الكتاب: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية نموذج معرفي جديد المؤلف: عبدالوهّاب المسيري الناشر: دار الشروق - القاهرة 1998 إنجاز الدكتور عبدالوهاب المسيري المتمثل في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية، نموذج تفسيري جديد"، عمل غير عادي في الاوساط الثقافية العربية التي كثر حديثها عن خطط المؤسسات البحثية في شأن إصدار موسوعات في مجالات معرفية مختلفة، من دون ان يترجم ذلك ابدا الى عمل ملموس. وهنا نجد فرداً واحداً يجند عشرات من الباحثين الشبان متخلياً عن "الأنا" في سبيل الوصول الى الحقيقة. ويعترف المسيري بأن محاورات الدكتور احمد عفيفي، أستاذ اللغة العبرية في جامعة عين شمس، بخصوص مداخل التاريخ القديم في الموسوعة، جعلته يغير من رؤيته كثيرا، ويتوخى الحذر في التعامل مع هذا التاريخ. نجا المسيري في هذه الموسوعة، التي فازت بجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب باعتبارها أحسن اصدار في مجال الموسوعات للعام 1998، من آفتين حلتا بالحياة الأكاديمية العربية، أولاهما استيلاء الاساتذة على مجهودات تلامذتهم، والثانية حشر المعلومات من دون تحليل وتركيب وتفكيك وطرح رؤى. وفكرة هذه الموسوعة اختمرت في ذهن المسيري في العام 1970، أثناء تأليفه كتاب "نهاية التاريخ"، إذ عليه ان يتوقف عند كل صفحة لتعريف بعض المصطلحات والشخصيات اليهودية، ولهذا قرر أن يستمر في تأليف الكتاب من دون توقف لتعريف كل مصطلح ضماناً لتماسك النص وعدم تشتيت القارئ. وفي الوقت نفسه وضع المسيري معجماً للمصطلحات والشخصيات اليهودية، سرعان ما حوّله الى موسوعة من جزء واحد. وعاب هذه الموسوعة ذات الجزء الواحد أنها تهدف الى توفير المعلومات ليس إلا، خصوصا ان عدداً هائلاً من المفردات يكتسب في السياق اليهودي والصهيوني، دلالات خاصة تخرج المفردات عن معناها المعجمي المألوف، مثل الشعب والأرض. ولذلك حاول المسيري أن يقدم موسوعة تفكك المصطلحات، وتوضح المفاهيم الكامنة وراءها، ومن هنا نشأ لديه معجم فلسفي خاص به. فعلى سبيل المثال، رفض المسيري ما يسمى بفكرة "وحدة الوجود التاريخية" وهي فكرة هيجلية، صهيونية في ما بعد، تفترض أن ثمة تاريخاً عاماً مجرداً، لا مستويات له، ينتظم كل البشر. وبحسب المسيري، فإنه لا يمكن إنكار وجود تاريخ إنساني عام ينتظمنا جميعا، ولكن داخل هذا الإطار، توجد بنيات تاريخية غير متساوية، إذ أن التطور التاريخي لا يتم بالمستوى نفسه، ولا بالطريقة نفسها من مجتمع إلى آخر، ومن هنا تظهر أهمية الخاص على حساب العام. ويتجاهل الهيجليون والمضمونيون هذه المستويات المختلفة من التاريخ والواقع، ويتحدثون عن القوانين العامة المجردة وحسب، أو عن التفاصيل التي لا يربطها رابط. والصهاينة أنفسهم يدورون في إطار وحدة الوجود التاريخية. فهم يتحدثون ببراءة شديدة عن الهجرة إلى فلسطين، حلاً للمسألة اليهودية في اوروبا، كما لو كانت فلسطين تنتمي مع تلك القارة الى البنية التاريخية نفسها. وإنطلاقا من رفض وحدة الوجود هذه، بلور المسيري هجومه على الموضوعية المجردة، أي الموضوعية الفوتوغرافية المتلقية. ويرى المسيري أنه لا بد ان نعترف من دون خجل بأنه إذا كان الرصد المضموني للظاهرة يصل الى الحد الأقصى من "الموضوعية المجردة" فإن