مضى زمن الستينات والسبعينات الذي كان فيه السياسيون العراقيون المعارضون للنظام العراقي وحزب البعث يتهمون فيه صدام حسين بالتنسيق مع الولاياتالمتحدة عبر سفارتها في بيروت من خلال السفير العراقي آنذاك الدكتور ناصر الحاني الذي اصبح وزيرا للخارجية بعد انقلاب 17 تموز يوليو 1968 لمدة 12 عشر يوماً ثم لقي حتفه في اول تصفية لجهاز "حنين" الامني الذي كان يقوده صدام في شهر تشرين الاول اكتوبر من العام نفسه اذ وجدت جثته ملقاة على طريق قناة الجيش شمال شرقي بغداد بعد ان اقتيد من بيته بطريقة ديبلوماسية من قبل الشقيقين جبار كردي واخيه ستار كردي امام أنظار زوجته اللذين صفيا لاحقاً من قبل الجهاز. آنذاك شاع ان حزب البعث يتستر على اتصالاته الاميركية وصلة الولاياتالمتحدة بانقلاب البعث، وعلى الشاهد العراقي الذي توسط لصدام مبعوثا من ميشيل عفلق لدى السفير الاميركي في بيروت. ثم اغتيل الشاهد العراقي الثاني مدير الاستخبارات العسكرية العميد عبدالرزاق النايف في قلب لندن بعد عشر سنوات وكان شارك حزب البعث في الانقلاب واصبح رئيسا للوزراء او واجهة لرئاسة الوزراء لمدة 12 يوما ايضا. وقيل وقتها ان النايف كان قريبا من التوجهات البريطانية في العراق او مرتبطا بها. ولم يكن كل من الحاني او النايف بعثيا بل كانا قوميين. منذ ذلك التاريخ ظلت العلاقة مع الولاياتالمتحدة، من وجهة نظر السياسة العراقية الوطنية، وصمة سياسية في جبين النظام في بغداد لم تغسلها القطيعة التي وجد النظام نفسه في خضمها بعد ان قطع نظام عبدالرحمن عارف العلاقة مع الولاياتالمتحدة اثر نكسة حزيران يونيو 1967 تمشياً مع قطع العلاقة معها من قبل عبدالناصر وانظمة عربية اخرى. وتوجه نظام البعث نحو الاتحاد السوفياتي، ليجد نفسه في قلب التعاون الامني والاستخباراتي مع الولاياتالمتحدة خلال الحرب العراقية - الايرانية. وكان من نتائج هذا التعاون تحرير الفاو الذي اعاد للعراق التوازن العسكري مع ايران في الحرب. وامام انظار المخابرات الاميركية وبمعرفتها طور صدام ترسانة عسكرية ذهب بها الى الحد الاقصى: ترسانة كيمياوية وبيولوجية باتجاه الترسانة النووية. في هذه اللحظة انطفأ الضوء الاميركي الاخضر واصبح مرور ترسانة صدام حسين ممنوعاً. هكذا دارت دفة السفينة فنزل عنها ركاب وصعدها ركاب آخرون وادارت اتجاهها حين توجه الى السفارة الاميركية في لندن معارضون لصدام حسين ومعارضون من قبل للعلاقة مع الاميركيين للقاء مساعد وزير الخارجية مارتن انديك واصبح حضور اللقاء امتيازا لدى البعض وعدم حضوره حسرة لدى بعض آخر. هذا هو منطق التغير. ولكي نبقى عنده، سنرى ما الذي حدث وماذا سيحدث بعد ان اكد مساعد الوزير على تصميم واشنطن على اسقاط صدام حسين وطلب من الحضور العمل وفق هذا القرار؟ ربما نبدأ من الاجراء او الاسلوب الذي اتبع في هذا اللقاء الذي جرى في مقر السفارة الاميركية في لندن واختلف عن لقاءات سابقة واعتبره البعض طعنا في صدقية المعارضة. فقبل اشهر جاء وفدان اميركيان وأجريا لقاءات مع بعض فصائل المعارضة من اليمين الى اليسار ومن العلمانيين الى الاسلاميين وذهب الوفدان خاليي الوفاض كما يقال. فوجهات النظر كانت تشير الى عوالم متناقضة كان حدود عيشها تتوزع على القارات والكواكب والاجرام السماوية. التقوا عربا وكردا واشوريين وتركمانا والتقوا رجال دين ورؤوساء عشائر ورؤساء احزاب ورؤساء جمعيات والتقوا شيوعيين وبعثيين سابقين وقوميين واسلاميين وليبراليين والتقوا مدنيين وعسكريين سابقين. التقوهم في امكنة مختلفة من البيوت الى