ما كان لسقوط جدار برلين ولتوحيد ألمانيا أن يحصلا، من غير حمام دم فظيع، لولا نضوج شروطهما ومقدمتهما، أي نهاية الحرب الباردة. فالعلاقات الغربية – السوفياتية انقلبت تدريجاً من الحدة والنزاع الى التقارب، في أثناء ثمانينات القرن العشرين. وسقوط الجدار وتوحيد ألمانيا اضطلعا بدور بارز في التحول هذا من غير أن يكون دورهما حاسماً. وإذا فحصنا المعاهدات وتأملنا فيها، لوجدنا أن القمة الاميركية – السوفياتية في مالطا، في 2 كانون الاول (ديسمبر) 1989، هي العلامة البليغة على الانعطاف. فقطبا الحرب الباردة تبادلا في هذه القمة التطمينات والعهود. وكرر السوفيات ما سبق أن قالوه في 1988 من أنهم لن يستعملوا العنف دفاعاً عن الانظمة الشيوعية في شرق أوروبا. وتعهدوا العزوف عن محاولتهم زعزعة أميركا اللاتينية، والتخلي عن التوسع ومساندة البلدان «الشقيقة». ودعا الى تصديقهم وحمل مقالتهم على محمل الجد، انسحابهم من أفغانستان في تلك السنة. وفي المقابل، تعهدت الولاياتالمتحدة دمج الاتحاد السوفياتي المنقلب من حال الى حال في المنظمات الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي. ولا شك في أن القول، مذ ذاك، أن الحرب الباردة انتهت وطويت، مبكر. لكن مناخ العلاقات الدولية شهد انعطافاً حاسماً. ولم يدر في خلد أحد أو باله، يومها، أن الاتحاد السوفياتي على وشك التواري أو التلاشي. وقصارى المتوقع والمأمول كان انسحاب السوفيات من شرق أوروبا. وهذا ليس بالامر الذي يستهان به! وعلى نحو الحال في السنوات السابقة، استمر المراقبون يتساءلون عن دلالة اصلاحات غورباتشوف ونتائجها: هل هو مصلح حقاً؟ أم أنه لا يتعدى وضع الضمادات على النظام القائم؟ فالسؤال لم يتناول مستقبل الاتحاد السوفياتي، بل تناول صيغة هذا المستقبل وصورته. وليس معنى هذا ان بعض المحللين والمراقبين، مثل المؤرخة هيلين كارير- دونكوس والباحث في السكانيات، إيمانويل تود، والمنشق الروسي أندراي أمالريك (صاحب «هل يبقى الاتحاد السوفياتي في 1984؟»)، لم يتوقعوا انهيار الاتحاد السوفياتي إما نتيجة انفجار داخلي أو في أعقاب صدمة خارحية. والحق أن الأمرين لم يحصلا، وأسباب السقوط كانت داخلية من غير انفجار. وبعض الكتاب، وعلى الاخص هيلين كارير- دونكوس، صاحبة «الامبراطورية المتناثرة» (1978)، قرأوا من قرب من غير إجماع ما انتهوا اليه. وغلب الرأي ان التحولات قد لا تؤدي الى انهيار عام، والأرجح ألا تؤدي الى الانهيار. والفرنسيون اعتادوا منذ وقت طويل على تصور بنية دولة تدمج سلطتها المركزية أقواماً غير متجانسين. فلم ينتبهوا الى غرابة حال الاتحاد السوفياتي ولا إلى مشكلة التأليف بين الأقوام في دولة واحدة. ودهشة من ينظر اليوم الى وراء، ويسترجع الحوادث في ذلك الوقت، ولا يفهم كيف غفل المعاصرون عن دلالة أعراض الانهيار الوشيك، هذه الدهشة ليست في محلها. ومن شاهدوا استعراضات الجيش الاحمر في ساحات موسكو لم يتصوروا أن قوة مثل هذه قد تتلاشى بين ليلة وضحاها. ولم يكن الديبلوماسيون غافلين عن واقع الحال، أو سادرين في سباتهم. وبعضهم، مثل سفير فرنسا في موسكو جان – ماري ميرييون، كتبوا تقارير تحليلية ممتازة وثاقبة. ويصح هذا الرأي في جاك ماتلوك، سفير الولاياتالمتحدة، ورودريك برايتويْن، سفير بريطانيا، والثلاثة