عندما اختيرتْ بيروت عاصمةً للثقافة العربية للعام الحالي، وتناولت الصحف اللبنانية الموضوع، كان الخوف هو السمة المشتركة بين الآراء التي ناقشت امكانات نجاح أو فشل هذه المهمة التي انيطت بالمدينة! أعمق من ذلك، أي وراء مشاعر الخوف والارتباك، تخيّلتُ بيروت، عاصمة العواصم العربية في مجال الثقافة، أشبه بملكة حزينة، يعاد إليها التاج، لبضعة أشهر فحسب، فتعجز هامتُها عن حملِه. لماذا تخاف بيروت مهنتها التي برعتْ فيها، لماذا ترتبك من وجهها التاريخي. أو، ماذا يجري لبيروت بالأحرى؟ اعتباران يتسلّطان على أي بحث يتناول وضع بيروت الثقافي: الحرب التي انتهت، والسلام القائم. هذان العاملان يبتزّ كل منهما الآخر، ومع استمرار جدلهما اليومي على صعيد الواقع وما ينتجه من ظواهر غريبة، يتحطم الوجه الثقافي لبيروت، وينطفئ المزيد من الأنوار، كأنّ الثمن الذي يجب أن يدفعه اللبناني مقابل السلام والأمن، أقسى من الخراب الذي كان يأتي من الحرب، ذلك أن مشاعل بيروت الثقافية لم ينضب زيتُها طوال فترة القتال، ولأن السلام الحالي ما زال مختَرقاً بعذابات توجع اللبنانيين، منها وضع الجنوب. أخيراً، إن شعور بيروت بالعجز عن القيام بدور ثقافي قصير الأمد، يمثل حالاً لا يطيقها المثقف اللبناني، يظلّ إحساسه بها يكبر ويتعقّد مع كل لحظة جديدة، لأن التحرّك ضمن أجواء الإبداع، والرغبة في التجديد، والتفكير بصوتٍ عالٍ، والشعور الدائم بالحاجة إلى الأماكن الرحبة، كلها جزء من تركيبة الشخصية اللبنانية، ولن يحقّ لأحد الادعاء أن حاجة اللبناني إلى الأمن هي الآن، أو ستكون يوماً، أقوى من الخصائص الأخرى في طبيعته!. يجب الانتباه، إلى أن ما أوردته الصحف من أسباب تجعل عاصمة لبنان مرتبكة، أو عاجزة عن القيام بدور مشرّف كعاصمة للثقافة العربية لمدة سنة واحدة، يجسّد مشاعر عدد قليل من المثقفين، وخلف ذلك تلزم الصمت أعدادٌ كبيرة من الكتّاب والفنانين والشعراء وأساتذة الجامعات الذين لهم وجود فكري خلاق، ودائم، في الساحة الثقافية. إذن، ما قالته الصحف لا يمثل كل الحقيقة، أو لا يلامس الجانب الأعمق في الموضوع، لأن امكانات بيروت التقنية، وخبرتها الثقافية، تؤهلها لتلعب دوراً أبرز مما قامت به الشارقة، وتونس من قبلها، كعاصمتين للثقافة العربية، بَيدَ أن شكوى اللبنانيين تخفي موقفاً سلبياً، يعبّر عن مشاعر أوسع، يلفّها الحزن والخوف، من انتهاء بيروت كمركز ثقافي بين العواصم الأخرى. في المجال الثقافي، لا يكترث اللبنانيون بالمهمات الصغيرة، إنما ينجذبون إلى الأدوار التاريخية، هذا على الصعيد العام وليس الفردي، ويبدو أن تجربة تونس، ثم الشارقة، لم تحمّسهم، لأنها لم تحقق نتائج باهرة، وهذه حقيقة سمعتها من مثقفين زاروا العاصمتين. فباستثناء حضور السيد مايور الافتتاح، لم تقدم اليونسكو مساعدات، ولا دعماً ثقافياً مهمّاً لمدينة تونس، ولا للشارقة، ولم ينتبه أحد إلى حملة اعلامية دولية، وفي النهاية تولّت الدولتان الإنفاق على المشروع. العرب من جانبهم لم يظهروا تعاوناً استثنائياًً مع تونس والشارقة، لتحويل المناسبة إلى تظاهرة ثقافية عربية، وجاءت المساهمات الفنية والأدبية شحيحة، سواء من المؤسسات الحكومية أو الخاصة، واكتفت الصحف العربية بنقل الأخبار في برود، وكان المثقفون، من كتّاب وشعراء وفنانين، يزورون العاصمتين بشكل روتيني، ولا يخفون سأمهم من هذه المهرجانات، التي