المقرات الحزبية الى المراكز الدينية. وحين اتفق كوفي أنان مع صدام حسين وطوي ملف الضربة العسكرية لبعض الوقت اسدل الستار على اللقاءات. وحينها عجزت المعارضة العراقية عن ان تتفق على بيان توصيفي للاحداث اذ كان هناك انقسام: مع الضربة العسكرية او ضدها. السبب بسيط وهو انعدام قدرة فصائل المعارضة على التعبئة والتنظيم في الطرفين. فالعاملان الخارجي والداخلي ضعيفان وان اختلف جوهر كل منهما اذ ما معنى ان يلقي مساعد وزير الخارجية الكرة في ملعب الفرق المعارضة مثل حكم المباراة ويطلب منهم اللعب على اتفاق او نصر؟ الاحاديث التي دارت تركزت على المشكلات الحقيقية التي تواجه المعارضة حتى في تعاملها مع العامل الخارجي الذي تعول عليه. فالهجوم على رئيس المؤتمر الوطني الذي واجه به عدد من الحاضرين مساعد الوزير، والذي وصل باحد الحاضرين الى مخاطبة انديك بان دعم اميركا للجلبي هو عمل اجرامي، جعل رئيس المؤتمر الوطني يبدي استعداده للاستقالة. ولكن ما مدى امكان هذه الاستقالة في وقت حصل فيه الجلبي على كل الدعم الاميركي على الرغم من شمول هذا الدعم آخرين كما سمتهم التصريحات الاميركية. الى ذلك بدا الصراع بين بعض شخصيات المعارضة صراعاً على الزعامة وهو ماجعل المساعد ينتظر من المعارضة ان تنهي خلافاتها وتعود اليه. لكن السؤال المطروح علىه: هل يفكر حقاً بأن الخلاف يمكن ان ينتهي ويعود اليه الحاضرون متصافين وقد انهوا خلافاتهم وطرحوا برنامجهم؟ اولا لن ينتهي الخلاف على الزعامة طالما ان العامل الداخلي لم يسمح بعد لفرز زعامات تفرض وجودها كما لم يسمح صدام في داخل العراق منذ تسلمه السلطة لأية زعامة ان تكون بديلاً عنه. وبعيداً عن تقييم المواقف السياسية للأطراف فإن الجلد الذي يتمتع به رئيس المؤتمر والقدرة على المواصلة وملاحقة اللوبي وصنع وضع راهن لا توجد لدى غيره من السياسيين العراقيين تساعده خبرته في المجال المالي والمصرفي العربي والدولي التي يعكسها على نشاطه السياسي. كذلك يبدو ان مساعد الوزير ليس مغفلاً حتى ينتظر اتفاق الفصائل والشخصيات الحاضرة وربما اراد ان يزيح عن كاهله العتب الملقى، من قبل، على الادارة الاميركية في هذا الشأن والقائل بان الادارة ليست مهتمة باحداث تغيير في العراق اودعم المعارضة العراقية والقاء هذه التبعة على كاهل المعارضة العراقية نفسها. وربما يعزز ذلك السؤال الذي يمكن ان يطرح وهو لماذا وجهت الدعوة لاتجاهات محسوبة على برزان التكريتي؟ هل هي رسالة من قبل واشنطن للمعارضة ام لبرزان، خصوصاً بعد ازمته الاخيرة مع النظام في بغداد؟ ويشيرون الى المعركة التي اندلعت بين هذا الاتجاه والاتجاه المعارض له. فهل هذه المعركة رسالة الى الاميركيين بأن التعامل مع برزان مشكلة جديدة تذكر بما حصل مع خروج حسين كامل قبل ثلاثة اعوام؟ ويذكر انه ذلك حضرت الاجتماع قوى وشخصيات لم تكن مدعوة للاجتماعات السابقة ومنها الملكيون وهم خارج المؤتمر الوطني اصلاً. تداول الحاضرون سلسلة خيارات ابرزها تأكيد البعض على انحسار شعبية رئيس المؤتمر الوطني العراقي وبحث المجتمعون عن بديل برعاية اميركية. وتشير هذه المشكلة الى ان الزعامة العراقية للمعارضة لا تأتي من قوة العامل الداخلي بل من العامل الخارجي. وطرحت فكرة انشاء بدائل عن المؤتمر الوطني كما طرحت اعادة تشكيل المؤتمر الوطني نفسه. عموماً يقيم عدد من المجتمعين اللقاء بصورة حيادية ولايعطون اهمية قصوى لمحتواه، خصوصاً اولئك الذين يرون في الجلبي عقبة كأداء امام المعارضة. لكن على الجانب الآخر يؤكدالجلبي على متغيرات يتفاءل