الصفوف كما تبدو في المساء مستمرة وتزداد طولاً. ساحة أكاديمية الفنون في لندن تحولت الى ما يشبه ملعب كرة القدم. المقارنة هنا، من حيث اقبال الجمهور فقط. الشعبية للرسام كلود مونيه والانتظار لي ولك، وللجميع تحت رذاذ مطر رقيق ومستمر يمحور تكدر الوجوه كما تمّحي الالوان في اعمال هذا الفنان. التنافس على بطاقة "مونيه في القرن العشرين" تجاوزت التوقعات قبل الافتتاح، وكأن الناس استيقظوا على رسام يعود حياً بأعمال كلاسيكية لم يروها من قبل. مونيه 1840 - 1926 يعود الى جيل آخر من المشاهدين في اكبر معرض تشهده لندن منذ فترة طويلة... الى جمهور اتعبه العنف في الفن وفي الحياة... الى متذوقين فقدوا الاثارة وكل ما هو غريب وشاذ. يبدأ المعرض بلوحات الزنبقة، وقد اعدها الرسام في شعور قوي كأنها روح المنظر الطبيعي. وها هي تتحول في نهاية المطاف الى مواجهة مع الضوء في اوقات مختلفة من النهار، فعاد رسمها في لوحات تطول اكثر من 8 اقدام، وتغطي غرفة شاسعة في آخر المعرض. قد يكون بعض من هؤلاء الذين ينتظرون الدخول لساعات شاهدوا لوحات زنبقة الماء، ولوحات مدينة البندقية المضيئة، ولوحات لندن مدينة التصنيع والدخان، في عشرات الكتب والمطبوعات عن الرسام وأعماله. ومع ذلك يعودون الى الانتظار لمشاهدتها كما هي حقيقة، من وراء الاكتاف والزحام. ما يمثله هذا المعرض هو عودة الذوق الى مدينة التجربة والمغامرة، حتى في نسيان العباقرة الذين ساهموا فيها. المعرض اكثر من مجرد ذكرى، انه يحمل اشارة الى عودة الكلاسيكية، يمهد الطريق الى شعبية الرسم في معارض كبيرة قادمة حتى نهاية السنة. المعرض ليس علامة منعزلة عما يجري في عواصم كبرى. وإن كانت هجمة الكلاسيكية محاولة لإعادة التوازن لما تركه فن الانشاء والعدم من تأثير في مخيلة الناس، فصدوا عن المعارض لأنها تحولت الى مقابر او مجازر. معرض مونيه سيكون له تأثير اما في كراهية فن قوامه منظر في لوحة، او في اقامة المزيد من هذه المعارض لأن الجمهور يريدها ويقبل عليها. الاقبال على مونيه يصفه نقاد انه "حب في الفن المعلب"، وقد جندت له وسائل اعلامية واسعة. وأعلنت الاكاديمية ان اكثر من مئة وعشرة آلاف بطاقة بيعت لحد الآن، وان اغلب الامسيات الخاصة محجوز حتى نهاية المعرض في نيسان أبريل المقبل. تكلف البطاقة تسعة جنيهات، وقد تسدد الاكاديمية ديونها من المدخول والصور والكتب والتذكارات. مهمة شاقة ان ينظر الزائر الى كل لوحة في هذا الزحام، خصوصاً ان فيها من التشابه ما يجعلها تبدو منظراً واحداً في اجزاء عدة، لا سيما في وسط المعرض حيث تتكرر الزهرة الطافية فوق سطح الماء الى ما لا نهاية. تشد الاهتمام فترة البداية حيث كان الرسام غير متأكد من اي شيء. بينما ينفعل الانسان من لوحات البندقية وقد تعددت ألوان مناظرها حسب اوقات النهار. لقد كان لمدينة لندن دور في تطور اسلوب الفنان، على الاقل في الطريقة التي اكدت تشبعه بفن وليام تيرنر. لقد انتهى مونيه في آخر حياته الى الاقتناع الذي توصل اليه الرسام البريطاني عندما إمَّحت كل الفوارق وذاب المنظر في اللون والضوء معاً. ليس من الضروري الاقتراب من هذه اللوحات الكبرى كأنها منبع متدفق من الجدران يغمر بانفعال خاص. اغلب المنتظرين جاؤوا من مناطق خارج لندن، وفيهم من يعتبر المعرض تجربة روحية وحقنة ثقافية مقوية. تقول جانيت انه يكفي ان يدخل المرء قاعة المعرض ويتزود بإحساس وألوان. بينما أكد مارك انه زار حديقة مونيه في جيفرني في فرنسا، ويريد ان ينعش النظر والخيال بلوحات يمتزج فيها الضوء والماء والسماء: "هذا الفنان حديث الساعة". وترى نيكولا انها مهتمة بلوحات مناظر لندن، خصوصاً جسر تشارينغ كروس الذي يمر منه قطارها كل يوم. تغلب في تلك المناظر عتمة الضباب والدخان، وهي عكس موضوع الطبيعة حيث الالوان منفتحة زرقاء وصفراء وبنفسجية. لعل الرسام كان يرى في لندن في 1900 تحدياً لنسمة الضوء والجمال. يرى نقاد ان اقبال الجمهور على المعرض لا يدل الى ان البريطانيين تحولوا بين عشية وضحاها الى شعب من محبي الفن الراقي ما داموا يهتمون بما يسمى "فن علب الشوكولا".