الترتيب والربط بين العناصر، يدخل فيه عنصر الاختيار الذي يرتبط بذات الباحث التاريخية والفردية. فحين نضع المتغيرات في نسق، فلا بد أن نقرر مستوياتها المختلفة، وفكرة المستويات غير واردة في التفكير المضموني، ولكنها أساسية في التفكير البنيوي، ولتقرير المستويات، لا بد أن نقرر ما هو جوهري وما هو فرعي من وجهة نظرنا نحن، إذ أنه لا توجد وجهة نظر مطلقة في العلوم الانسانية. ولعل هذا العنصر الأخير هو الذي يميز العلوم الانسانية عن العلوم الطبيعية، فالبنيات الطبيعية قد يوجد خلاف في شأنها بين علماء الطبيعة، ولكنه خلاف لا يصل في درجته بأي حال، إلى درجة الخلافات التي تنشأ في مجال العلوم الإنسانية، وخصوصا الدراسات التاريخية، كما أن نظرتنا الى البنيات الطبيعية لا تتأثر كثيرا بالذات المدركة، هذا على عكس الظواهر التاريخية الإنسانية التي تتأثر برؤية الإنسان المدرك. من هنا نستطيع أن نفهم مصطلح "المنحنى الخاص"، الذي استخدمه المسيري كثيرا في موسوعته، وهو مصطلح يأخذ في الاعتبار ذاتية الادراك التي هي امر حتمي، والوجود الموضوعي للظاهرة الذي تؤكده ممارستنا اليومية، ولا بد من افتراضه في أي رؤية علمية. والمنحنى الخاص للظاهرة، كما يعّرفه المسيري، هو النقطة التي تلتقي فيها الرؤية الخاصة للمدرك بزوايا الظاهرة المتحددة والمتعينة والخاصة. فكل ظاهرة يحمكها قانون عام، يمكن لكل الدارسين إدراكه، بل لا بد أن يدركه الجميع حتى يصبح قانوناً لا خلاف عليه بين مجموعة من الباحثين. ولذلك دعا المسيري الى ما سماه "المنهج البنيوي" باعتبار أن أهم مزاياه هي مقدرته على تفسير خصوصية الظاهرة من دون إسقاط فكرة القانون العام. فهو يحاول أن يرصد الحقائق المحسوسة، لا كعناصر منفصلة ولا كثوابت ساكنة وإنما كمتغيرات متحركة لا وجود لها خارج مجموعة من العلاقات المتناهية في التركيب والخاضعة في الوقت نفسه للقوانين الخاصة والعامة. ورغم تمرد المسيري في موسوعته على الصيغ الموضوعية المجردة، فإنه واصل استخدام المصطلحات الماركسية القديمة مع محاولة توسيعها، ففي موسوعته الأولى ذات الجزء الواحد يستخدم ثنائية البناء الفوقي، التحتي، والتي تتسم بقدر كبير من التبسيط والاختزالية، إذ أنها تنتهي برد الأول الى الثاني، كما أنها تؤدي إلى سقوط كل شيء في قبضة الصيرورة والحرك، ومن ثم لا تبقي أي ثوابت، وتختفي ظاهرة الإنسان ككيان مستقل عن عالم المادة المتغير. ومن ثم لجأ المسيري الى الكتابة عن العنصر الكوني، ليحتفظ بعنصر من الثبات، وحتى يفلت الإنسان من قبضة الصيرورة. ولكي يكتمل هذا الإطار النظري، يشير المسيري الى ما يسميه "العنصر الكوني" في أي بنية تاريخية، وهو عنصر لا يخضع للقوانين التاريخية بل يتحداها ويمدها بالحياة، وتحته تندرج الرغبة الجنسية بالمعنى البيولوجي وكل الحاجات البيولوجية. هذه البنية التحليلية التي أقامها المؤلف تقودنا الى الكشف عن موقفه من اسرائيل، فهو يؤكد من خلال تحليله للمجتمع الاسرائيلي، انه لا يمكن التصالح معه، ليس لأسباب نفسية كما قد يظن البعض للوهلة الاولى، لكن لكونه لايتعامل مع السياسات المتغيرة، مثل اتفاقات السلام وتصريحات السياسيين، وإنما يتعامل مع البنية الاساسية. وبنية اسرائيل الكامنة، في تصوره، هي بنية