اللغط الذي يدور الآن حول الدولة الفلسطينية متنوع المقاصد متعدد الدوافع، بعضه يهدف الى ارهاب الفلسطينيين لكي يحجموا عن اعلان الدولة، وتبنت هذا الاتجاه الولاياتالمتحدة واسرائيل. فالأولى تتوعد بعدم الاعتراف بالدولة إذا أعلنت، وتصر على ان توافق اسرائيل عليها شرطا للاعتراف الاميركي، وان يتم ذلك في اطار محادثات تحديد الوضع النهائي. ومعنى ذلك ان واشنطن تعتبر اعلان الدولة استباقا لنتائج مفاوضات الوضع النهائي، وعملاً انفرادياً يمثل خروجاً على قواعد التفاوض، وان عقاب هذا الخروج يتم بعدم الاعتراف وبوقف المساعدات. إن الموقف الاميركي المساند للموقف الاسرائيلي يجافي منطق السلام وحق الفلسطينيين المطلق في تقرير مصيرهم بالشكل الذي يريدونه، بما في ذلك إعلان دولتهم المستقلة على أساس ان عناصر الدولة قائمة وأن محادثات الوضع النهائي لم تشر بأي شكل إلى أن الدولة الفلسطينية ستكون مسألة تفاوضية في هذا الموضوع بالذات، وان عرفت السوابق الدولية في سياق آخر ضرورة الاتفاق على قيام الدولة مثلما هو الحال مع النمسا العام 1955. وأما بعض اللغط الآخر حول الدولة الفلسطينية فيهدف الى الافادة مما تتمتع به الفكرة من قوة دفع اقليمية ودولية ناتجة من الاعتراف للشعب الفلسطيني بحق تقرير المصير. ويدخل في هذه الطائفة ذلك التشابه الذي يثيره القبارصة الاتراك والاكراد الاتراك والاكراد عموما، بين حقهم في انشاء الدولة المستقلة والحق المقرر دولياً للفلسطينيين. ولا حاجة بنا الى القول إن هناك فروقا بين الحق في انشاء الدولة لهذه الطوائف الثلاث. فالاتراك القبارصة اقلية في دولة قائمة يحرص المجتمع الدولي على المحافظة على وحدتها وسلامتها الاقليمية ولا يعترف بأي اثر للاحتلال التركي لقسم من جزيرة قبرص، وقد رفض رسميا اعلان دولة خاصة بالقبارصة الاتراك العام 1983. واما الاكراد عموما فإن حل مشكلتهم ليس في قيام الدولة لاعتبارات عملية مفهومة، وانما في اشاعة الديموقراطية في الدول التي يقيمون فيها والاعتراف لهم بالخصوصية القومية والثقافية. والحق ان انشاء الدولة الفلسطينية هو الاقرب الى نموذج ناميبيا، ووجه الشبه يمتد الى ثلاثة جوانب واضحة: أولها أن ناميبيا كانت رهنا لغصب من جانب جنوب افريقيا دانته الاممالمتحدة وقررت وضع الاقليم تحت ادارتها ممثلا في "مجلس الاممالمتحدة لنامبيبا" واعتبرت استمرار وجود جنوب افريقيا فيها بمثابة احتلال. وكان يتعين ان يستصدر الفلسطينيون من محكمة العدل الدولية رأيا مماثلا يفسر قرارات مجلس الامن في شأن مجمل الاراضي المحتلة وبخاصة مدينة القدس، ورغم مطالبتنا بذلك مرات عدة وعلى مختلف المستويات، إلا ان الصمت كان دائما هو الرد، وعدم الاكتراث هو شيمة عقلاء هذا الزمان. واما الوجه الثاني للشبه فهو ان اسرائيل - كجنوب افريقيا سابقا - لا تكترث بالاممالمتحدة، ولكن الذي منح لخط الاممالمتحدة فاعليته المطلوبة هو تحدي المجتمع الدولي لجنوب افريقيا، وهو ما لم يحدث في حالة اسرائيل لاسباب معروفة. اخيرا فإن انتقال الحكم من جنوب افريقيا الى اهل ناميبيا تطلب بعض الاجراءات والوقت، وسبقته حركة تحرر وطني قادها الرئيس نغوما وحزب المؤتمر الوطني وهو ما يجري حاليا في الاراضي الفلسطينية، رغم ان الاصل ان تجلو اسرائيل، من دون شروط وتفاوض مع الفلسطينيين ما دام المجتمع الدولي رفض الاعتراف بشرعية احتلالها الاراضي العربية، واعتبر الاحتلال حالة واقعية موقتة. وهكذا تعلق عرفات بنموذج ناميبيا وطالب بتطبيقه على حالة فلسطين، لكنه لم يدرك ان الفارق بين إعزاز واشنطن لاسرائيل وتدليلها لها ليس بالمقدار نفسه الذي قررته لحكومة جنوب افريقيا العنصرية، مما دفع الولاياتالمتحدة الى احتضان عملية السلام في فلسطين حتى تتم على هوى اسرائيل، بينما انفردت الاممالمتحدة وليست واشنطن بعملية نقل السلطة من جنوب افريقيا الى ناميبيا. واذا كان الاكراد يحسدون الفلسطينيين على مجرد الاعتراف بهم كشعب تميز عن اسرائيل له الحق في تقرير مصيره، بعد ان ظلت اسرائيل تنكر هوية الفلسطينيين، وتعمد الى تمييعها وتدعي ان كل سكان فلسطين إسرائيليون سواء كانوا من اليهود أم من العرب، فإن وجود الاكراد في اطار دول قائمة تاريخياً واعتبارهم اقلية يجعل حقهم في دولة امراً عسيراً من الناحيتين القانونية والسياسية، وعملا يهدف الى تمزيق الدول القائمة والاعتداء على سلطانها