بها معتمداً على تسلسل الاحداث والنتيجة التي وصل اليها حين بدل الاميركيون وجهة نظرهم. فقبل شهرين كانوا يتعاملون مع الجلبي من خلال أطروحة ان المؤتمر الوطني انتهى ولم يعد موجوداً وبالتالي فإن الجلبي نفسه لم يعد الرقم المهم في التعامل مع المعارضة العراقية. لكن الامر تغير فجأة. واتصل الاميركيون بالجلبي وهو في طهران التي سيعود اليها هذا الاسبوع ربما لاقناع باقر الحكيم في الاسبوع الماضي وطلبوا اليه التوجه الى واشنطن ومقابلة انديك الذي اكد له في المقابلة ان الدعم الاميركي للمعارضة سيكون كبيراً وفعالاً الامر الذي سمعه مرة اخرى من لجنة الشؤون الدولية اثناء استجواب وكيل وزارة الخارجية بيكرينغ شأن سياسة وزارته تجاه العراق. و سألت اللجنة بيكرينغ: مالذي تغير في السياسة الاميركية تجاه العراق؟ وكان رده ان ماتغير هو صدور قانون تحرير العراق الذي وقعه الرئيس بيل كلينتون. واثر ذلك اكد اعضاء لجنة الشؤون الدولية في الكونغرس دعمهم للمعارضة العراقية وطلبوا التواصل في العلاقات لمعرفة اية متغيرات قد تطرأ بعد ان صرح كلينتون قائلاً اننا سنعمل مع الكونغرس لتحرير العراق وهو الامر الذي صارت بعض فصائل المعارضة مؤمنة بأن الاميركيين هذه المرة جادون في اسقاط النظام. في الاجتماع مع مارتن انديك في السفارة الاميركية في لندن قال الجلبي ان الرئيس الاميركي "يتطلع" الى يوم تحرير العراق. وصحح له انديك ان الرئيس الاميركي "يعمل" على تحرير العراق. وابدى الجلبي تفاؤلاً منقطع النظير ازاء هذا التصحيح. وينقل البعض انه سمع من انديك قوله انكم ستكونون في الاسابيع المقبلة جالسين في البرلمان العراقي في بغداد. الذين غابوا عن الاجتماع مثل حزب الدعوة والمجلس الاسلامي الاعلى والحزب الشيوعي وبعض الاطراف السياسية الاخرى ماذا سيكون موقفهم؟ قبل ذلك، السؤال هو: هل يستطيع الجلبي اعادة لحمة المؤتمر الوطني، خصوصاً وانه من المستبعد عودة حزبي الدعوة والشيوعي؟ كما ان المجلس الاسلامي الاعلى تحفظ على الاجتماع مع انديك ولم يحضر ممثله، وطلب بارزاني ضمانات لعودته الى المؤتمر والانضمام الى فكرة اسقاط النظام. واول هذه الضمانات تحقيق الفيديرالية. فكيف يتصرف رئيس المؤتمر الوطني؟ انه سيطرح على المجلس التنفيذي ماطلبه انديك منه : اجتماع المجلس التنفيذي والجمعية العمومية في واشنطن لتكريس الرعاية الاميركية للمؤتمر الوطني العراقي. كذلك لابد من تقرير مصير اعضاء المجلس الرئاسي الثلاثي وهم بارزاني وبحر العلوم والنقيب الذين استقالوا او جمدوا عضوياتهم لخلافات مع الجلبي او لاسباب تتعلق بالصلاحيات او التمويل او العلاقة مع الولاياتالمتحدة. فهل يمكن انجاز هذه المراحل وعودة المؤتمر او الاكتفاء بمن يحضر سواء بنصاب او من دونه؟ يرجح الاحتمال الاخير والاكتفاء بمن يحضر خصوصاً في بداية الأمر وانتظار ما ستسفر عنه التطورات. وربما تقرر مسألة التمويل الذي اصبح علنياً ولم يعد ورقاً او عيناً وانما اصبحت مساعدات عسكرية لتنفيذ خطة الاطاحة بالنظام. والسؤال هو كيف تسقط المعارضة العراقية نظام صدام؟ حتى الآن لايبدو ان تزاوج هجوم اميركي مع هجوم تقوم به قوات المعارضة يمكن ان يكون ناجحاً. صحيح ان اعلان منطقة الجنوب منطقة آمنة سيمنع دبابات النظام واسلحته الثقيلة ومدفعيته وجنوده من التقدم، فضلاً عن تغطية جوية تقوم بها الطائرات والصواريخ الاميركية لحماية الهجوم العراقي الذي لا بد ان يكون معززاً بأجهزة وبخبراء اميركيين. ولكن هل تحقق هذه الخطة هدف اسقاط صدام؟ ام ان هناك خطة اخرى تكون فيها المعارضة العراقية غطاء سياسياً لا بد منه لتمرير عمل عسكري اميركي واسع النطاق؟ الى ذلك يلوح في الافق بشكل جديد اتجاه لربط رفع العقوبات بإسقاط النظام. ولكن هل يمكن التفكير بأن مثل هذا الاتجاه قد يكون حرباً نفسية لإجبار صدام على تنفيذ القرارات كلها عدا قرار 688 او تنفيذ فقرات منه والاسراع بطلب الصفح والتعاون مجددا مع الولاياتالمتحدة وابداء استعداده لتنفيذ ما لم يطلب منه بعد من اجراءات مقابل طي صفحة اسقاطه التي ارتفعت حرارتها السياسية والاعلامية. ويزيد من اهمية الاحتمال نتائج الحصار تجعل من الصعب التكهن بإمكانية مواصلته وتمديده مقابل الحالة المأسوية التي يعيشها العراقيون صحياً وغذائياً اضافة الى المعاناة المستمرة من قمع وسياسة خلق الازمات مع مجلس الامن والولاياتالمتحدة. ان وصول الحصار الى طريق مسدود صار يحرج المجتمع الدولي والدول الاقليمية المجاورة في وقت كانت تسمع فيه جعجعة اميركية حول صدام من دون ان ترى طحناً يبدو هذه المرة انه سيكون حقيقة. غير ان هذه الحقيقة اذا لم تحقق هدف اسقاط صدام فانها يمكن ان تكون صحراء لوط ثانية فشل الانزال في ايران. ليس بالنسبة للاميركيين فحسب وانما للمعارضة العراقية ايضاً. من جهته يبدو النظام في مأزق فعلي. فقد هاجم على مدى عشرة ايام قانون تحرير العراق ثلاثين مرة عبر افتتاحيات ومقالات في الصحف العراقية الرسمية ولا شئ غيرها. وتشير المعلومات المتسربة من بغداد عبر ديبلوماسيين وسياسيين ان النظام عمد الى اعادة تشكيل اجهزة مخابراته بعد صدور القانون وشكل المجموعة 999 التي انيطت بها مهمة تنفيذ اغتيال وتصفية المعارضين في الخارج منعا للاعتماد عليهم في تنفيذ القانون المذكور. وتؤكد هذه المصادر ان هذه المجموعة تتخذ مقر شركة سياحية في العاصمة الاردنية واجهة لعمله ويقودها ضابط متمرس برتبة لواء كان يشغل منصب مدير منظومة الامن في جهاز التصنيع العسكري وهو تكريتي قريب من العائلة الحاكمة. كما تصاعدت لهجة كيل الشتائم الى درجة الاسفاف في الصحافة الرسمية للمعارضين المتعاونين مع الخطة الاميركية، ما يعكس القلق الفعلي للنظام ودخوله مرحلة استباق الاحداث قدر مايستطيع والعودة الى اسلوب الاغتيال الخارجي. عمد النظام الى شن حملة اعتقالات اثر محاولة اغتيال عزة ابراهيم الدوري في صفوف الاسلاميين العراقيين تحسباً لدور فاعل لهم اذا ما نفذت خطة الهجوم الاميركي ما يشير الى نفاد الصبر الرسمي وشعوره بالاختناق الفعلي. وجاءت التحركات بعد ورود معلومات من مصادر اسلامية تقول ان المد الديني في العراق اصبح يخيف النظام. فوجود مليوني عراقي في تجمع ليلة 15 شعبان في كربلاء من كل عام يعد مناسبة خطرة ضد النظام لذلك تعتقد هذه المصادر ان النظام ربما افتعل محاولة الاغتيال لاخافة الناس ومنعهم من التجمع الديني. وأفادت عن معلومات اخرى ان انتشارا للاسلاميين كان ملموساً في بغداد خلال تصاعد التهديد بتوجيه ضربة عسكرية للنظام قبل عدة ايام وتعتقد هذه المصادر ان الاميركيين ربما وافقوا على تأجيل الضربة العسكرية تحسباً من قيام انتفاضة شعبية في بغداد. فهل انعطفت الادارة الاميركية مرة اخرى نحو المؤتمر الوطني لهذا السبب؟ اي انها قامت بمحاولة التفاف نحو المؤتمر الوطني لتجهيز بديل عن القوى الدينية ووضعه في واجهة الاحداث؟ ستظل الاسئلة مفتوحة طالما بقيت الاحتمالات مفتوحة وطالما بقيت المعارضة العراقية غير قادرة على اسقاط النظام بفعل القوى الذاتية وانما بفعل المساعدة الخارجية. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.