لا يثمّن المسؤلون عنها جهودهم الإبداعية كما ينبغي، رغم أنها تزدهي بحضورهم، فتكتفي بتقديم الوجبات الدسمة، والغرف المريحة في فنادق الدرجة الأولى، كما لو أنهم يذهبون إلى هناك جياعاً، تكاد تقتلهم الرغبة في النوم على أسرّة مريحة!. إن مشروعاً ثقافياً بحوافز ضعيفة، لن يغري اللبنانيين بكل تأكيد، فهو يجلب لهم وجع الرأس، من دون أن يخرجوا بنتائج ترضيهم، أو تناسب حجمهم الثقافي، وهي تذكّرهم، فوق ذلك، بانطفاء أضواء بيروت، كمركز ثقافي، وهذا ما فعله اختيار اليونسكو، لأن أسباب الخوف كلها تدور حول أشكال الخراب التي تعاني منها الثقافة في بيروت حالياً، من هيمنة الطائفية والمحاور السياسية على المراكز الثقافية، إلى صعوبة حصول المثقف المستقل على لقمة العيش، إلى حالات الجمود والتردد والتبعية، إلى "تراجع الطليعية التي امتاز بها الإبداع اللبناني، لصالح أصحاب الأجهزة الثقافية ومدبجي الخطب السياسية"، وأخيراً الخوف من النتائج السطحية التي سينتهي إليها مشروع اليونسكو. هذه الظواهر التي تحطم وجه بيروت الأدبي والفنّي، أوجدتها الظروف الأمنية، التي لم تسبّب من قبل، بوجهها اللبناني، هذا الخراب الثقافي والنفسي!. لو تابعنا نفسيات المثقفين اللبنانيين في هذه المرحلة، ربما أمكننا الغوص أعمق وراء سلبيتهم وترددهم. على سبيل ا لمثال، ينظر المثقفون في بيروت باستخفاف الى كل أعمال البناء التي أنجزتها الحكومة السابقة، من بنايات ضخمة وشوارع عريضة وجسور وأحياء جميله، يجدها المواطن العادي مدهشة وتفتح النفس، بينما يعتبرها المثقفون مجرد أشباح حديثة. السبب أنهم يحملون في دواخلهم شعوراً مخنوقاً، بأن كل هذه الأعمدة ستزهى وتعمّها الأنوار، حين تسترجع بيروت حياتها الثقافية المعتادة، أي عندما يذهب العربي، هو وعائلته، إلى لبنان ليشاهد مسرحية، أو فيلماً، أو معرضاً فنياً، أو يحضر حفلة غنائية، أو قراءة شعرية، وهذا لا يحدث اليوم، لأسباب أمنية، أو خوفاً منها، علاوة على تدني مستوى السائد من الانتاج. إذ تعيش بيروت على نشاطات باهتة، تخرج من قوالب واحدة، ليس فيها جديد، ولا مغرٍ، جمهورها محدود، وتكاد تشمَّ رائحة الميليلشيات الثقافية التي خلفتها الحرب وراء نشاطات ذات طابع استعراضي، لا تهتم بالإبداع، قدر اهتمامها بالدعاية السياسية. أما دور النشر، التي كانت في مرحلة إزدهار بيروت تحتضن المواهب الأدبية وتبحث عن النصّ الجديد، فقد اصيبت بهستريا الإثراء السريع، وأوجدت، لتحقيق هدفها هذا، الوحيد والصريح، قاعدة: "ادفع ألفي دولار، تصبح أديباً"، بمعزل عمّن يَكتب ومستوى ما يُكتب، بحيث أغرقت الأسواق العربية بالضحالة على حساب الجيّد، وشجّعت، بالتالي، كل عاطل على الخوض في مضمار النشر. إذن، اللبنانيون يعرفون حجم الخراب الثقافي العام الذي أصاب بيروت، وأثّر على مستوى إنتاجها، ولا يحبّذون دخول تجربة اليونسكو وفي أيديهم أوراقٌ هزيلة. لنقترب الآن خطوة واحدة من الأشواك، التي جعلت اختيار اليونسكو يقع موقع الصاعقة على بيروت ومثقفيها. أعني الأوضاع الأمنية. هل يحقّ للأسباب الأمنية، أن تقتل حضارة متكاملة في نفوس وطبيعة سكان مدينة ما؟. بالتأكيد يحقّ لها، شرط أن تكون المدينة في المنطقة العربية، لأن خيال العربي ينزع على الدوام إلى التشدّد، والرغبة في فرض الخنوع، والتدخل في الحياة الخاصة للافراد، ما أن يبدأ التفكير بالأمن. ولدى المسؤولين