عندما تقرأ قصائد إيمان عمارة في مجموعتها الأخيرة «رصاصة عاشقة « لا بدّ أن تتذكّر تراتيل عشتار وقصائد العشق المنسوبة إلى النساء في التّراثين البابلي والفرعوني حيث تتداخل أشجان العشق بتباريح الذكرى تداخل التعمية والتشابك. كلّ الديوان احتفاء بالعنصر الأنثوي، تغنٍّ بقواه المبدعة...فالمرأة تبدو من خلال قصائد هذه المجموعة الكائن الذي فكّ العالم من أسر الموت وأتاح للطبيعة أن تتوالد وتتكاثر. لكن هذا لا يعني أن شعر إيمان عمارة ارتدّ إلى الرومنطيقيّة وبات بوْحاً واعترافاً واغترافاً من بئر الروح...كلاّ فهذا الشعر توقّى، عن وعي عامد، كلّ تدفّق عاطفيّ سائب وجعل الكتابة استبصاراً في مصير الكائن تتعاوره قوى اللذة والألم، الحياة والموت، الكلام والصمت. في هذا السياق تفاجئنا الشاعرة بنوع مخصوص من التصوّف يمكن تجوّزاً أن نسمّيه التصوّف الحسّي حيث تتحول القصائد إلى ضرب من الأناشيد في مديح المرأة ، أناشيد تحتفي بمعاني التوحّد، والفناء، والذوبان في الذات العاشقة. قصيدة إيمان أتاحت للجسد أن يتكلّم، أن يبوح بأسراره وخباياه، ويقول رموزه وأساطيره...ويفصح عن استيهاماته وأحلامه. فللجسد ذاكرته وتاريخه، وله أيضاً لغته ومجازاته. وله أسراره البعيدة ورموزه القصيّة. منذ فرويد يدور الحديث عن لغة الجسد وهي اللغة التي تبدأ حين تعجز لغة الكلام عن النهوض بوظيفتها، وظيفة التعبير والاتّصال...وهذه اللغة، أعني لغة الجسد، لغة مواربة، مخاتلة لا تذهب إلى المعنى من طريق قاصد وإنّما تختار أساليب الرمز والاستعارة والقناع لتقول ما تريد ما تقول...بعبارة أخرى للجسد «بلاغته» التي تحتاج منّا إلى قراءة وتأويل، فالجسد نصّ وككلّ نصّ له طرائقه في تصريف القول وإجراء الكلام: «جبال إصفهان مكحلة والإثمد غبار يصهل مجروحاً بعد حين/ في جسد أنثى تحوّل الدم المسفوح/ إلى كحل سرّي/ إلى حبر سرّي/ إلى استعارة كبرى مخطوطة على أجساد العشّاق». لكن أهمّ ما تقوله الشاعرة أنّ الجسد ليس نقيض الرّوح، كما تردّد الفلسفات القديمة، وإنّما هو شقيقها، امتداد لها، بعض منها. بالجسد نبتهج وبالجسد نتألّم، فنحن، وفق عبارة مارسال، أجسادنا... كلّ قصائد الشاعرة تسعى إلى «روحنة» الجسد، إلى تحويله إلى كيان أثيري. في هذا السياق يتبدّى الحبّ من خلال هذه المجوعة بمثابة الذريعة التي تهيب بها الشاعرة حتّى تستمرّ في الحياة، إنّه حيلتها حتّى تجعل الأمل ممكناً، حتّى ترجئ قدوم الموت...ومن ثمّة فإنّ الحبّ يصبح رديف الحياة وقرين الشعر: «لن يرنّ أذان الموت/ طالما حبيبي يشبك أصابعه في أصابعي/ الأجراس لا ترنّ إلاّ في الأجساد المقفرة/ حبيبي يعشق الصمت وتشابك الأصابع في الصباحات المبحوحة». لئن فقدت الروح ريشها، في نظر إفلاطون، حين هبطت إلى الأرض وباتت غير قادرة على الحركة فإنّها بالحبّ تستعيد ذلك الرّيش وتصبح قادرة على الطيران من جديد...، على الصعود من جديد إلى السماء: «أتواطأ مع الحاسّة/ أطير أبعد منك/ ومن غرفة الطعام ومن حواسّي الخمس». إنّنا نُدْعى في حضرة هذه المجموعة الشعريّة إلى أن نستقبل الكلمات بوصفها أجراساً وإيقاعات ومصدر إيحاءات جمّة...فالكلمات في هذه المقاطع لا تلفت انتباهنا لما تنطوي عليه من أفكار أو تنقله من رؤى أو تعرضه من تجارب أو تحمله من معان فحسب، وإنّما تلفت انتباهنا لحضورها الذاتيّ، لأصواتها، لظلالها الرمزيّة والاستعاريّة أي إنّ الشعر هنا لا ينهض بوظيفة الإفصاح عن التجربة فحسب، وإنّما يعمد إلى استجلاء الطاقات الكامنة في اللغة، إلى دفعها إلى أقصى ممكناتها، إلى تجديد فعل الخلق الإبداعيّ باستمرار. قصائد إيمان عمارة هي قبل ذلك كلّه أسلوب في إجراء الكلام يتّسم بالجدّة والنضارة، طريقة في إخراج اللغة من وظيفتها الإخباريّة إلى وظيفة إنشائيّة تشدّ القارئ إليها قبل أن تشدّه إلى شيء آخر. فمدار الأمر والغاية التي تجري إليها الشاعرة هي إثارة دهشة المتقبّل، دفعه إلى استعادة الإحساس بالحياة... فالألفة، كما يقول الشكلانيّون الروس، تلتهم الأشياء حولنا فيخبو نورها شيئاً فشيئاً وتفقد، من أثر تكرار بعد تكرار، حضورها... الشعر وحده هو الذي يعيد إلى تلك الأشياء توهّجها وقوّتها. بل ربّما أضفى عليها غموضاً لتصبح غريبة على قربها، ملتبسة على وضوحها.