كانوا سفراء عاملين في اثناء تلك الاعوام. وبعض التقارير استوقفت ملاحظة الديبلوماسيين، منها تقرير الباحثة في الاجتماعيات تاتيانا زاسلافيسكايا، في 1988، في حال الاقتصاد السوفياتي. فلم تتكتم زاسلافيسكايا على سطو كبار الموظفين الحزبيين والاداريين والامنيين والعسكريين على القيمة الفائضة. وفي 1984، أعدّ الماريشال أوغاركوف، قائد أركان الجيش الاحمر، دراسة أبرز فيها عجز الاقتصاد السوفياتي عن إمداد الجيش الاحمر بالاسلحة التي يحتاج اليها وجددتها الثورة الالكترونية تجديداً عميقاً. وعلى رغم هذا، كان متعذراً الخلوص الى أن ايام النظام معدودة. فمعايير التقويم لم تكن معايير اليوم. ولم يخفَ على أحد أن السوفيات محرومون من معظم سلع الاستهلاك الشائعة في العالم الغربي، وأن ثلاجات «فريجيدير» اقتصرت على الاسم وحده وخلت من وظائف التبريد والحفظ و «العمر» (المفترض في السلع المعمرة). وغلب الرأي أن النظام لا يزال قادراً على الاضطلاع بمهمات النمو الأساسية من سكن وتدفئة وتربية. وعليه، فهو قادر على التماسك والبقاء. وخالف الاميركيون والبريطانيون، وهم قوموا الاقتصاد في ميزان أكثر ليبرالية من الفرنسيين، هذا الرأي، وتحفظوا عنه. ولا ريب في أن أجهزة الاستخبارات، وال «سي آي إي» على الاخص، كانت الأنفذ بصراً: فهي سبقت الى ادراك موطن الضعف، وشخصت في الاقتصاد عقب أخيل النظام. وندوات منظمة حلف شمال الأطلسي («الناتو») السنوية، منذ أواخر السبعينات، شاهد على هذا السبق. وتقدم القول أن الاتحاد السوفياتي كف، بعد قمة مالطا، عن تجسيد العدو العسكري الخطر في نظر الغربيين. لكن تطوره أثار كثيراً من الاسئلة. ولعل مصير غورباتشوف، والخشية من أن يلقى مصير خروتشوف، أي العزل عن القيادة وعودة المتشددين، شغلهم فوق أي شاغل آخر. وخشي الغربيون كذلك استيلاء الجيش على السلطة. وظهرت المخاوف الغربية جلية إبان التوحيد الألماني. وكان غورباتشوف يميل الى إبقاء ألمانياالشرقية في اطار كونفيديرالية تجمعها الى جمهورية ألمانيا الفيديرالية (الغربية) قبل الموافقة، في كانون الثاني (يناير) 1990، على اقتراح المستشار هلموت كول التوحيد. والمستشار، شأن نظرائه الغربيين، لم يكن يرغب في تسارع الحال، وتدافع أطوارها في الاتحاد السوفياتي، خوفاً من آثار التسارع في ألمانيا والحؤول دون التوحيد، واحتساباً لمسألة بالغة الدقة هي جلاء 350 ألف جندي سوفياتي مرابطين في شرق ألمانيا. ومعاهدة «2+4»، في أيلول (سبتمبر) 1990، أرجأت جلاءهم الى قبيل 1994. ورغب الألمان في جلائهم لعلة راجحة هي شغلهم ربع اراضي ألمانياالشرقية، لكنهم خافوا امتعاض العسكريين، والضباط في المرتبة الأولى: فالحكومة السوفياتية لم تُعد شيئاً لاستقبالهم حين عودتهم، وكثيرون منهم قضوا سنتين في الخيام. وطوال المفاوضات، خطا هلموت كول خطوته حذراً ومتمهلاً، وراعى موقع غورباتشوف، وبذل وسعه كي لا يحرَج فيخرجه الحزب والعسكريون، وشاطر فرانسوا ميتران ومارغريت ثاتشر المستشار الألماني الخشية والحذر. لكنهما كانا كذلك يخشيان توحيد ألمانيا، وإن تفاوتت الخشية فانحسرت عند ميتران على خلاف ثاتشر. فلوّحا باحتمال انقلاب العسكريين على الزعيم السوفياتي الاصلاحي، وحضّا كول على البطء والأناة. وتمسكُ الاميركيين بغورباتشوف لم يكن أضعف