توسعية، استيطانية، عرقية، احلالية، وبالتالي ستظل في حال صراع مادام هناك فلسطينيون يقاومون، ومادام هناك مستوطنون صهاينة يغتصبون الارض، تهيمن عليهم رؤية التفوق العنصري، ومادامت دولة اسرائيل مستمرة في النظر الى نفسها باعتبارها جيباً غريباً يدافع عن مصالح الغرب المتقدم، في الشرق المتخلف. ويؤكد المسيري اننا لا نعرف تجربة استيطانية إحلالية واحدة نجحت إلا عن طريق إبادة السكان الأصليين، هذا ما حدث في اميركا الشمالية وفي استراليا ونيوزيلنده. ولكنه لم يحدث في فلسطين لأسباب عدة من بينها، أن الفلسطينيين يتكونون من كتلة بشرية موحدة، في غاية التركيب والوعي، قادرة علي استخدام كل الاسلحة الممكنة، بما في ذلك الاعلام، ومثل هذه الكتلة ليست سلبية، تجلس في مكانها من دون حراك، وعدوها يذبحها ذبح الشاة. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، تاريخ الاستيطان الصهيوني، اصبح العالم اصغر في حجمه بسبب وسائل المواصلات ووصول الاعلام الى كل أرجائه، ما يجعل عمليات الإبادة، أمراً مستحيلاً، فهي عادة ما تتم وراء ستار كثيف من الصمت، حتى لايحتج أحد. ويجب ان نأخذ في الاعتبار ان الفلسطينيين يتكاثرون بطريقة تخلق مشكلة ديموغرافية حقيقية للدولة الاستيطانية الصهيونية، فضلا عن انه تحيط بفلسطين دول عربية تضم جماهير متعاطفة معهم ومع قضيتهم وتزودهم بالعون. وهناك حقيقة تاريخية تؤكد ان الجيوب الاستيطانية التي لم تُبد السكان الاصليين قد تمت تصفيتها. بل وأكثر من هذا، يذهب المسيري، إلى أنه حتى لو استسلم الفلسطينيون، فستظل هناك مسألة اسرائيلية، ومطالب أمنية اسرائيلية لا تنتهي. فافتراض ان فلسطين ارض بلا شعب، وأن اليهود شعب بلا أرض، هو افتراض كاذب من اساسه، لن يؤدي الا الى العنف. وفي ضوء ذلك يحاول المسيري ان يؤسس نظرية جديدة لاسرائيل واليهود. وهو هنا لا يكتفي بالرؤية التفكيكية النقدية التي تظهر نقاط الضعف في النموذج التفسيري المهيمن. أما التأسيس فهو عملية ابداعية تركيبية تتجاوز التفكيك، فهي تتطلب نحت نماذج مختلفة والربط بينها، كما تتطلب الغوص في كل الابعاد السياسية والاقتصادية والدينية والمعرفية للظاهرة، وإعادة ترتيب الوقائع وتصنيفها في ضوء النماذج الجديدة. وهو ما أدى الى ان تطرح الموسوعة نماذج تحليلية مترابطة ومصطلحات بديلة. ان اهمية ما يطرحه المسيري تنبع من اننا مع دخول الاستعمار بلادنا وقعنا في قبضة ما سماه احد علماء الاجتماع الاميركيين إمبريالية المقولات، أي ان مقولاتنا التحليلية نفسها مستوردة من الغرب. فعلى سبيل المثال مصطلح ومفهوم القومية، عرف في المعجم اللغوي والحضاري الغربي عن طريق استقراء الواقع الحضاري الغربي، ومن ثم يمكن تطبيقه على بعض القوميات الغربية، لا كلها، ثم يقضي بعضنا سحابة يومه في إثبات ان هذه التعريفات تنطبق علينا ايضا. ويذهب البعض الآخر الى انها لا تنطبق، وكلا الفريقين حوّل المقولة الغربية الى إطاره المرجعي الوحيد الذي يتحرك من خلاله، مع ان الوضع القومي العربي يختلف عن الوضع القومي داخل التشكيل الحضاري الافريقي، وكلاهما يختلف عن الوضع القومي داخل التشكيل الحضاري الغربي. ولكي نتحرر من التبعية الفكرية يتطلب الأمر بحثاً طويلاً، وإعادة قراءة للواقع والتاريخ، حتى يمكننا طرح بدائل، كما فعل المسيري في موسوعته.