هل الشعر صنو الحب؟ وما علاقة الفقد والموت بكل منهما؟ هل الفقد وجه آخر أكثر عمقاً لما هو لحظة قصوى نتملّكُها في الحب، والشعر هل هو تأبيد للحظة الهاربة المفقودة؟ ثم هل إن لمعة الذروة في الحب هي الخلود أم أنها هي نفسها برهة الفناء؟ هناك فكرة عربية معاصرة عن الشعر والحب تحصرهما بكلمات الغزل، وشعر الغزل. صحيح أنها ليست الفكرة الوحيدة، لكنها الأرجح. مع ذلك عرفنا شعر حب عربي كتبه شعراء لم يعرف عنهم تخصصهم بشعر الحب. مثل هذا الشعر الأرقى في قدرته على الإقتراب من غامض الشعور العاطفي، ومن الطيات الأبعد في القلب، يمكنه أن يرقى بنا وبفكرة الحب إلى عوالم أكثر سحراً فنياً، وأعمق غوراً في الإنسان. لكن قصيدة الحب، التي تقف على هذا الميل، أحياناً ما تكون برهة خوف، أو هي تعويذة خائف من الفقد، فتكون بذلك فضاء هواجس وأرض اختبار شعوري وفكري للألم، تبعث عليها خواطرُ الموت مجسدة في فكرة مركزية: ضياع الأنا بفعل فقدان الآخر. ولربما يمكن للصوت في قصيدة الحب صوت العاشق الذي هو أنا أخرى للمعشوق أن يوحي وينقل إلينا أيضاً حالة انكسار تولدها مشاعر الفقد والغياب" لكن في الفن، حيث القصيدة معمار، وأثر من الكلمات بعد عمل شاق مع الكلمات، فإن الشرارات التي يطلقها نص القصيدة، مصدرها طاقة من الإيحاءات المبتكرة التي ما أن تبني المسافة بينها وبين الآخر المحبوب في الفن، حتى تجهد، على مدار الكتابة وإلى ختام القصيدة، لنسفها عبر تلك المخاطبة التي تبدو عشقية وتبدو صوفية. وأقول "إيحاء مبتكر" لأن انشغال الروح الشعري في قصيدة الحب إنما هو انشغال بجوهر أعمق هو الألم، بجاذبيته الخطرة، وقدرته الهائلة على التنبؤ بمستقبل ليس فيه إلا الفقد وقد صار له في لغة الشعر وصوره مشاهد وظلال وحالات شعورية، وأيضاً ما هو أخطر من كلّ ذلك: نظام هو القصيدة. إن التفكر في هذا هو تفكّر في بعض ما يقيم المسافة بين افتراضين ل"أنت" و "أنا" ليسا في مرايا الشعر غير واحد. وفي قصيدة الحب، أو في قصيدة الموت، فإن الواحد هو بمثابة كلّ يجمع اثنين يعيشان متجاورين: هما الذات الحرّة الطليقة للشاعر وراء الذات الشعرية الأسيرة في علاقتها باللغة وصراعها مع الكلمات وعلاقات الكلمات. والشاعر في قصيدة الحب هو ذاك الذي له القدرة على أن يحضر ناقصاً، ويظلّ مغرياً، ويحضر ناقصاً بجموح. وقد يتلاشى، وتتبدد صوره إلى أن يختفي تماماً، فما يعود في الإمكان تعيين وجوده لا في صور القصيدة ولا في كلماتها. لقد توارى الشاعر وراء ما بنته القصيدة، وترك لنا السؤال الحائر: أين هو العاشق في ما ترك الشاعر من أثر عشقي فنّي، أهو في ما بنته الأنا من "انقطاع" هو النقصان، أم هو في ما حققته من "وصل" هو الفناء؟ إن الأروع في معادلة الحب هو التطرف كما إن المروّع في الشعر هو التطرف، حيث ما من جمال يتأتى من حلول في الوسط، أو من فتور في المزاج، أو من قدرة وهمية على التوازن. ليس شعر الحب عند شيء من هذا. إنه أعمق، لذلك هو أقرب إلى الهاوية. كذلك هو الحب: الأنا الخفيفة الناقصة المأخوذة، بقدرة الكلمات إلى مصيرها، إلى مصرعها في "القصيدة" التي هي أنثى، القصيدة التي هي ضمير مقترح ل"أنا" في عهدة "هي" أو تهيؤ للعودة إلى "أنتِ"، حيث تعود الذكورة إلى مياهها الأولى، لتفنى أو تعيش بينما هي تفنى في المؤنث. قصيدة الحب، أيضاً، صورة من صور الخوف من الفشل، لذلك هي الفشل من جراء الخوف من أن لا يكون لنا مكان في مياه المؤنث، وقريباً من المرأة التي هي حارسة المؤنث، والقائمة عليه بصفته جنساً كاملاً يضم المرأة والرجل. نعم الرجل الذي غادر المرأة لمّا كانت أماً مولّدة لذكورته، وها هو يريد أن يرجع إليها بصفته شريكاً وحبيباً. إن الموازنة والمطابقة بين فكرتي الحب والشعر ، إنما تقصد ما هو أبعد وأشمل مما تتيحه علاقة رجل بامرأة، وإن كانت هذه العلاقة بالذات هي الفضاء الأكثر إغراء وطبيعية ووضوحاً. واستناداً إلى الخبرات الإنسانية، فإن الحب، كما الشعر، خسران وتملّك. إنه أيضاً حرية وأسر، كما الشعر، حرية خيال في آماد متخيّلة وأسر في نظام هوالقصيدة. ولا مناص من الاعتقاد بأن الشعر كثيف كالحب، ولعبته يمكن أن تكون مثل لعبة الحب قاتلة. وإذا كانت الكتابة، في جانب منها، هي صورة من صور التخلص من كل ما تملكه الأنا في الكتابة هو العطاء، فإن الحب في جوهره هو صورة من صور التفاني، على سبيل الفناء أي العيش في الآخر. وإذا كانت القصيدة في جانب حاسم منها بحث في الفقدان، حيث يتحقق الشعر عن طريق الرغبة في استعادة المفتقد، والوقوف على أطلاله، على آثاره، فإن الحب لا يتحقق في أمثلته الكبرى إلا مجاوراً للماسي، فهو يتوارى في طيات الفقد والموت واللاتحقق. ولعل الاستحالات هي المداخل الكبرى إلى تحقق اسطورته: قيس وليلى وروميو وجولييت.. وغير ثنائي عاشق. الحب حالة تطرّف خوف وغبطة متطرفان وإلا لما خفق قلب العاشق. والحب هو الحرية التي لا سبيل إلى أسرها. لذلك يتبدد الحب في حالتي التملك والترك، وفي الأسر والتحرر. لكن القصيدة كيان لمخلوق يشق طريقاً نحو فضاء تتأكد فيه هذه الثنائية المتناقضة والمدمّرة، مع إضافة أخيرة أن القصيدة تشكيل لعلاقات النظام والفوضى.