من تمسك الاوروبيين. وأرادوا، مثل حلفائهم، الحؤول دون انقلاب الحال على نحو مفاجئ يعصى التحسب والسيطرة. وعلى هذا، أصروا على بقاء ألمانيا في الاطلسي إصرارهم على موقعهم في أوروبا وأطرها الدفاعية. وأرادوا قطع الطريق على انفراد الاتحاد السوفياتي بالأوروبيين، وإضعاف الروابط الأطلسية بواسطة شطر من الرأي العام الألماني والفرنسيين والايطاليين واشتراكيي الاممية الثانية، المتحفظين عن علاقات أطلسية وثيقة. ولم تكن الخشية الاميركية في غير محلها، يومذاك. واتفق ميتران وغورباتشوف، حين التقيا في كييف، في 6 كانون الاول 1989، على إنشاء نظام أمني أوروبي يدمج الاتحاد السوفياتي في بنيته، أياً يكن مصير المسعى الألماني في التوحيد، ويستقل عن «الاطلسي». والفرنسيون، والحق يقال، أخطأوا في حسبانهم أنهم يماشون خطط السوفيات وتوقعاتهم. فعلى رغم ميلهم الى نظام أمني أوروبي مشترك، لم يرغب السوفيات في فصم رابطتهم بالولاياتالمتحدة. ومن وجه آخر، أراد الاميركيون وضع نقاط واضحة على الحروف «الاطلسية». والى هاجس النتائج المترتبة على توحيد ألمانيا، ألح على الغربيين، نهاية 1990، هاجس آخر هو انفجار الاتحاد السوفياتي على مثال يوغوسلافيا. ولاح هذا الاحتمال في ضوء حوادث عنف في القوقاز. وفي اوائل 1991، بادرت بلدان البلطيق الى الاستقلال، على ما كان أجاز الدستور السوفياتي ونصه على «الاتحاد» كونفيديرالية في وسع دولها الانفصال عنها. ومصدر الخطر في هذه الحال هو ضعف الحزب، والتزام القيادة التخلي عن القوة في معالجة الخلافات. وفي الاثناء، ارتسمت قسمات عالم من غير الاتحاد السوفياتي، ولم يبد مثل هذا العالم مستحيلاً. لكن الغربيين كانوا يؤثرون بقاء الاتحاد السوفياتي ودوامه. فالحرب الباردة أفضت الى معاهدات واتفاقات ارست بعض الاستقرار في مجتمع الدول وعلاقاته. وكان ميتران نبه، في 1986، الى دور روسيا في موازنة القوى الغالبة، وتساءل عمن يخلفها في مقعدها في الاممالمتحدة، ويرث مخزونها النووي، ويسدد ديونها. وأجاب بأن أوكرانيا ليست كفء هذه المهمات... لذلك، دعا جورج بوش الاوكرانيين، في حزيران (يونيو) 1990، الى البقاء في الاطار السوفياتي. فلقب المضيفون ضيفهم ب «دجاجة كييف» دلالة على التنديد بالجبن والاستكانة. وحين استقلت بلدان البلطيق، أحجم الغربيون عن الاعتراف باستقلالها، وانتظروا أيلول (سبتمبر) 1991. وحجتهم أن لموسكو دوراً راجحاً في مفاوضات كثيرة مقبلة، والاحرى ألا تخسر قوة ترجيحها. وانقسم الغربيون على سياسة المرحلة اللاحقة. فأيد الاميركيون غورباتشوف، ونبهوا مستشاريه الى إعداد الشيوعيين انقلاباً وشيكاً، فيما نبه جون ميجور البريطاني يلتسن الى الامر. وتردد ميتران في شأن من يؤيد. وأقام الغربيون، ما خلا البريطانيين، على تأييد غورباتشوف بعض الوقت، وأملوا بتطوير النظام الروسي صوب الاشتراكية – الديموقراطية، على خلاف القرائن كلها. وعندما أعلن يلتسن، أوائل كانون الاول 1991، حل الاتحاد السوفياتي، تفادى الغربيون اعلان الانتصار، وفرحوا بتجنب الحرب الأهلية، وبدوام السيطرة على السلاح الذري، والحفاظ على الحدود الدولية. * أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس – السوربون عضو في معهد فرنسا، عن «ليستوار» الفرنسية، 11/2011، إعداد منال نحاس.