يمكن القول إن القرن العشرين – إذا نظرنا الى بنية النظام العالمي الذي ساده – كان يتسم بالثبات النسبي. ونعني بذلك أن العالم – وخصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 – انقسم بوضوح شديد إلى عوالم ثلاثة متمايزة. العالم الأول والذي كان يطلق عليه العالم الحر، وتتصدره الولاياتالمتحدة الأميركية والدول الأوروبية الغربية الديموقراطية، والعالم الثاني والذي كان يطلق عليه العالم الاشتراكي، وكان يقوده الاتحاد السوفياتي الذي كانت تدور في فلكه دول أوروبا الشرقية، وتنتمي إليه بعض الدول في آسيا وأبرزها بالقطع الصين ودول متناثرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وأخيراً العالم الثالث الذي يضم خليطاً غير متجانس من الدول النامية. صاغت الولاياتالمتحدة الأميركية عقب الحرب العالمية الثانية سياسة الاحتواء لمواجهة المد الشيوعي في العالم، وهي سياسة كانت مثلثة الأبعاد، عسكرية من طريق التحالفات وأبرزها حلف الأطلسي، واقتصادية من طريق مد دول العالم الثالث بالمساعدات حتى لا تتحول إلى الشيوعية، وثقافية بمكافحة الشيوعية ونشر قيم الليبرالية والرأسمالية. في ظل هذا العالم المقسم إلى ثلاثة عوالم كان هناك ثبات نسبي في أوضاع الأمم وفي مواقع الدول. وكان يسمح لبعض الدول – بحكم حيويتها الفائقة – أن تصعد في سلم التميز الاقتصادي، وهكذا شهدنا بروز المعجزة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب، وكذلك المعجزة اليابانية. ولكن تحول هاتين الدولتين إلى عملاقين اقتصاديين لم ينف أنهما في الواقع قزمان في مجال السياسة الدولية! وليس هذا غريباً على كل حال لأن كلتا الدولتين هزمتا في الحرب العالمية الثانية وخضعتا لبرامج إعادة تأهيل سياسي من طريق الولاياتالمتحدة الأميركية. بمعنى أن نموهما السياسي – عكس انطلاقهما الاقتصادي – كان مقيداً بضوابط أميركية صارمة. انتهى القرن العشرون بثباته النسبي الذي اختل اختلالاً عميقاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي حوالي العام 1993، وتحول النظام الثنائي القطبية الذي دارت في رحابه أخطر المعارك بين الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي إلى نظام أحادي القطبية، تهيمن عليه الولاياتالمتحدة بحكم قوتها العسكرية الفائقة وتميزها الاقتصادي ومبادراتها التكنولوجية وقوتها المعرفية. غير أن أخطر من هذا كله أن ظاهرة العولمة برزت بروزاً شديداً، وهي عملية تاريخية تعد نتاجاً لتراكمات معرفية واقتصادية متعددة، أبرز أسبابها سيادة الثورة العلمية والتكنولوجية والتي أصبح العلم بموجبها العنصر الأساسي في الإنتاج، إضافة إلى قيام الثورة الاتصالية الكبرى، ونعني البث الفضائي التلفزيوني وأهم من ذلك ظهور شبكة الإنترنت بتداعياتها السياسية والاقتصادية والمعلوماتية والثقافية البالغة العمق. وترتب على بزوغ عصر العولمة نشوء عالم جديد له ملامح وقسمات تختلف اختلافات جوهرية عن قسمات العالم التي كانت سائدة في القرن العشرين. وحاولت مراكز أبحاث استراتيجية شتى في مختلف أنحاء العالم استشراف الملامح البارزة لهذا العالم الجديد. وأشرنا من قبل إلى وثيقة العالم للعام 2020 التي أصدرها المجلس القومي للاستخبارات الأميركية، ورسم فيها مشاهد متعددة مستقبلية. غير أننا لو ألقينا نظرة شاملة على مناهج استشراف مستقبل العالم في القرن الحادي والعشرين لاكتشفنا أنها تقوم على ثلاثة أنماط من القراءات. القراءة الأولى من منظور العلاقات الدولية، حيث يحاول من خلاله الباحثون استخدام مناهج وأدوات التحليل التقليدية في تحليل التغيرات التي لحقت بنمط توازن القوى. وبعض المحاولات الإبداعية هجر هذه الأدوات التقليدية، وتبنى بعض المنهجيات الحديثة المستقاة أساساً من أدبيات ما بعد الحداثة، لتلقي أضواء غير مسبوقة على مشاكل الأمن القومي. ومن الأمثلة البارزة عليها كتابات لبلوش الفرنسي وكامبل الأميركي. والقراءة الثانية من منظور التحليل الثقافي الذي يركز على رؤى العالم المتغيرة، وعلى أنماط القيم، وأنواع التواصل بين المجتمعات، وعمليات التفاعل بين الثقافات. ومن الأمثلة البارزة عليها كتابات جاك أتالي الفرنسي وصمويل هنتنغتون الأميركي. والقراءة الثالثة من منظور فلسفة التاريخ، ومن أبرز الأمثلة عليها كتابات بول كيندي الأميركي البريطاني الأصل، وفرانسيس فوكوياما الأميركي الياباني الأصل. وعلى رغم الأهمية القصوى للتحليل النقدي لإنتاج الباحثين الذين تبنوا هذه القراءات المختلفة، بكل ما تحفل به من أفكار ثرية، إلا أننا نعتقد