يروي الدكتور أحمد الجلبي رئيس «المؤتمر الوطني العراقي» في هذه الحلقة قصة العلاقة الصعبة مع وكالة الاستخبارات الأميركية ال «سي اي اي» التي كانت تحاول ضبط حركة المعارضة العراقية لإطاحة صدام والتي كادت أن تتعثر بسبب الاقتتال بين الفصائل الكردية. كما يكشف قصة المرأة التي استقبلها صدام حسين، بناء على طلب نجله قصي، وكلفها اغتيال الجلبي بالسمّ وهنا نص الحلقة الخامسة: هل تغير الموقف الأميركي في اتجاه إسقاط صدام؟ - في نهاية الشهر الأول من العام 1995، جاء وفد ال «سي آي أي» وأقام في مقر كردستان. في تلك الفترة كنا في المؤتمر الوطني أسسنا مجموعات من القوات وأجرينا الاتصالات بضباط عراقيين من الفيلق الخامس الموجود في الموصل والذي كانت وحداته منتشرة في منطقتي اربيل ودهوك. وكان التحق بنا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1994 اللواء الركن وفيق السامرائي الذي كان مدير الاستخبارات العسكرية العراقية. اجتمعت به ووضعنا الخطة التي تحدث عنها بوب بير في أيلول، حين قال للأكراد إن أميركا تريد إسقاط صدام وتريد أن تتعاون مع أحمد الجلبي. واجتمعت مع مسعود وجلال في بيت جلال في 13 أيلول (سبتمبر) عام 1994، وأخبرتهما عن هذه الخطة. وحضرت ورقة فيها جزء سياسي وإعلامي وعسكري وأرسلت نسخة منها الى السيد محمد باقر الحكيم في طهران. وهل كانت تقوم على انقلاب عسكري؟ - كلا. كانت تقوم على حركة سياسية. هل كانت هذه خطة المدن الثلاث؟ - تقريباَ، لكن مطوّرة، على أساس أن يصير تحرك في الجنوب أيضا. أرسلت الخطة الى السيد الحكيم، وأرسل الدكتور عادل عبدالمهدي نائب رئيس الجمهورية الحالي مندوباً عنه وبحثنا الخطة معه في كردستان في شهر أيلول أيضاً. ولما جاء وفيق السامرائي طوّرنا الحديث عن الخطة. هو كان يعرف الضباط من الاستخبارات العسكرية. أرسلوا الرسائل وأجروا اتصالات مع مجموعات كانت في منطقة سامراء. هل كان هناك دعم من ال «سي آي أي»؟ - أبداً. حصلت حادثة في 12 شباط (فبراير) 1995. إذ هاجمت مجموعة من «فيلق بدر» فوجاً عراقياً في منطقة العمارة. أسروا 320 شخصاً ثم تركوهم. أحدثت هذه العملية ضجة كبيرة. جاء بوب بير، فسألته عن الموقف الأميركي من العملية. فسألني: «هل سمعت أن أميركا ادانت العملية؟»، قلت: لا. فقال: «هذا يعني أننا موافقون». كنت أريد فرصة لنا للقيام بشيء. إذ أنه كانت مضت ثلاث سنوات على تأسيس المؤتمر، ومنذ ذلك الوقت كان عملنا مقتصراً على الكلام والدعاية والاعلام، ولم نكن قمنا بعد بأي حركة حقيقية ضد صدام. أردت أن أقوم بشيء لأن الناس صارت تتململ والأحزاب السياسية لم تر أي نتيجة. وكلما أعلن بير أن أميركا تريد هذا، لم اكن أناقشه. مع علمي أن الكثير من كلامه مبالغ فيه، وان ليس عنده القدرة على الوفاء بما يقول. لكنني لم أكن أناقشه. ماذا كان منصبه؟ - كان ممثل ال «سي آي أي» في كردستان. كان يتكلم بهذه الطريقة، ورئيسه كان قال لي أن اعتمد عليه. فكان يتردد علي كثيرا، الى أن حضّرنا أنفسنا. الأكراد كانوا يقاتلون. طلبت من بير أن يذهب معي للقاء جلال ومسعود لنقول لهما إن أميركا تؤيد هذه الحركة. وبالفعل ذهبنا. لم يقبل جلال المجيء الى اربيل. وكان القتال دائراً، ولم يرد أن يبدو أنه جاء ليسجل موقفا. فذهبنا نحن إليه، وكان ذلك خلال شهر رمضان وجلال كان صائما. قال بوب بير إن «أميركا تريد أن تقوم بعملية وقواتكم يجب أن تشارك وهذا احمد الجلبي المسؤول عن الموضوع». اتسم الموقف بالشدة. قلت له: «جلال افطر واطلب منهم أن يعدوا لنا الغداء». أجابني جلال: «وأنت تتحمل الذنب؟». قلت له: «اتحمل الذنب»، فقال: «أحضروا الغداء». تناولنا الغداء ووقعنا على الاتفاق. وقع جلال عن الاتحاد الوطني وأنا عن المؤتمر الوطني، وتقرر بموجبه أن توضع القوات كافة تحت تصرف المؤتمر في العمليات العسكرية لإسقاط صدام. بوب بير قال: «أنا اشهد على الاتفاق، لكنني لن أوقعه». قلت: «لا أريد منك أن توقع. هذا ليس شأنكم، هذه مهمتنا، وانتم عليكم أن تساعدونا». طبعاً لم تكن هناك مساعدات، وكنت اعرف أن لا شيء بيده، ولو كانت أميركا تريد أن تقوم بشيء جدي، لكانت تصرفت بطريقة مختلفة عن هذه الطريقة. بعدها ذهبنا إلى مسعود، وكان يوجه الأسئلة لبير، وبدا أنه منزعج منا، لأنه عندما كانت تصير مناوشات، كان بير يشتم الطرفين ويصدر اليهما الأوامر. انزعج منه مسعود. كان يسأل أسئلة محددة، وبير يرد عليه بقسوة، فيجيبه مسعود بحدة، لكنه قال: أنا التزم. قلت لمسعود: إننا سنضع اتفاقا. فجاء المرحوم سامي عبدالرحمن، واحضر مسودة بخط يده بصيغة مشابهة لتلك التي وقعناها مع جلال. وعليها توقيع مسعود؟ - لم يكن مسعود وقع عليها بعد. هذا كان في نهاية شباط 1995. اتصلت بالسيد محمد باقر الحكيم في طهران، وقلت أريد أن ترسل لي مندوبين رفيعي المستوى من عندك. فسألني عن الذي يحصل. وأجبته بأنني لن أتحدث عبر الهاتف، فالقضية خطيرة. جاء مندوبان من عنده، أذكر انهما كانا الشيخ همام حمودي والشيخ أبو علي المولى، واجتمعا ببوب بير وبالوفد الذي كان معه. دام أول اجتماع سبع ساعات. همام بقي، وقال: «اقتنعنا ونحن سنتحرك». اصدروا توصية الى السيد الحكيم بأنهم سيتحركون عندما نتحرك نحن. الإيرانيون صاروا يتراسلون في ما بينهم بأن هناك خطة يتم تنفيذها، أسموها خطة بوب. هذا ما عرفناه لاحقا. الإيرانيون كانوا يتبادلون الرسائل في ما بينهم من دون تشفير. عرف الأميركيون بالاتصالات، وقال لنا انتوني ليك مستشار الأمن القومي: «انتم تخططون للقيام بعملية ضد صدام؟ لماذا لم تخبرونا لنحضر أنفسنا عسكريا؟». من هي الجهات التي كانت تجري بينها المراسلات الإيرانية؟ - بين إيران وكردستان، وداخل إيران. انتوني ليك طلب مسؤول ال «سي آي أي»، وكان اسمه رختر، ووبّخه، وقال له: «ماذا تفعلون؟» أجابه الأخير: «نحن عندنا توجيه». فرد ليك: «ليس عندكم شيء. أوقفوا الموضوع». كنا نريد أن نبدأ العمليات مساء 4 آذار (مارس). قبل يوم من هذا التاريخ أخذت وفيق وذهبنا إلى كوسرت في اربيل، وأعلنا عبر التلفزيون أننا مستعدون للانقضاض على صدام. كان صدام يسمع هذه الأمور فتخيفه وتخيف جماعته، لكنه لم يكن قادراً على القيام بشيء. نحن كنا نعلن هذا في التلفزيون والراديو وكانت هناك حركة للسيارات والجيش وفي اربيل. جمعنا 16 ألف مقاتل، والأحزاب العراقية الأخرى. صدام كان عنده الكثير من الأخبار التي تأتيه عبر جواسيسه الكثر، لكنه لم يقدر أن يفعل شيئاً. في التاسعة صباحاً وقبل أن نبدأ التحرك، جاء بوب بير ومعه شخص الى بيتي وكان وفيق حاضرا. دخل بير فسألته: «هل جاءتك الرسالة؟». قال: «أي رسالة، وكيف عرفت؟». قلت له: «أتوقع أن تأتيك رسالة». فأجاب: «وصلت الرسالة». بوقف كل شيء؟ - لم تقل وقف. الرسالة كانت من مستشار الأمن القومي الأميركي الى احمد الجلبي ومسعود بارزاني وجلال طالباني. وفيها أولاً: أن «العمل الذي تنوون القيام به خلال نهاية الأسبوع اصبح مكشوفاً وهناك خطر الفشل. ثانياً: إذا قررتم القيام به فأنتم تقومون به على مسؤوليتكم كعراقيين». فقلت لبير: «شكراً، هيا اذهب الله معك». قال: «إلى أين أذهب؟». قلت له: «أنت لا دخل لك». قال: «نريد أن نعرف». قلت له: «هذا الأمر نحن مسؤولون عنه كعراقيين». قال لي وفيق: «كيف تحدثه هكذا». فرددت على بير: «ارحل، وسأبلغك بما سيحصل». خرج بير، واتصلت بجلال وقال لي: «هل جاءتك الرسالة من الأميركيين؟». قلت له: أجل. فسألني: وماذا سنفعل؟. أجبته: نحن عراقيون، وهم قالوا إن الأمر على مسؤوليتنا. وفعلاً صار الاميركيون يبثون إشاعات عنّا. ال «سي آي أي» وزعت اخباراً في الصحافة الأميركية ان احمد الجلبي قام بمحاولة انقلاب فاشلة. وحركوا ضدنا جماعات أخرى ممن يعملون معهم. كان عندهم العميد عدنان محمد نوري ممثل حركة الوفاق في كردستان. صار يتحرك ضدنا، وكانوا يكلفونه بقضايا ويشترون الرشاشات من الجنود. وماذا فعلتم أنتم؟ - نحن هجمنا على الفرقة 38، أخذنا مقر كل فوج من كل لواء من الفرقة. وأين كانت هذه الفرقة؟ - بين الموصل واربيل. الأفواج من اللواء 848 واللواء 847 واللواء 130. كل الأفواج أخذناها وأخذنا مقر اللواء 847. سأروي حادثة حصلت، في منطقة بير داود كان يحصل إطلاق نار لمدة ربع ساعة، وبعدها يستسلمون. صار عندنا 780 شخصاً، ولجأ الينا قسم من أمراء الأفواج، كما قتل أحد أمراء الألوية. أتينا بمدافع ميدان عيار 122 ميلليمتراً و800 قذيفة. وأتينا ب4 آلاف رشاش بندقية و130 رشاشاً ثقيلاً ومتوسطاً وأكثر من 150 مدفع هاون. الفرقة راحت كلها، الى أن بدأ القتال من جديد بين الأكراد، فتوقفت العملية. استمرينا 12 يوماً وهذا سبّب قلقاً حقيقياً لديهم. الأميركيون صاروا يبثون الإشاعات، وأبلغوا صدام بأن هناك مؤامرة لاغتياله. الأميركيون هم الذين ابلغوه؟ - نعم. بواسطة من؟ - بواسطة دولة عربية. قالوا هناك محاولة لاغتيالك. سحبوا بوب بير بعد أداء العملية وصاروا يحققون معه، ويسألونه: هل أعددت مؤامرة لاغتيال صدام؟ ال «اف بي آي» حققت معه بواسطة جهاز كشف الكذب. وعندما شعر صدام بأن لا دخل للأميركيين بهذه العملية ارتاح. وقع الاشتباك بين الأكراد وتوقف القتال بيننا وبين صدام. حصل هذا في نهاية الشهر الثالث من عام 1995. في هذه الأثناء كانت العلاقات توترت بيننا وبين ال «سي آي أي» والإدارة الاميركية. وبقيت أنا في كردستان أعالج تبعات هذا الأمر. كان هناك 780 شخصاً من الضباط العراقيين الذين كنا نؤمّن معيشتهم، كانت مسؤولية كبيرة. قسم كبير منهم لم يعودوا واتصلنا بالصليب الأحمر. في النتيجة صار هناك تبادل وحصل لهم الصليب الأحمر على ضمانات وأعادوهم الى العراق. دعانا الأميركيون الى اجتماع. في 21 أيار (مايو) ذهبت الى لندن. وجاء وفد من واشنطن، كان ضمنه شخص اسمه مارك باريس وبروس ريدل وشخص من الخارجية وضابط من ال «سي آي أي» ومسؤول في مجلس الأمن القومي. قالوا: نريد أن نتفاوض على تحركنا في المستقبل. قام انتوني ليك بإبلاغ كلينتون بأنني أريد أن أجرّ أميركا قسراً الى حرب. فقلت له: أنا تصرفت بحسب ما أراه في مصلحة العراق بإسقاط صدام، واستعملت القوة الموجودة وأنتم على علم بذلك. شرحت لهم بعض القضايا. كان ضابط ال «سي آي أي» خائفاً أن ينكشف أمرهم. قال باريس الذي كان رئيس الوفد: نحن كنا قررنا أن نقطع العلاقة معك، لكن الآن يجب أن تستمر العلاقة. قلت له: انتم خذلتمونا في كردستان، وأنا الآن سأبقى هنا ولن أعود الى كردستان. قالوا: عليك أن ترجع. قلت: لا أنا سأبقى هنا. رجعوا الى أميركا وظلوا يتصلون بي. واشتدت المشاكل في كردستان بين الأطراف الكردية وأنا في لندن. ثم عينوا شخصاً اسمه بوب دودج الذي صار مدير مكتب شمال الخليج في وزارة الخارجية الأميركية. وأول مهمة له كانت التوصل الى اتفاق سلام بين الأكراد. اتصلوا بي وقالوا لي إن دودج سيذهب الى كردستان ويجب أن أكون حاضرا لأنني أعرف كيف تجري المفاوضات. قلت لهم لن اذهب، فقالوا: يجب أن يراك. قلت لهم: فليأت الى لندن، وسأراه. وبالفعل ذهب الى كردستان وبقي ثلاثة أيام ولم يفهم شيئا فرجع على أساس أن يبقى أسبوعين. جاء إلى لندن، واجتمعت به في المطار في لندن، ثم خرجنا وتناولنا الغداء. قال: «نريد أن نعقد اجتماعاً بين الأطراف الكردية، أين تقترح؟»