تحلق جمهور حول المرشد في متحف ناشيونال غاليري وهو يشرح لهم كيف رسم انطونيو كاناليتو مدينة البندقية من دون توقف. الى آخر حياته كان يجلس في الساحات مسجلاً مظهر البيوت وهيئة الاماكن مع أنه يعرف كل حجرة في واجهاتها. رسم ما يزيد عن 500 لوحة لمناظر المدينة، حتى اصبحت طريقته في التصوير أسلوباً واسع الانتشار في القرن الثامن عشر. هذه اللوحات أضافت جاذبية أخرى للبندقية، فصارت مرتعاً للارستوقراطية والاثرياء في أوروبا، يجدون فيها المتعة التي يفتقدون في مدنهم المنغلقة: الاجواء المرحة، واستعراضات الشارع والمقاهي والمياه، كلها عناصر استخدمها رسامون من قبل، لكنها تحولت على يد كاناليتو أداة لرواية قصة جمال مدينة. الرسام في معرض "البندقية من خلال نظرات كاناليتو" يتحول الى مرشد يأخذ الناس معه في رحلة استكشافية، يجدون فيها الخيال أهم من الحقيقة. كاناليتو كان رساماً سائحاً في مدينة ولد فيها. فهل هو الحب لها، أم التجارة في مناظرها هي كانت الدافعة اليها، ربما كان تحت تأثير الاقبال الذي تلقاه مناظر البندقية السياحية، لكنه ما لبث أن حقق تطوراً في هذا النوع من التصوير الذي لم يكن يلقى احتراماً، إلى أن التفتت أكاديمية فينيسيا الى أعماله فمنحته عضويتها. ولد كاناليتو في العام 1697، وتدرب على الرسم مع أبيه الذي كان مصمماً لمناظر المسرح. ثم انتقل الى تصوير مناظر البندقية، فيبيعها في الاسواق. ولم تمض فترة حتى اكتشفه أثرياء السياح الانكليز الذين بدأوا يطلبون منه تصوير مناظر خاصة، ومن هذه لوحة "جسر ريالتو" الذي حقق فيه أسلوباً خاصاً في التناسق، إذ يغطي الظل جهة من المنظر، بينما ينعكس ضوء قوي على جهة البيوت المقابلة. استفاد الرسام من دعم تاجر الفن جوزيف سميث عندما صار قنصلاً لبريطانيا في فينيسيا، إذ كان صلة بينه وأثرياء انكليز لتصوير معالم المدينة، بينهم دوق بدفورد الذي كلفه بتنفيذ 25 لوحة، ماجعله محط تقدير النخبة وسلط عليه أضواء، الى درجة أن الملك جورج الثالت اشترى عدداً من لوحاته، وهي تشكل الآن عنصراً مهماً في المجموعة الفنية عند الملكة اليزابيث الثانية. توقف السياح الانكليز عن السفر إلى البندقية لتأثير الحرب في النمسا، فهاجر كاناليتو الى لندن وعاش أكثر من عشر سنوات. وتحولت أعماله في تلك الفترة الى صيغة مكررة. إلا أنه كان يبرهن عن مقدرة في رسم المناظر البانورامية، مستخدماً الدقة الهندسية وتحديد الابعاد، وهو شيء كان ينظر اليه الأكاديميون باعتبار. رسم كاناليتو مدينته باستمرار ومن دون توقف حتى وفاته في العام 1768 ورأى نقاد عصره أن أعماله كانت تخلو من حس وشعور كأنها صوراً فوتوغرافية، أو مجرد انتاج لمناظر معمارية جميلة. سأل شخص من المجموعة التي تحيط بالمرشد: هل كان الفنان يسجل مايراه أو مايريده سياح البندقية؟ التفت المرشد الى لوحة تصور منطقة القناة العليا: مساحة الماء تعادل تقريباً تلك المخصصة للسماء الصافية. البيوت تمتد على جانبي القناة الى مالانهاية. منظر يشبه صورة بطاقة البريد. المرشد متأكد ان الرسام كان ينظر بعين مختلفة الى مدينته، يحاول ان يعكس جمالها في رؤية تتجاوز الواقع قليلاً. تثبت كراسات الرسم الموجودة في اكاديمية الفنون انه كان يولي عناية كبيرة للبنايات، يرسمها مرات من زوايا مختلفة، كأنه مهندس، ليختار المناسب منها. أحياناً كان يضطر الى تجاهل بناية او تغيير حجمها اذا كانت تحجب زوايا الرؤية الى المشهد كله. الدقة والواقعية أهم ما يتميز به أسلوب الفنان. يمكن إضافة طريقة تنظيم المنظر، غالباً ما يرسمه فوق مستوى النظر قليلاً، ومن زوايا أكثر صعوبة، محاولاً إعادة تكوينه من جديد. نجد في لوحة "منجم الحجارة" اهتمامه بالتعبيرية الى جانب واقعية المكان، وهي تمثل مرحلة لم يكن يهتم فيها الرسام ببراعة التقنية أو التنسيق المعماري. لوحات هذا المعرض تصور رغبة متأججة عند فنان كان يجند كل الطاقة لتقديم مدينته في أجمل الحالات. إن الدقة والمهارة والحس الجمالي يدفع هؤلاء الزوار الى التنقيب بعيونهم في هذه اللوحات ولا يكترثون أنهم يشكلون حواجز أمام نظرات الآخرين.