منذ اشهر قليلة ماضية بدأت مظاهر الخجل في التعامل مع الادارة الاميركية تنجلي عن بعض الاحزاب والشخصيات العراقية المعارضة، وبذلك اصبحت زيارة واشنطن من قبل ممثلي هذه الجهات لا تستدعي عناء التحقيق الدقيق الذي تجريه عادة السفارات الاميركية مع طالب تأشيرة الدخول، ولم يعد قانون "المنع" الذي سنته تلك الاحزاب على نفسها وعلى غيرها موجوداً، وخصوصاً بعد ان توجه قادتها بانفسهم الى واشنطن والتقوا هناك بالمسؤولين وتباحثوا معهم حول القضية العراقية وتداعياتها المختلفة، بغية الخروج بها من مأزقها الراهن، اعترافاً بأساسيات الدور الاميركي في الملف العراقي، الذي اكتسب طوال السنوات الماضية قوة مؤثرة في توجيه مسارات الازمة مع النظام العراقي. التقطت واشنطن هذا التحول في المسلك السياسي لمعظم قوى المعارضة العراقية، فبدأت تتحرك انطلاقاً من هذاالموقف، مدركة ان الوقت حان لأن تستجيب لمثل هذا الانعطاف "النوعي" الذي بلور تحولاً في تقنية التعامل مع الادارة الاميركية. وبادر الرئيس الاميركي بيل كلينتون في خضم الازمة الاخيرة مع نظام بغداد باطلاق تصريحاته المفاجئة التي قال فيها "ان الولاياتالمتحدة ترغب في رؤية حكومة جديدة في العراق". وفتح هذا الكلام الباب على مصراعيه لتحرك سياسي اميركي على صعيد المعارضة العراقية، وتم في الحال تحرير 97 مليون دولار، لا زال امرها غير محسوم بعد ان ظهرت احتجاجات على طريقة صرفها او توزيعها على الجهات العراقية المعنية، وارسلت الادارة الاميركية مساعد وزيرة الخارجية الاميركية مارتن انديك الى لندن للقاء المعارضة، لكن الدعوات كما يقول انديك لم توجه الى الجميع، واقتصرت على بعض التيارات والشخصيات المعارضة. وطرحت في هذا اللقاء الكثير من القضايا والمقترحات التي تتعلق بالمعارضة العراقية ومستقبل العراق السياسي. بيد ان الاشكالية التي تعاني منها العقلية السياسية الاميركية الى الآن، هي عدم انجذابها الى "القوى المنظمة" اي القوى التي تملك رصيداً شعبياً في الداخل، وهو الرصيد الذي يعول عليه في احداث اي تغيير مقبل، كما حدث في انتفاضة آذار مارس 1991، حينما اجهضت هذه الانتفاضة بسبب عدة عوامل، بينها غياب القيادة السياسية والميدانية المؤهلة لسد الفراغ. استبعدت عن الاجتماع بأنديك قوى اساسية، ابرزها حزب الدعوة والمجلس الاسلامي الاعلى والحزب الشيوعي، واقتصر الاجتماع من القوى الاساسية التي لها رصيد في العمق العراقي سوى حركة الوفاق والحركة التركمانية، باستثناء الحزبين الرئيسيين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. اما الباقون فهم اشخاص لا يمثلون سوى انفسهم، وهذا هو واقع الحال وليس تجنياً عليهم او تقليلاً من شأنهم الامر الذي تفطن اليه البعض من الذين شاركوا في الاجتماع، فأثاروا الانتباه حول ضرورة حضور الاطراف الاخرى، وثبتوا بنداً خاصاً في وثيقة "النقاط الخمس" التي قدموها الى انديك واعتبرها مكسباً مهماً في تاريخ العلاقة بين واشنطن والمعارضة العراقية. ان اصرار الادارة الاميركية في التعامل مع شخصيات من شريحة "التكنوقراط" له اسبابه السياسية، فهؤلاء يمكن ان يكونوا نواة اية حكومة "متعقلة" في المستقبل، لأن تشكيل حكومة يلعب فيها المستقلون دوراً اكبر هي افضل بنظر واشنطن من حكومة احزاب تعرقل ارساء علاقة انفتاح واسعة الحدود معها، بحكم ان هذه الاحزاب او الحركات انما تعبر عن رأي الاكثرية من اعضائها. ونذكر ان المزاج الشعبي في العراق حالياً، مزاج متبدل يخضع لاختلاف وتباين الظروف المحلية والعالمية، لذلك فان امكان تبدل النفس الشعبي تجاه واشنطن سلباً او ايجاباً يصبح عملية واردة حسب موقف تلك الاحزاب في مرحلة النظام الجديد، حينما تبدأ مجريات عملية المراجعة الشاملة لتاريخ الاحداث منذ حرب الخليج اذ ستأخذ مكانها في سياق الوضع السياسي المقبل، وبذلك تظهر الكثير من المواقف المعادية للولايات