيوعية السوفياتية. وقد أثبتت الاحداث صحة رأيه. فقد وصل النظام السوفياتي الى القمة عسكريا واستراتيجيا أيام بريجنيف، فيما يسمى "عهد الركود". وبعد أقل من عقد على موت بريجنيف في تشرين الثاني نوفمبر 1982 انهار النظام بأكمله. الا ان الظاهر، بعد عقد على الانهيار، ان ذلك المكبوت على وشك العودة، ولو على صعيد المخيّلة دون غيرها.