وكل سكانها مهما تنوعت اعراقهم ودياناتهم. ولو تصورنا ان اليهود في فلسطين لم تفرض لهم الدولة فرضا، على ما نعلم لظلوا اقلية في الدولة الفلسطينية ضمن رعاياها ومواطنيها، وهذا هو مضمون الاقتراح الذي قدمه الفلسطينيون في السبعينات لانشاء الدولة الفلسطينية الديموقراطية. واذا كان الاكراد والفلسطينيون والقبارصة الاتراك يتماثلون في وجودهم على اراضيهم، بخلاف اليهود الوافدين، ثم المدعين بحق تاريخي يكذبه سعيهم لدى السلطان عبدالحميد الى اسكانهم بأي ارض بعدما صرفهم عن فلسطين لسبب قدسيتها وقبولهم حتى الاستقرار في أوغندا أو الارجنتين، فإنهم يختلفون في الاوجه السالف ايضاحها واخصها ان الفلسطينيين شعب له - دون غيره - حق تقرير مصيره، وان تحقق هذا الحق لا يهدد وجود دولة قائمة أو يمزق وحدتها الوطنية. اما الجانب الثالث من اللغط حول الدولة الفلسطينية، فيشير الى اخوات اخريات غير شقيقات، التبس عند الاثارة وجوه الاختلاف والاتفاق لاغراض معروفة في مقدمها التشويش على الحق الفلسطيني خصوصا عندما يثير هذا اللغط والتشابه، الجانب الاسرائيلي المناهض لاقامة الدولة. فقد نشر بعض الصحف الاسرائيلية خلال آذار مارس 1999 وجهة نظر مؤداها انه إذا كان سكان كوسوفا انكر عليهم الحق في اقامة دولة مستقلة لهم، فان اسباغ حق اقامة الدولة على الفلسطينيين يصبح امرا مستغربا وينطوي على تمييز في منح الحق بين حالات متشابهة وهي الحالة الفلسطينية وحالة كوسوفا. ولا يخفى ان هذه المقولة من جانب بعض الاوساط الاسرائيلية تتطلب ايضاحا مفصلا لدحض اقاويل اصحاب النيات السيئة الذين فهموا ان التلبيس على القراء سيوقعهم في وهم وغموض لا يملكون ازاءهما سوى التسليم بما قدم لهم في حجة ورأي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. ولا شك في ان الدولة الفلسطينية قادمة لا محالة بل هي قائمة مهما شرع لها الكونغرس شهادات الوفاة واعلن عليها الحرب والعصيان. ذلك ان وجه الشبه بين حق سكان كوسوفا في اقامة الدولة، وحق الفلسطينيين في اقامة الدولة هو وجه شبه منعدم بالنظر الى اختلاف الفرضيات بين مشكلتي كوسوفا وفلسطين. فالمعلوم لكل متابع ان اقليم كوسوفا جزء من جمهورية يوغوسلافيا، وان رغبة بعض سكانه في الاستقلال أو الانضمام الى البانيا انما يعتبر ادانة دامغة للقهر الصربي، دليلا على اليقين ان التعايش بينهم وبين الصرب في اطار سياسي واحد اصبح مستحيلا بعدما انكر عليهم الصرب الحق في الحياة والحق في الخصوصية، مثلما انكروا في الماضي حق المسلمين في البوسنة، وان في ظروف مغايرة في الاستقلال والانفصال. اما الفلسطينيون فانهم قطعا ليسوا جزءا من اسرائيل، وانما هم اصحاب الارض الاصليون، وان حقهم في اعلان الدولة ليس مرده الى رغبة اسرائيل او رفضها، وانما هو حق اصيل قبل ان تولد اسرائيل. ويرتد هذا الحق عندنا الى قرار الجمعية العامة الذي قسم فلسطين دولتين، وهو القرار الرقم 181. فاذا كانت اسرائيل استفادت من هذه الرخصة ونشأت بموجب هذا القرار، فإن حق الفلسطينيين في الاستفادة من الرخصة نفسها ولو في مرحلة لاحقة لا يزال مؤكداً. ولا علاقة البتة بين استقلال الفلسطينيين ووجود اسرائيل الى جانب الدولة الفلسطينية، بينما قيام دولة في كوسوفا سيؤدي في الضرورة الى تمزيق الاتحاد اليوغوسلافي، وان انضمام الألبان في كوسوفا الى البانيا لهو خط يفضله بعض الاوساط المتطرفة في القوميات التي تزدحم بها منطقة البلقان، مثلما كان موقف المتطرفين القبارصة، سواء اليونانيين الذين يريدون ضم قبرص الى اليونان، او القبارصة الاتراك الذين يسعون الى ضم القسم الشمالي من الجزيرة الى تركيا. ولعل سبب هذا التطرف هو عجز الدول التي يعيش فيها المتطرفون عن تحقيق شروط الاندماج والمجتمع الواحد، مما يدفع المتطرفين الى التطلع نحو الاندماج في الدولة التي تضم غالبية من عرقهم نفسه او ديانتهم نفسها. وهكذا يتضح ان هناك فوارق اخرى كثيرة بين حالة الفلسطينيين وحالة كوسوفا. ففي الحالة الاولى هناك شرعية دولية مستقرة في شأنها، بينما في حالة كوسوفا يتحرك المجتمع الدولي لحماية الاقلية الالبانية في الاقليم من بطش الصرب من دون ان تقر الجماعة الدولية حتى الآن بحق سكان كوسوفا في الانفصال. واخيرا لا يخفى ذلك التحالف بين الصرب واسرائيل والتماثل بين سلوك الطرفين وما يكتنف الفكرة السالفة من قصد مريب. * كاتب مصري.