المتحدة. وانطلاقاً من ذلك فان واشنطن تشعر بالصعوبة في التعامل مع قوى واحزاب، ولكنها ربما تدرك سهولة التعامل مع شخصيات مستقلة تهوى العمل السياسي، لكنها تتمتع بخبرة ادارية واسعة النطاق في مجالات الدولة ومؤسساتها، ومع ذلك فان المنهج الاميركي للاقتراب من المعارضة العراقية وادارة التعامل معها طبقاً لمبدأ "الوحدة والصراع"، لا زال يقطع شوطاً ملموساً بعد انقضاء هذه السنوات الطويلة التي خضعت فيها القضية العراقية لاختبارات اميركية متواصلة، بدأت منذ اللقاء الاول الذي عقده وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر مع ستة معارضين عراقيين في آب اغسطس 1992 بعيد انعقاد مؤتمر المعارضة الاول في فيينا، وانتهاءً بآخر لقاء اجراه مساعد وزيرة الخارجية الاميركي انديك في لندن مطلع الاسبوع الماضي، ومروراً بالزيارات واللقاءات العديدة التي جرت مع مسؤولين اميركيين وآخرها زيارة سكرتير الحزب الشيوعي العراقي حميد مجيد البياتي الى واشنطن بدعوة من المسؤولين الاميركيين واللقاء بهم للتداول بالقضية العراقية. وكان من المزمع ان يتوجه السيد باقر الحكيم الى واشنطن ايضاً، اذ لم يكن لديه اعتراض على هذه الزيارة في بداية الامر، وهذا ما فسره ارسال وكيله في لندن حامد البياتي الى واشنطن للاعداد لهذه الزيارة التي لم تتم، وعوض عنها بتوجه جلال طالباني الى طهران خصيصاً للقاء بالحكيم ومن ثم توجه رئيس المؤتمر الوطني العراقي الموحد احمد الجلبي الى طهران لملاقاة الحكيم واقناعه بالانضمام الى الجهد الذي تبذله اطراف من المعارضة العراقية بالتنسيق مع واشنطن لاعداد التوجهات المستقبلية لوضع المعارضة والنظام، بيد ان الانطباع السائد في اوساط المهتمين بالقضية العراقية يستبعد موافقة الحكيم بحكم تأثير القرار الايراني عليه. ان المواقف الاميركية تجاه القضية العراقية طوال السنوات الماضية خضعت لاعتبارات لا يزال الجزء الاكبر منها مجهولاً، فسياسة الاحتواء التي اثارتها واشنطن في المراحل الاولى من المواجهة مع النظام العراقي ورددتها لاحقاً وسائلها الاعلامية والسياسية، تبددت على يد واشنطن نفسها، فالاحصاءات الاخيرة في عز الازمة تشير الى ان الصادرات العراقية من النفط المباع للولايات المتحدة قد ارتفعت بشكل ملحوظ، وهذا قد انسحب ايضاً على بعض الصادرات الاخرى المجازة من قبل مجلس الامن، وهو السبب الذي دفع فرنسا وروسيا والصين الى التشدد في مواجهة الموقف الاميركي ضد العراق في جلسات مجلس الامن الاخيرة، حيث اعتبرت هذه الدول ان الولاياتالمتحدة تلعب لعبة سياسية تهدف الى اختراق المسلمات المعلنة باجراءات غير معلنة. وهو الامر الذي دفع الرئيس المصري حسني مبارك ايضاً للتشكيك بالتوجهات الاميركية في ما يخص اسقاط النظام العراقي من خلال دعم المعارضة العراقية. فالوقائع المتعلقة باسقاط صدام التي كانت ترفعها الادارة الاميركية في كل ازمة مع بغداد، لا تكاد ان تتبدد هي الاخرى بعد انجلاء الظروف المتوترة في كل مرحلة من المراحل. ويتذكر البعض من المهتمين بالقضية العراقية او لتصريح واضح المعالم يتعلق بالمعارضة العراقية اطلقه الرئيس الاميركي السابق بوش في 26 آب 1992، وقال فيه: "ان الولاياتالمتحدة تتطلع الى العمل مع قيادة جديدة في بغداد، قيادة لا تقمع شعبها ولا تخرق القواعد الانسانية الاساسية". هذا التصريح لا يختلف قطعاً عن التصريح الاخير الذي ادلى به الرئيس الاميركي الحالي، الذي ردد فيه العبارات نفسها التي استخدمها بوش. وفي كل مرة تختار آلة الاعلام والدعاية الاميركية لحظة التوتر مع العراق لتثير موضوع المعارضة، وما ان تخمد تلك اللحظة حتى تتراجع الحملة الاعلامية والسياسية الى الخلف، تاركة وراءها الاحباط والشللية في اوساط المعارضة العراقية. وفي الحال تبدأ عملية استعادة الثقة من خلال التلويح بالمال، وهو في كل الاحوال لا يشكل سوى جزء يسير جداً