لم ينجح جلال في الانتخابات الطالبية. هكذا أخبرتني منال لأني لم أذهب اليوم الى الجامعة. تضايقت كثيراً، شعرت أنني سبب خسارته، فلو أعطيته صوتي لنجح. تذكرت أول مرة تحدثنا معاً عندما قال لي "سأكون أول شخص تنتخبينه في حياتك"، لا أعرف لماذا أفهم لهذه الجملة اليوم معنى مختلفاً، بل لماذا أشعر بالضيق وأتهم نفسي بتسببي في خسارته. كيف سأقابله غداً، وماذا سأقول له؟ ألح عليّ السؤال كثيراً، الى درجة أنني رحت أتذكر كل المواقف التي جمعتنا، وأحاول أن أجمع كل مبرراتي التي قد احتاج اليها عندما أقابله. عندما تعرفت اليه، كان بين مجموعة من الزملاء، يحكي عن الانتخابات التي ستحصل في الجامعة. - انتخابات؟ سألت مستغربة. - نعم انتخابات، وأنا مرشح. - وماذا تفعل إذا نجحت؟ - أدخل مجلس فرع الطلاب وأحاول تأمين مطالبكم. - يعني انتخابات حقيقية؟ كالتي شاهدناها مرة على التلفزيون؟ - طبعاً حقيقية، ألم تنتخبي قبلاً؟ - لا، ولا مرة. - سأكون إذاً أول شخص تنتخبينه في حياتك. صرنا نلتقي كثيراً ونتحدث. كان يحكي عن الانتخابات ومشكلات الجامعة اللبنانية ويحاول جمع أكبر عدد من الأصوات. قال أحد الطلاب: - المعركة هنا بين حزبين. - أحزاب؟ في الجامعة أحزاب؟ سألت. - طبعاً. - كنت أظن أن مجلس فرع الطلاب هو للطلاب، لا دخل له في السياسة. - السياسة تتدخل في كل شيء. - أنا لن أنتخب إلا المستقلين. - ماذا؟ ألن تنتخبي جلال؟ - إذا كان جلال ينتمي الى حزب فلن أنتخبه بالتأكيد. خلال الاستراحة انضم جلال الينا، سألني: - هل صحيح أن السياسة لا تعنيك؟ ألا يعنيك إلا الدراسة، أليس كذلك؟ لم أرد بسبب لهجته الساخرة، فأكمل بجدية: - ألا تعلمين أن عدم اهتمام الشباب بالسياسة هو الذي أوصلنا الى ما نحن عليه؟ - ما أعرفه أن السياسة والأحزاب هي التي دمرت البلد كله. - لا ليس الأحزاب، بل أحزاب. تحدث كثيراً عن السياسة والأحزاب والسلطة وعندما انتهى سألته: - لماذا لا تدخل كلية العلوم السياسية؟ رد بلهجة بدت لئيمة: أن أدرس العلوم السياسية شيء، وأن أفهم ظروفي وحياتي ويكون لي رأيي شيء آخر. كثرت أحاديثي مع جلال. كان مثقفاً، يتكلم في كل الأمور، ولا يترك موضوعاً من دون أن يعلق عليه ويلح عليّ طالباً رأيي: - "لا تقولي لا أعرف، هذه الكلمة الوحيدة التي أكرهها، خصوصاً عندما تصدر عنك". تغيرت طبيعة علاقتي به، كان يتقرب مني في شكل ملحوظ. وكنت دائماً أشك في صحة ما يحصل، كما في ذلك اليوم. عندما كنا جالستين أنا وصديقتي منال على مقعد بلله مطر امتزجت رائحته بالتراب وانتشرت في الجو، فاقترب جلال منا وهو يحمل وردتين أعطى كلاً منا وردة بيضاء ثم قال: - كنت أحب أن يكون للوردة لون آخر، لكنني خفت. وردة من لون آخر؟ واضح جداً ما يعنيه، ولكن هل كان يقصدني أنا أم صديقتي؟ ربما لم يقصد شيئاً، ولم يقل هذا إلا ليضمن صوتنا في الانتخابات؟ سأكره نفسي لو كانت هذه هي الحقيقة. بقي كلامه خفياً ومبطناً، الى أن وجدني ذات يوم جالسة وحدي، اقترب مني سائلاً: - بماذا تفكرين؟ - لا شيء. - ظننتك تفكرين بي. - بك... كم أنت متواضع؟ - متواضع؟ أبداً، أنت لا تعلمين أن أحد أحلامي هو أن تفكري بي. توطدت علاقتنا، صار يعني لي الكثير، ولا أتخيل الجامعة من دونه، دائماً أبحث عنه، أراقبه، لا أدعه يغيب عن ناظري، وهو، المشغول بالانتخابات، كان يقتنص الفرص ليأتي ويكلمني، وعندما أكون في القاعة، يقف أمام قاعة المحاضرات ليخبرني أنه يفكر بي. وذات يوم، قررت أنا ومنال القيام بشيء مسل فكتبنا بياناً انتخابياً لمرشح وهمي، اخترنا له اسماً مركباً يجمع كل الطوائف اللبنانية، وكتبنا: أنا المرشح "مارون بن عمر قاسم آل جعفريان" أطالب: - جعل "زمر عوط" التحية الرسمية في الجامعة كما البرنامج التلفزيوني الساخر عوضاً عن "بونجور" و"صباح الخير" و"هاي" و"السلام عليكم" و.... - جمع المياه المتدفقة علينا في القاعات وارسالها الى من يحتاج اليها. - اضافة مادة "الكافيتيريولوجي" الى المنهاج. - اصدار قرار يقضي بانسحاب الأستاذ من القاعة إذا لم يعجب الطلاب. - وأخيراً إلغاء الانتخابات إذا لم أنجح لما سيكون قد حصل فيها من تزوير. طبعنا البيان ووزعناه في الجامعة. أعجبت الفكرة طلاباً كثراً، إلا جلال الذي جاء غاضباً من بعيد وناداني، فتوجهت اليه ضاحكة: - ما رأيك، صار لك منافس. لن تفوز في الانتخابات. - يعني أنت من وزع الورقة. - بكل فخر. ارتفع صوته وقال غاضباً: - بكل فخر. تتكلمين كأنك لم تفعلي شيئاً، ألا تعرفين معنى ما فعلته؟ - ما بك تتكلم معي كأنك تحاسبني. أنا حرة أفعل ما أريده، أما إذا كنت تريد مناقشتي، فتستطيع استعمال أسلوب آخر في الكلام. سكت قليلاً قبل أن يقول: حسناً، هيا نجلس ونتكلم. ابتسمت وقلت: "دعني أفكر". عادت علامات الغضب ترتسم على وجهه فأسرعت أقول: حسناً، حسناً، هيا نجلس. - تفضل، ما الخطأ في توزيع هذا البيان؟ - الخطأ أن الطلاب باتوا يفتشون فعلاً عن مرشح سخيف كمرشحك. - أولاً فكرتي غير سخيفة، ثانياً هذا يؤكد كلامي في أن الشباب ملوا السياسة والأحزاب، ملوا كل شيء يذكرهم بالحرب. - لا، هذا يؤكد أن الشباب لا يهتمون إلا بالتفاهات. صرنا نصدق ما يكتبه الغرب عنا ونطبقه. - لا تغير الموضوع. ألا تعتقد مثلي أن الشباب يفتشون عن مرشح مستقل، لا ينتمي الى أي حزب؟ يريدون شخصاً يخدمهم لأنه طالب مثلهم لا لأنه حزبي. - ومن قال أن مصلحة الجامعة ليست من أهداف الحزب؟ - لا أحد. لكني أخبرك الواقع. الشباب لا يريدون السياسة. هذا واقع عليك التعامل معه. كنت أتكلم وكان جلال ينظر إليّ في هدوء. وقبل أن أنتهي أخذ يصفق وقال: أهنئك من كل قلبي. خطاب رائع لا يقل سخافة عن بيانك الانتخابي. لم أصدق ما سمعته أنا سخيفة؟ من يظن نفسه؟ يعتقد أنه متفوق عليّ بسبب ثقافته وانتمائه الحزبي، ثم كيف يكلمني بهذه الطريقة، ألست حبيبته؟ قالت لي منال: ألم أقل لك أنه لا يتكلم معنا إلا بسبب الانتخابات؟ لم أكن أريد أن أسمع كلاماً في الموضوع، ودعتها لأعود الى البيت، فسألتني قبل أن أخرج: - الانتخابات غداً، من ستنتخبين؟ - لا أحد، لن أذهب غداً الى الجامعة. لم ينجح جلال في الانتخابات. تضايقت كثيراً. كيف أواجهه غداً؟ كان السؤال الذي يلح عليّ، لكن رنين الهاتف قطع أفكاري. كان جلال: - لم أفز في الانتخابات. - عرفت، أنا. - لا تقولي شيئاً، أنا آسف لما حصل بيننا. - ... - هناك نقاش لم يكتمل بيننا، هل أراك غداً في الجامعة؟ بيروت - مهى زراقط