منير فاشه، بقية الأصدقاء... قرأت مقالتكم عن مجلة "قلب الأمور" في ملحق "شباب" في جريدتنا العزيزة "الحياة"، وليس عندي من الكلمات ما يفي لوصف شعوري ازاءها. انما أجمّع كل مشاعري في كلمة واحدة: - أشكركم..! لأول مرة اجد أناساً من النُبل بحيث يدعونني الى ان أتكلم عن نفسي، انا المجهول الذي طالما عانيت - وما زلت أعاني - من كوني مجهولاً للآخرين على الرغم من اعتقادي الراسخ بأهمية ما عندي. لا علم لي بالكيفية التي توصل بها "الحياة" هذه الرسالة. لكن هذا غير مهم! ان سعادتي الآن هي ان لديّ عنواناً أكتب اليه. "لدي هاتف. لكن ليس عندي من أتصل به.." هكذا تبدأ احدى قصصي القصيرة. في اعمالي الادبية اطلق عبارات يجدها القارئ غريبة، وقد يظنها حذلقة لفظية، لكنها - مع الأسف - حقائق. فعلاً ليس عندي من اتصل به..! عندما نويت السفر الى الأردن كمحطة أولى قيل لي انني اذا توجهت الى الساحة الهاشمية في عمّان فمؤكد انني سألتقي فيها بصديق أو شخص اعرفه. وعندما وصلت عمّان لم استغرب حين لم ألتق في الساحة الهاشمية بأي شخص اعرفه، وذلك لأنني - اساساً - لا اعرف احداً! وعندما أؤكد لكم بأنه لا ذنب لي في هذه الحقيقة فاني اطرح امامكم مسألة جدية. ولدينا الآن مثال حاضر: فجريدة "الحياة" لا تدخل - كغيرها من الصحف الصريحة والمستقلة - الى العراق، بسبب الحصار كما يعلن، وبسبب الطغيان كما نعرف جميعاً. ولو لم اغادر العراق لما تمكنت من قراءتها، ومن ثم لما تعرفت اليكم عن طريقها. هذا هو مصدر سعادتي الآن: ففي بلدي ما كنت لأحظى بعنوان أناس طيبين أكتب اليهم عن نفسي... الآن يكفيني أنني أوجه هذه الكلمات الى أناس. بشر. عيون تقرأ كلماتي. عقول سوف تدرك وجودي. انا لم اعلن عن وجودي الا اليوم، في صورة رسائل الى صحف لم تسمع من قبل باسمي. امامي مهمة عسيرة بسبب كوني متأخراً جداً، بسبب كوني أنوي ان أبدأ من الصفر وأنا داخل في سن الثامنة والثلاثين!! في هذه السن لديّ هذه المحصلة: - لم أنشر من ديواني المخطوط ذي الجزءين سوى خمس قصائد! - لم أنشر من قصصي القصيرة سوى خمس قصص! - لم أنشر من أعمالي الاخرى الفكرية والدرامية اي شيء! - عدا ما نشرته في مجلة "العامل" الكويتية 1979 - اي قبل عشرين سنة!!، لم أنشر في أي بلد عربي غير العراق! - لم أكمل تحصيلي العلمي، فقد هجرت كلية الآداب في السنة الثالثة! - لم أوفق - بعد مختلف الجهود والمعاناة - من انقاذ اسرتي من الفاقة ومما لحقها من غبن اجتماعي قاس. - لم أؤسس لنفسي أي انتماء اجتماعي ولا أي وجود ثقافي، وأدى بي رفضي للارتزاق وللاستخذاء وللنفاق الى كوني غير معروف لأي شخص معروف!! أو كما عبرت ذات مرة في مقطع شعري: "كاتبُ هذه السطورْ يجهله الناس جميعاً تعرفهُ بقية الكائناتْ صعوده بلا أثرْ سقوطه بلا صوتْ" وهذا لا يعني ان معرفة "بقية الكائنات" بي هي عزاء كاف لضياع شبابي بأكمله! لكني أعود سائلاً: هل أنا الذي أضعت هذا الشباب بسلبيتي وانعزاليتي وبكبريائي الادبي والأخلاقي؟ وقبل ذلك، هل أنا وحدي المسؤول عن تلك الانعزالية وعن النفس المتوجسة من الآخرين؟ هل كنت سأنعزل لو عشت في مكان افضل او في زمان افضل؟ هل كنت سأصاب بتوجّس مرضي من الآخر لو لم يكن للبصاصين والجواسيس والدجّالين وجود مرعب في واقعنا العراقي الراهن؟؟ لست أدري.. لست أدري حقاً. قد اكون بالغت. وقد اكون ضعفت امام الواقع فانطويت عنه، لا سيما بعد خروجي حياً - بأعجوبة غالباً - من تجاربي المريرة معه... حتى انني خيبت توقعات الناس الذين قدّروا موهبتي. فبد توقعت لي الدكتورة سعاد محمد خضر، السيدة المناضلة والتي نشرت لي عدداً من اعمالي في مجلتها "الثقافة" في الثمانينات، "مستقبلاً مشرقاً".. والمؤكد انها الآن ان كانت ما تزال في هذه الدنيا لن تصدق انني حتى اليوم لم أحقق هذا المستقبل المشرق! لكن اخبروني انتم: ما الخطأ؟ أيكون تأخري عن مغادرة العراق بضع سنوات؟ هل حقاً انني اخطأت عندما لم أقدم في بلادي التنازلات الاخلاقية التي قدمها غيري وكسبوا بواسطتها اضافة الى ما "كسبوه" داخل البلاد شهرتهم الخارجية عندما غادروا العراق بوصفهم اسماء معروفة على الساحة الادبية؟ هل لم اتصرف بذكاء عندما تصرفت بكرامة؟ هل لم اتمكن من الجمع بين الاثنين فأنتجت كبرياء بليداً أو - على الأقل - خاملاً؟ اقر بأنني ظاهرة نادرة! اكتب ادباً "صالحاً للنشر" منذ عشرين سنة ولم أنشر منه سوى بضع صفحات.. لماذا صنعت هذا بنفسي؟ مؤكد ليس اقتداء ببول فاليري! انني اكتب الشعر والقصة والمسرحية والسيناريو، وعملت في الصحافة مذ كان لي من العمر 18 سنة في مجلة "العامل" الكويتية فلماذا لم أقاتل في سبيل النشر؟ لماذا لم اغادر العراق قبل سنوات عندما تبين لي ان ثمن النشر في صحافته غير متوفر في رصيد شخصيتي؟ لماذا سمحتُ بأن أطمر؟ والمشكلة انني كنت أعي بأنني أُطمر: "لسوف يستهلكني الضجيج والدخان دون فائدةْ..." هكذا كتبت وقتها. كانت ترعبني فكرة نضوب مواهبي بسبب خنقها. لست أدري كيف تواصل الموهبة الحياة اذا كانت لا تظهر ولا يعلم بوجودها الناس! بل انني - في قصيدة عنوانها "لقاء" - أتنبأ بضياع شبابي هباء... في هذه القصيدة رجل يقضي عمره يصعد جبلاً على أمل ان حبيبته تنتظره في القمة، غير منتبه لمرور الزمن عليه. وأخيراً يصل "القمة" ويجد حبيبته، ولكن هذه بالكاد تتعرف عليه، وتعيّره بشيخوخته وترفضه، وعندها فقط ينتبه الى ان رأسه خال من الشعر وفمه خال من الاسنان.. لقد شاخ! تلك القصيدة مكتوبة في الثمانينات. لكن هذا الهاجس ظل يلازمني مع كل يوم اواصل فيه البقاء في البلاد التي لم تعد بلاداً.. فمنذ فترة قريبة كتبت ما اطلقت عليه "مشاهد" وهو صنف أدبي لا تعريف له عندي سوى هذه الكلمة لأنني لم أقع على مثيل له في الادب الحديث لكي استعير اسمه. في هذه المشاهد هناك عزف على تلك النغمة ذاتها، لعل اكثرها ايلاماً هذا المشهد: "انها واحدة من صخور هذا الجبل، بل ومن قمته. الآن لا احد يصدق ذلك، فقد انهارت من اعلى القمة، دون مبرر معقول. دحرجها السفح بلا رحمة، ربما عقاباً على عدم احتفاظها بمكانتها. وكلما حاولت ايقاف تدهورها عاجلها السفح شديد الانحدار بلطمة من احدى صخوره المدببة قذفتها متقلّبة في الهواء لتعود تتدحرج بسرعة أشد.. حتى استقرت في القعر من الوادي... ثم، وهي هناك، قامت.. فاذا هي تصرخ من بطن الوادي: - أنا لست صخرةْ.. رةْ.. رةْ.. رةْ.. رةْْْ......" تجمّع عندي الآن العديد من هذه "المشاهد" تستحق - كما ارى - ان يقرأها الناس، لكن أين أنشر؟ فأنا لم اخرج من "الكهف" الذي تنطبق عليه جميع صفات كهف افلاطون، الا الآن. الآن عليّ ان اطرق كل الأبواب وأكاتب كل الصحف التي احترمها، وبدون علاقات! المشكلة انني اعزل من أية علاقات!! صحيح ان موهبتي كانت على الدوام هي وسيلتي في النشر لوحدها وانني لم انشر عملاً واحداً بواسطة علاقة شخصية، بما فيها القصص الثلاث التي نشرت لي في جريدة "الثورة" العراقية سنة 1997 حيث تقدمت - دون سابق معرفة - ال رئيس التحرير في مقهى "حسن عجمي" ببغداد، وكان وقتها سامي مهدي، وسلمته قصتي الأولى فالثانية فالثالثة ونشرت جميعها، صحيح كل هذا، ولكنه في كل مرة كان يحدث عن طريق المقابلة وجهاً لوجه. ولم اعرف في عمّان حتى اليوم طريقاً لمقابلة اي ناشر وجهاً لوجه. وليس أمامي سوى الكتابة الى الصحافة المتميزة وخاصة الصادرة في لندن. غادرت بغداد قبل شهرين، بل اقل. وأمارس حالياً الأعمال التي يمارسها العمال العراقيون هنا! وأحلم باليوم الذي أوجد فيه حيث أحب: في مكان آمن، بين اناس لا احاذر منهم، أمارس المهنة التي احب في المجالات التي كانت دوماً المجالات الأكثر تميزاً عندي: المجالات الثقافية والفكرية والفنية والدرامية. احلم بأن أنجح في ايصال رسالتي الى العالم كله. أيها الاصدقاء. سأكتفي الآن بهذا المقدار البسيط. اذا تأكد لي ان رسالتي هذه قد وصلتكم فسأطلق اليكم سيلاً من التفاصيل والاعترافات سيكون نافعاً ومهماً ان يعرفها الناس، بل ربما سأخصّكم بسيرتي الغريبة الكاملة على حلقات! الآن أرجو ان تعلموني - بأية طريقة - بوصول رسالتي هذه اليكم. أتمنى لكم التوفيق في اتجاهكم الانساني.. ومرة أخرى: أشكركم. عمّان في 13 شباط/ فبراير 1999