، قلت له: «في أميركا». قال: لا، في أوروبا. لكن كل الدول الأوروبية فيها أكراد وكان هناك تخوف أن تحصل تظاهرات. قلت له: «في البرتغال لا يوجد أكراد». قال: «والله فكرة جيدة». غادر ثم ارسل برقية جاء فيها ان البرتغال لم توافق، وأن الاجتماع سيكون في ايرلندا. فقلت له إن وفداً من المؤتمر الوطني سيشارك. هذا الكلام كان في شهر آب (أغسطس) 1995. شكلنا وفدا من المؤتمر ضم المرحوم هاني الفكيكي وتوفيق الياسري وأنا. ذهبنا الى بلدة صغيرة اسمها دروغيدا في ايرلندا. في هذه الفترة ظهر ضابط كبير في الاستخبارات التركية اسمه محمد ايمور. كان رجلاً محترماً، لاحقاً حصلت له مشكلة سياسية في تركيا وسافر الى أميركا، واعتقد أنه رجع الآن. هذا كان الشخص الثاني في الاستخبارات التركية. جاء الى كردستان، واطلع على وضعنا، وقال: يجب أن نتعاون ودعاني. كنت دائما اذهب الى كردستان عن طريق إيران، ولما صارت العلاقة مع هذا الشخص صرنا نذهب عن طريق تركيا ويستقبلوننا ويسهلون أمورنا. وكان له الفضل لاحقاً عندما أنقذ جماعتنا سنة 1996 من سجن صدام. اتصلت به ليشارك في الاجتماع. لكنه قال إنه لا يشارك اذا لم يتلق دعوة. قلت له: أنا أدعوك. ولما وصل فوجئ الحاضرون من وزارة الخارجية التركية، ومنعه الأميركيون من الدخول الى الاجتماع. غضب وقال: كيف تأتي بي الى هنا؟ ذهبت الى مسؤول ال «سي آي أي» وقلت له: اخبرهم في مجلس الامن القومي أن يرفعوا الاعتراض عن الضابط التركي وإلا فالاجتماع سينهار، وسيتأثر وضعنا هناك وعلاقتكم انتم بتركيا. فقال: «هذا يخيف الأكراد». قلت: «هذا هو المسؤول عن المنطقة فعليا، وهو الذي يدير الوضع مع التركمان ووضع تركيا معنا. ما الذي تريده أنت». قال: «يجب أن ننتظر حتى يستيقظوا من النوم». فقلت: «هذا لا يهمني». اتصل بهم الساعة 10 صباحاً، وأخذ الموافقة وحضر الضابط التركي اجتماع العصر وساعدنا. ووقعنا وثيقة بالإنكليزية بين الطرفين الكرديين. كان هناك هوشيار زيباري وفؤاد معصوم وسامي عبدالرحمن ووقّعها بوب دويتش عن الخارجية الأميركية، ومندوب الخارجية التركية ووقعتها أنا عن المؤتمر الوطني. هذه الوثيقة حملت تواقيع خمسة أطراف. وفي اليوم الذي وقعناها فيه هرب حسين كامل الى الأردن في 8 آب 1995. هروب حسين كامل كان بالتنسيق مع من؟ - أبداً. حصل خلاف بين حسين كامل وعدي على الأموال وتهريب السيكار. كيف حصل خروج حسين كامل؟ - حسين كامل تعارك مع عدي. ومن يتعارك مع عدي يخاف منه، فأخذ عائلته وهرب الى الأردن. حسين كامل اعتقد أن بمقدوره أن يلجأ الى الأميركيين ويقود الوضع، لكن لم يكن هناك تنسيق. أنا الذي أبلغت مسؤول العراق في ال «سي آي أي» عن ذلك. وخلال وجودهم في الاجتماع دخلت عليهم وقلت لهم: يا إخوان حسين كامل هرب الى الأردن. وقف مسؤول العراق في مكانه، ثم خرج واتصل بعمان، عاد بعدها ليقول: صحيح، وعلي أن أغادر في الحال. قلت له: الله معك اذهب. لتنفيذ الاتفاق بين الاكراد كان يجب أن يحصل اجتماع ثان، قرروا أن يعقدوه في ايرلندا أيضاً، لكن هذه المرة في دبلن في