إنتابني شعور عميق عندما شرعت في مطالعة كتاب "الفصول الأربعة"* للمفكر الراحل معن زيادة، وهو أن الشخص الذي أقرأ له هذه الصفحات والفصول ما زال حيّاً، لشدّة ما تنبض به الكتابة من حيوية. فتوقفت عند هذه الظاهرة التي عليها قامت كتابة السير الذاتية منذ غابر الأزمنة وحتى اليوم. فالكاتب، في السيرة الذاتية، يكتب للخَلَف. وهو لذلك يشحن كل طاقاته التعبيرية في الكلمات والعبارات التي سرعان ما تخترق، لحرارتها الإنسانية الفيّاضة، وعي القارىء، حيث تتحوّل الى مشاهد حيّة شبه معاصرة له. فقدرة الكتابة على استرجاع فصول الحياة وجعلها تحيا ما دام يوجد مَن يقرأها، ربما هو أقوى ما يتمتع به هذا السجل التعبيري الإنساني. بل ربما لجأ الإنسان الذي عاش هذه التجربة لأول مرّة في القِدَم الى الكتابة عن ذاته هو ليقاوم زوال الأيام ولكي يحفر حفراً ما عاشه في لحظة يريدها أن تكون حيّة على الدوام. ذهب أسلافنا ونحن سوف نذهب يوماً أيضاً، غير أن الكتابة تبقي الكاتب على قيد الحياة، نُدخله الى حياة القارىء اليومية كما لو أنها لشخص حيّ يخاطبك على أوراق الكتاب. والفيلسوف الذي كانه معن زيادة قد أدرك هذا الأمر أكثر من سواه" فعلى الرغم من أن حياته كانت سلسلة من النشاط الهادف والدائم، وعلى الرغم من أنه كرّس للآخرين وقتاً أكثر ممّا كرّسه لنفسه، حرص في نهاية حياته على البقاء على قيد الحياة بالكتابة. فالفصول الأربعة لحياته، مثلها مثل سمفونية الموسيقي الإيطالي فيفالدي، تنساب الى وعينا وتثير الحماسة فيه للقضايا إياها التي كرّس لها معن زيادة معظم حياته. وكما هو الحال عند فيفالدي فإن سمفونية معن زيادة الأدبية سلسة الأنغام والتعابير، تجعلنا نسافر من فصل الى فصل ومن بلد الى آخر. فمن طرابلس الى القاهرة، ومن بيروت الى مونتريال، نعبر مع الكاتب تجربة غنيّة على جميع المستويات. وهذا ما يعطي لسيرة الحياة هذه غناها وحيويتها. فلو قارنا بين سيرة حياة الفرنسي ميشال دو مونتين، الفيلسوف هو أيضاً، وبين سيرة معن زيادة، نلاحظ أن سيرة الإثنين غنيّة بالخواطر والاستطرادات الفكرية والتحاليل المعرفية. إلاّ أن سيرة الأول، على الرغم من عمقها، تبقى بعيدة عن خيال القارىء. فمونتين يخاطب وجدان القارىء فقط، عارضاً عليه ما عايشه في حياته اليومية، ان في محكمة أو في برلمان مدينة بوردو الذي كان عضواً فيه. إلا أننا نشعر مع مونتين أن الكاتب بعيد عنّا وبارد، على الرغم من إنسانيّته العميقة، وهذا لا يعود الى إخفاقه في جعلنا ندخل الى عالمه، بل الى أن عالمه ساكن، لا حركة تُذكر فيه. فالحياة اليومية لصاحب السيرة هنا روتينية، إذ أنها تكرّر المشهد الواحد، كالبوليرو عند رافيل، مع تلاوين مختلفة في كل مرّة. بحيث أن القارىء يكتشف معه قراءات متعددة لمشاهد واحدة في جوهرها. أما في سيرة حياة معن زيادة فإن الأمر مختلف، إذ أن بناء السيرة ككل قد جاء مختلفاً، فنحن أمام "فصول" مختلفة بكل معنى الكلمة، ذلك أن كل فصل يتميّز بمناخه الخاص. من هنا فإن بنية سيرة هذا الكتاب تُدخل على خط القراءة عنصر خاص وبالغ الفاعلية، هو الخيال. مع "الفصول الأربعة" لسنا بحاجة الى محفّزات ايقاعية إضافية، لجعل المشهد الموسيقي اللاحق ينطق أكثر من المشهد الموسيقي السابق. ولا حتى نحن بحاجة الى إثارة الوتر الإيديولوجي العروبي مثلاً للتعلق بالكتاب. يكفينا فقط الانتقال من مناخ الى آخر، ومن بلد الى آخر للاستمتاع بسيرة حياة الكاتب التي وُضِعَتْ على منصْة الخيال، بنيوياً، من خلال هذا التركيب المبتكر والمشوِّق. وما يزيد من حيويّة كتاب المذكرات هذا أنه ينتهي مبتوراً، وكأنه يترك لخيالنا المجال أمام متابعة مشاهده. فهذه النافذة المفتوحة على استكمال صفحات لم يتمكن صاحبها من إتمامها، هي دعوة اضافية لخيالنا. بحيث أننا نتابع، بالتصوّر، نهاية مشهد معركة انتخابات ممثليّة الأساتذة في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، كما المشاهد اللاحقة. فالتعامل مع خيال القارىء على أكثر من مستوى ودون البوح بذلك، بل دون إدراك مآله العملاني في الفصل الأخير يجعل من القارىء إنساناً معنياً بمضامين الكتاب. وهذا ما يدعونا الى التذكير بأن الأمور البنيويّة، في الكتابة، كما بيّنه تشومسكي وعدد كبير من الألسنيين من بعده، أمور أساسية، لا ثانوية. وانها لغة داخلية بحدّ ذاتها تخاطب عقل القارىء بشكل صامت، بتركيب وترتيب المشاهد التي يقوم العقل بإيصالها تلقائياً حيث ينبغي أن تصل، حتى لو لم يقم الكاتب بإيصالها هو بنفسه الى هذا المرفأ المنشود. في "الفصول الأربعة" استثمار كبير للخيال، الأمر الذي يجعل القارىء مشدوداً الى أحداث لاحقة، مشاركاً الكاتب في نسجها عند غيابها. وذلك كله يجعلنا نشاطر حماسة الكاتب فصلاً بفصل وحدثاً بحدث، ونرافقه في مشوار حياته وكأننا من المقربين منه. فما يضاعف القوّة البنيوية لسيرة الحياة هذه هو لهجة كاتبها، الهجومية، التي تدبّ الحيويّة في ذهن القارىء وتجعله يواجه الأحداث التي يأتي على ذكرها الكاتب بحماسة مشابهة لحماسته. وهذا كلّه يفضي بنا الى شعور حيويّة يتآلف مع الخيال، فينشأ عن الإثنين مزيجاً متفجراً بالحياة وبالمواقف الرائدة والجريئة وبالمبادرات الشجاعة. ... تماماً كما كانته حياة معن زيادة قبل أن تنطفىء شمعته، ليعود إشعاعها علينا على متن صفحات مكتوبة ومفتوحة على الحياة. * صدر الكتاب عن منشورات رياض الريّس بيروت، لندن 1999.