من متطلبات ازاحة نظام يشهد العالم كله بأنه اعتى الانظمة الشمولية على الاطلاق، ويمتلك قدرات مالية هائلة بفضل تحويل ثروة العراق بكاملها الى مجالات امنية وعسكرية تحمي النظام من اية محاولة للانقلاب عليه. وعلى حد تعبير احد قادة المعارضة في لقاء مع الاميركيين في فترة سابقة، "فان صدام مستعد ان يدفع للمعارضة العراقية اضعاف مضاعفة مما تدفعه اميركا، فيما اذا كفت هذه المعارضة عن العمل ضد نظامه". وهنا تكمن الاشكالية، فواشنطن التي تبدو متحمسة جداً لتغيير النظام العراقي ضماناً لأمن المنطقة التي تشكل مجالاً حيوياً للمصالح الاميركية، لا تريد في حقيقة الامر التقدم اكثر فاكثر باتجاه ازالة النظام بصورة فعلية، وربما يكون الدافع الذي يحدد هذه الرغبة عدم قناعة الادارة الاميركية في امكان ضبط الاوضاع الداخلية في حال الانفجار المقبل، حيث يضعف احتمال وصول البديل المطلوب من قبلها، فضلاً عن انها ايضاً تدرك بأن المواصفات الاميركية الراهنة لاختيار الشخصية البديلة لصدام غير متوافرة في معظم المعارضين الحاليين. لكنها ربما تقبل وبصورة موقتة ببعض الرموز، وتتعامل معهم على هذا الاساس الى ان يحين موعد وضع اليد على البديل المرتجى وعندذاك ستمضي في خططها المختلفة التي تهدف الى اقامة وضع جديد بعد ان يطاح بالوضع الحالي. والسؤال هل تتوقف المعارضة العراقية عن العمل مع الاطراف المعنية بالملف العراقي، لمجرد ان هناك شكوكاً في امكان الحفاظ على الاستقلالية الخاصة للشأن العراقي؟ اثارت هذه القضية بالذات بعض الجهات التي لم تحضر الاجتماع الاخير وكانت تلمح الى ان التحرك الاميركي الاخير يستهدف التدخل في الوضع العراقي الذي هو مسؤولية الشعب العراقي وليس مسؤولية الدول الاخرى صاحبة المصلحة في مثل هذا التدخل، ولكن تلك الجهات عادت في نهاية بياناتها او تصريحات مسؤوليها بالترحيب بأية مساعدة نزيهة وخالية من اي نوع من انواع الاملاء السياسي. وهنا تبدو المشكلة القائمة في عقلية بعض الساسة العراقيين هي ذات المشكلة التي كانت سائدة ايام الحرب الباردة بين معسكرين متنافسين، وفي ظل نهوض وطني وقومي شامل في معظم بلدان العالم الثالث، حيث كانت قضايا المساعدات غير المشروطة التي تقدم الى حركات التحرر من قبل بعض الدول تستهدف محاصرة الانتشار القطبي في العالم، اما الآن فان المعادلة تغيرت. ففي العالم اليوم قطب واحد هو الولاياتالمتحدة، وهذه لديها مصالح استراتيجية في منطقة الشرق الاوسط، خصوصاً المصالح النفطية، وان اية مساعدة تقدم الى هذه الجهة او تلك لا بد ان تكون قاعدة مشروطة بضمان تلك المصالح في المستقبل، وعليه فان المنطق السليم هو المنطق الذي يتعامل مع الوضع القائم انطلاقاً من الحقائق وليس من العواطف الجياشة، فلا توجد في عالم اليوم براءة سياسية، وانما توجد قضايا مشتركة تهم المعنيين بها دولاً كانوا أم جهات، ولكن الشيء الصحيح الذي يمكن الوصول اليه من قبل المعارضة العراقية هو التقليل من الاضرار التي تلحق بالشعب العراقي وبالسيادة العراقية وبالثروات الوطنية في اية محاولة للتعامل مع الاطراف المؤثرة في الملف العراقي. وعلينا ان ندرك بأن هنالك عزماً اميركياً معروفاً للوصول الى الثروات العراقية، انطلاقاً من احصاءات المؤسسات الدولية "النفطية" التي تشير الى ان القرن الواحد والعشرين سيشهد مرحلة نضوب النفط في بعض الدول المنتجة له كايران مثلاً، ويبقى العراق اكبر مخزون احتياطي لفترة طويلة. لذلك فان هذه الحقيقة التي تدركها واشنطن لا يمكن ان تنفصم عن اي تحرك سياسي مستقبلي تجاه العراق، وعلى هذا الاساس فان التقرب الى المعارضة العراقية انما يجعل الادارة الاميركية في مأمن مستقبلي لاحراز اي تفاهم حول قضايا عديدة ابرزها القضية الاقتصادية، باعتبار ان هذه المعارضة لا بد ان تكون البديل المقبل لأي تحول في الوضع العراقي. * كاتب وصافي عراقي مقيم في لندن.