الكتاب: محطة النهايات المؤلف: عارف علوان دار الجمل ألمانيا رواية الكاتب العراقي عارف علوان "محطة النهايات"، وهي الأولى له بعد مجموعتين قصصيتين ومسرحيات عدّة، تستوقف القارىء لمتانة تقنيتها ولو بدت سهلة للوهلة الأولى. فهي اذن على عكس ذلك، تحمل في ثناياها نسيجاً متماسك الخيوط لحبكة عميقة الرؤية والتوجه. منذ الصفحات الأولى تنطلق الرواية، وحتى صفحتها الأخيرة، من مادة الموسيقى التي تَدخل في بناء السرد وتتواصل عبر خيوطه المتشابكة والكثيرة حتى النهاية. وها نحن نتوقف أكثر من مرّة مع الكاتب لنستمع حيناً الى لحن طالع من محطة الاذاعة وحيناً آخر نتوقف مع ذبذبات وأصوات مشوشة للمذيعين. الا ان هذا التشويش لا يذكره الكاتب الا لكي يدلّ على نوع من أنواع الأصوات النوطات إذا جاز القول التي يمكن ان تُضاف الى كل ما سنسمعه من ألحان خلال صفحات الرواية. ونلاحظ ان الكاتب يبدأ بعرض انغامه الحاضرة والماضية، انغام ذاكرته البعيدة، عندما يعود الى أيام الطفولة في بغداد حيث موسيقى يضعنا الكاتب أيضاً في جوّ موسيقي آخر، جوّ يذكر اسماء اصدقائه فيقول "سين سيلفيا، سين ساندرو، سين سيبيلا، سين سارة، سين سلوى"، أوليست هذه اشارة اخرى من الاشارات الموسيقية التي كثرت في هذا الكتاب؟! فترداد حرف السين هنا يكفي ليجعل من الكلام نغماً على ايقاع واحد يؤدي بالكاتب والقارىء الى عالم النوطات. ونبقى مع هذا التخطيط الذي رسم الخارطة الرئيسية للرواية لنتجوّل في شوارع مدينة روما أو لندخل بيت عصام الرسام حيث تدور مونولوغات الأخير ونعمان، كلٌّ على الأغنية الطالعة من الراديو في الغرفة، اغنية مصرية رافقت الألوان على لوحة عصام، كما رافقت النوم البطيء الذي ولجه نعمان. أما المونولوغات فتأتي الينا بين المقطع الموسيقي والآخر وكأنها الايقاع المرافق، أو الايقاع الأساس، اللازمة التي نسمعها بالتناوب حتى يختلط الأمر على القارىء ولا يبقى يميّز بين لحن الأغنية و"لحن" الحوار الداخلي لكل من الشخصيتين، ثم نعول مع نغم آخر، اذ الكتاب كما قلنا اشارات متتالية ومتواصلة من الموسيقى التي تتخلل السرد العام، وهذا النغم الآخر هو أغنية المانية هذه المرّة لمرلين ديتريش الشهيرة وقد سمعها عند جارته العجوز "كلارا" بين أكوام الخردة المبعثرة في احدى غرف بيتها. ان هذه الخردة المتروكة في فوضاها، المتراكمة كيفما اتفق، ليست سوى الصورة الملموسة لصورة مجردة، الا وهي صورة تلك الأنغام الكثيرة والمتفاوتة المصادر والأشكال التي وردت في الرواية. أما الذروة فيتركها الكاتب للفصل السادس وقد أخذ الهذيان يضرب شكل الكتابة، اللغة، وكان لعارف علوان أن ينتقل الى هذا الفصل الأخير من الكتاب بأسلوب مكثف وصاخب، إذ يبدأ هذا الفصل مع أصوات الأجراس القادمة من نواحي روما الأربع، من الكنائس كلها ونعمان يصدّر اسماءها تدريجياً، وبين رنة وأخرى نسمعه في مونولوغه الهاذي، في فتات الأفكار، في شرذمة جُمله، الجمل غير المنطقية أي غير المترابطة، غير الواضحة في ترتيبها، غير المتسلسلة. انه يكلّم نفسه كما تتكلم النواقيس مع بعض، أي عبر دقاتها المتداعية فتتداعى أفكاره وتنهال عليه كانهيار أصوات الكنائس، تنهال بغزارة اللاوعي، بتدفق الذكريات الدفينة، فتتوالى الأزمنة الماضية والحاضرة في فوضى كبيرة. وعدا أصواب الأجراس يبدو الفصل السادس مملوءاً، بل عابقاً بالأنغام، فنسمع أنغام الفصول الأربعة لفيفالدي تعزفها سائحة كندية وكأن هذه المعزوفة الأخيرة في نهاية الرواية تختصر أحداثاً وأزمنة مرّت خلال الكتاب أو تختصر حياة بأكملها، ولِمَ لا نقول حياة نعمان بأحزانها وخيباتها وتيهها عبر مدن العالم؟ وهي تلخّص أزمنة الحياة المطلقة، أزمنة الآلهة بدءاً من الوثنية وانتهاءً بالأحدية. أولسنا نرى نعمان في هذا الفصل السادس جالساً، شارداً في أعماقه، أمام مبنى البانتيون، والأخير أفضل صورة تعبيرية عن تاريخ الانسان، طاحونة الوقت. البانتيون والفصول الأربعة التي أتت بها الشابة الكندية تتلازم معنىً وشكلاً، تتناسب وأفكار نعمان المشوشة، الهاذية. أليس تاريخ الآلهة والانسان منذ العصور الأولى حتى اليوم وقتاً مشوشاً وهاذياً؟ الا يعبّر فيفالدي من خلال معزوفته هذه عن جنون الوقت وجنون الانسان منه؟ لغة الفصل السادس تتمحور حول تداعيات احلام وخواطر، انها تصف حياة الانسان الحديث في فوضاه وعدم استقراره، انها اللغة المكمِّلة للغة الفصول الخمسة السابقة، فنهاية كهذه كانت مفترضة أصلاً، نهاية كهذه لحياة بوهيمية يعيشها جميع شخصيات الرواية. لغة الفصل السادس هي لغة الترابط الذي حصل بين أجراس الكنائس و"الفصول الأربعة" لفيفالدي ورقصات البهلوان وخواطر نعمان المتداعية كيفما اتفق. انها اللغة التي نضجت بعد كتابة الفصول السابقة، اللغة التي تهيأت لها كتابة الفصول الخمسة الأولى. ففي تلك الفصول كانت اللغة تختمر شيئاً فشيئاً، على مهل وبهدوء، كانت الكتابة ترافق نمو الموسيقى فتتفاقم شيئاً فشيئاً بين مقاطع الأغنيات وأصوات الراديو المختلفة، حتى بلغت أوجهاً في الفصل الأخير، موسيقى ولغة. أولم تكن أيضاً نهاية الكتاب مكمِّلة لبدايتهحيث أبواق السيارات أنبأت بصخب لغة النهاية؟!