أن جهداً أساسياً ينبغي أن يبذل للتعرف الى الملامح الأساسية لخريطة المجتمع العالمي الجديد، قبل الانغماس في مناقشة وتحليل بعض الظواهر السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الثقافية. ويلفت النظر أن أهم مراكز الاستشراف العالمية انتقلت من الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا الغربية إلى اليابان، التي أقامت بعض مراكزها الاستراتيجية شراكة علمية مع أبرز هذه المراكز، وبالتالي أصبحت خريطة العالم الجديد التي رسمتها أكثر اكتمالاً، لأنها تضم الرؤى الغربية والنظرات الشرقية على حد سواء. وتلفت النظر في هذا المجال المنشورات العلمية ل «اللجنة اليابانية لدراسة النظام الكوني ما بعد الحرب الباردة» وقد أصدرت هذه اللجنة كتاباً بالغ الأهمية بعنوان «إعادة بناء نظام كوني جديد: ما بعد إدارة الأزمة». وهذا الكتاب يتضمن في الواقع خريطة معرفية استشرافية للعالم الجديد في عصر العولمة. وهذه الخريطة المرسومة تقوم على ركائز ثلاث رئيسية: المؤشرات المتغيرة للمجتمع المعولم، والفواعل المتغيرة في المجتمع العالمي، وبنية المجتمع العالمي. ونعرض أولاً للمؤشرات المتغيرة للمجتمع الكوني كما حددتها هذه الوثيقة الاستشرافية. تحدد الوثيقة عشرة متغيرات للمجتمع الكوني تبدأ بانهيار نفوذ الإيديولوجية وسيطرتها على مصائر الأمم. ويقوم هذا المؤشر المهم على أساس أنه بعد الاستقطاب الإيديولوجي الحاد بين الرأسمالية والشيوعية الذي دار طوال القرن العشرين ونهاية الحرب الباردة وبزوغ النظام الدولي الأحادي القطبية يمكن القول إن العقود الماضية شهدت انهياراً سريعاً في التركيز على الإيديولوجية في المجتمع العالمي. وعلى رغم أن أنماطاً متعددة من الليبرالية والعقائد الدينية ستستمر في القيام بأدوار إيديولوجية، إلا أنها لن تكون هي العوامل التصادمية الرئيسية في المجتمع العالمي. ومن المهم الالتفات إلى أن تقلص نفوذ الإيديولوجية في مجال الصراع العالمي لا علاقة له بالضرورة بالجدل الذي ثار في الستينات حول نهاية الإيديولوجية، وهي الفكرة التي روج لها عالم الاجتماع الأميركي المعروف دانيل بل. وذلك لأنه صاغ هذه النظرية في سياق الصراع الحاد والعنيف بين الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وأراد منها التقليل من المكانة الإيديولوجية للشيوعية، والتي كانت لها تأثيرات بالغة العمق على توجهات عديد من الدول في العالم الثالث. وقامت نظريته على أساس أن العامل الرئيسي في تقدم المجتمعات ليس ضرورياً أن يكون هو الإيديولوجية، وذلك لأن الإبداع التكنولوجي والتفوق الاقتصادي والنظام الليبرالي هي أهم بكثير من العامل الإيديولوجي كما صاغته الشيوعية. ومن هنا يمكن القول إن هذه الوثيقة الاستشرافية التي نعرض لخطوطها الرئيسية ترصد في الواقع بدقة ما رافق انهيار الإيديولوجية من انهيار للاقتصاديات المخططة، وأدى ذلك إلى تغيرين بنيويين رئيسيين: الأول منهما في مجال نماذج الشرق والغرب، والشمال والجنوب، التي رسمت على أساسها خريطة العالم في القرن العشرين. وذلك لأن الشرق أصبح – في هذا المنظور الجديد – مجموعة من الأقطار التي تسعى للحصول على رأس المال والتكنولوجيا من دول الغرب. وهكذا أصبح الشرق شبيهاً بالجنوب في سعيه لموارد التمويل العالمية. ولأن العوامل الاقتصادية في المجتمع العالمي أصبحت لها أهمية متزايدة، فإن المجتمع الكوني سيتشكل من بنية أساسية تضم «الشمال» و «جنوباً» جديداً سيضم «الشرق» القديم. وهذه البنية تغطي مجمل المجتمع العالمي، وتتضمن عملية إعادة بناء وتنمية لما يمكن أن يطلق عليه «الجنوب الجديد». وهذه الشراكة الجديدة بين الشمال والغرب يمكن أن يطلق عليها «الشراكة المعولمة». والتغير البنيوي الثاني سيبدو في ازدياد المكونات التنافسية بين الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي واليابان. وستكون العلاقة مزيجاً من التنافس والاعتماد الاقتصادي المتبادل في الوقت نفسه. والعلاقة بين هذين المتغيرين البنيويين، ونعني الشراكة الكونية والمنافسة الثلاثية ستتسم إلى حد كبير بكونها «مباراة صفرية»، بمعنى أن مكسب طرف ما هو خسارة للطرف الآخر. وهناك ثلاثة سيناريوهات تشكل هذه العلاقة المعقدة. فقد تحل هذه المنافسة الضارية من خلال حلول سلمية، أو قد تنجم عنها انقسامات تقليدية وثقافية من الشرق والغرب، أو قد يحدث تقارب بين الاتحاد الأوروبي واليابان. هذه بصورة موجزة مفردات المؤشر الأول المتعلق بانهيار الإيديولوجية وتحولات الأمم في عصر العولمة. * كاتب مصري