العرب يقين، شبه ديني، بأن ما يحتاجه السوري والعراقي أو الجزائري من صرامة، ينطبق على اللبناني والمصري، ووراء هذا مبالغة في الحقّ بالتسلّط، وتهويل الدواعي الأمنية لرفع العصا بوجه الناس من أجل تحويلهم إلى قطيع وطني، مهمته الطاعة مقابل العيش. وفي هذه الحالة تُجرَد الثقافة من أي دور تاريخي. بمعنى، يصبح المجتمع بلا وجه ثقافي يعبّر عن خياله، إلاّ في نطاق المستويات الشعبية الدنيا، وهي في الغالب ساذجة، ولا تقدر على صياغة أهداف كبيرة للتطور. هذه الظواهر التي تبرّرها الأسباب الأمنية، ويغريها الزمنُ على التمادي، أو قد تخلق لنفسها أهدافاً أخرى لا علاقة لها بالأمن بحد ذاته، وتجد ياستمرار من يوظف ضميره لخدمتها، يمكنها بسهولة تدمير أي نزعة حضارية لدى شعب من الشعوب. إن اللبنانين، يشعرون بالحاجة إلى الأمن، ويقدرون أهمية الاستقرار، بعد ما عانوه من تسيّب وفوضى وقتل أثناء الحرب، لكن لا يوجد لبناني واحد يطلب حبلاً لرقبته، مقابل الأمن والاستقرار. نضيف إلى ذلك، إن الثقافة، بأدواتها وأساليبها في الإبداع، آخر من يسبب المشاكل للأمن، وتقوم السياسة، وحدها، بخلق الاضطرابات، أو تهدّد بها للمساومة!. فلماذا تُحمّل الثقافة وزر السياسة، بصراعاتها وأطماعها؟. كانت مقولات مثل: أمن سورية من أمن لبنان، أو أمن لبنان من أمن سورية، وأمن العرب من أمن لبنان، وأمن هذا من أمن ذاك، كانت ذات فائدة قومية للعرب في مرحلة بعينها، لكن لا يجوز للعرب تحويل لبنان، وبيروت بشكل خاص، إلى مجرد حالة أمنية دائمة، وعلى العكس من ذلك، كلما نجحت الأنظمة العربية في إبعاد الحالات الأمنية، أو الاستثنائية، عن المدن والأماكن الحضرية، كلما أكدت قدرتها على فهم الأهمية الاجتماعية للنشاط الثقافي والإبداع. إن اللبناني، عكس جميع العرب، لكن باستثناء المصري، يتمتع بالمرونة، لأن عقليته تتقبّل الأخذ والردّ، حتى عندما يكون دمه في درجة عالية من الغليان، لذلك فهو يكره تشدّد الآخر معه، وهذه الكراهية تعطّل لديه، إذا أصبحت جزءاً من حياته اليومية، القدرة على الخلق، لأنها تحصر تفكيره في ما يجري له، وحوله، من ضغوط لم يعتد عليها، وإلاّ، كيف نفسّر تردد بيروت، بل تخبّطها، وسلبية مثقفيها حيال مهمة صغيرة كهذه!. النقطة الأخيرة، إن الثقافة العربية تغرق ومنذ فترة طويلة في حالة عامة من الجمود، وعلى رغم أن عمليات الإبداع لم تتوقف كلياً، إلاّ أن ما يُنتَج يبقى مشتتاً، وأحياناً معزولاً، لا يجد الفرصة ليعبّر عن وجوده ضمن نشاطات أدبية وفنية كبيرة، تشعّ أنوارها الباهرة على الحياة الثقافية العامة، فتحفّز على التنافس والإبداع والتجديد. ربما يكون للحروب التي شهدتها المنطقة دور في ذلك، لكن غياب بيروت، كمركز ثقافي عربي، يمثل السبب الأكبر للجمود، وعلى العرب أن يفكروا في هذا جيداً، ويعملوا من أجله، لأن بيروت المتمرّدة، الحرّة، التي تقدم فضاءات مفتوحة للتجريب والاختلاف، التي تهفو إلى الجديد والطليعي، يمكن بحركة واحدة أن تنهض من تقاعسها، لتباشر دورها القديم. حركة واحدة تتمثل في السماح للمثقفين اللبنانيين بقدر أكبر من التنفّس، وعدم التدخل في جنونهم الخلاق، عِبر أشباح الأمن السياسي. وعدا ذلك، فإن كل ما قيل عن مدن عربية تفتح صدرها الرؤوم، الحنون، للأدب والادباء من غير أبنائها، ليس إلاّ نفاق، من أجل بضع خطوات يتيمة، متعثرة، نحو أبواب مغلقة بإحكام على أهلها