الشهر التاسع. وصار شيء دراماتيكي. اخي حسن كان عنده بيت في لندن، وبيت أختي رحمها الله (جدة السيد مجيد الخوئي) وأنا كنت معهم وكان يوم سبت. رن الهاتف في السيارة. وكان المتصل فؤاد أيوب سفير الأردن. في منزل أيوب، التقيت الملك حسين وكان يعتقد ان اسقاط صدام بانقلاب امر متعذر (...). بعد الاجتماع بيوم واحد، ذهبنا الى ايرلندا. هناك كان الاجتماع فشل بعد خلاف الأتراك مع الاتحاد الوطني. أخذ ممثل الاتحاد شروان مصطفى موقفا شديدا من الأتراك، والأتراك اخذوا موقفا على خلفية حزب العمال. اتصلت بالأستاذ جلال الذي كان في سورية، وكان موقفه متشددا في ذلك الحين. وفشل الاجتماع. رجعنا الى لندن واتصل الأميركيون، وقالوا: عليك أن تذهب الى كردستان، ثمة مشاكل وبوب دويتش ذاهب الى هناك. أبلغتهم أنني سألاقيه في كردستان. وبالفعل ذهبنا، وحصلت اجتماعات مع دويتش مدير دائرة شمال الخليج في وزارة الخارجية الأميركية (العراق وإيران) في الشهر العاشر. وكان في اليوم الأول من الشهر العاشر وقع انفجار دبرته المخابرات العراقية على مقر الأمن للمؤتمر الوطني العراقي، قتل فيه 28 شخصاً. كان من المفترض أن أعود الى كردستان في ذلك اليوم (قبل وقوع الانفجار)، لكنني تأخرت. هل كنت أنت المستهدف في هذا التفجير؟ - اعتقد ذلك. حصل الانفجار، وقتل عندنا ضابط شرطة كردي مهم في بغداد اسمه سيف سندي. هو كان في بغداد والتحق بنا وصار مدير أمن، وكانت لديه معرفة واسعة بوضع بغداد. هو كان كشف مرة محاولة لاغتيالي بالسم في الشهر التاسع من عام 1994. في أحد الأيام أحضر امرأة وقال لي إنه سيجندها للعمل معنا، فوافقت. كانت شقيقة زوجة ضابط استخبارات في كركوك، وقال إنها ستأتينا بمعلومات. وصار يبلغني أخباراً عن نشاطها. ثم أحس زوج اختها بشيء، فسألها: هل تعرفين المؤتمر العراقي؟ فقالت: نعم. فطلب منها أن تأتي إلينا وتجلب له أخبارنا، ووعدها بأن يتحسن وضعها. جاءت الى سيف، وصار يعطيها بعض المعلومات التي أعجبتها، فأرسلها الى مدير المخابرات في تكريت الذي طلب منها معلومات اخرى. قلت لهم: أعطوها ما تريد. فبدأ وضعها بالتحسن، الى أن وصلت الى شخص اسمه الحاج عبد علي المجيد شقيق علي حسن المجيد وابن عم صدام. كان معاون مدير المخابرات في بغداد. ذهبت إليه، فكلفها بقضية، وطلب منها أن تعمل الى جانبي، وقال لها: «جيبي لنا شريط عن مؤتمر صلاح الدين». أعطيناها الشريط، وأوصلته إليه، فدب فيهم القلق. وفي النتيجة عرفوا أنها قريبة مني. وطبعا أنا لم أكن أعرفها. أرسلوها الى قصي. وذات يوم جاء سيف، وقال لي: جاءت هذه المرأة ومعها هدية لك، وأريدك أن تراها. وافقت. جلست معها في المكتب في حضور سيف. سألتني إذا كنت أعرف قصتها، فقلت: اعرف. ثم روت لي ما حصل معها. قالت: قصي أخذني الى صدام. عندما سمعت بذلك جفلت، وصرت أسألها عما كان يرتديه صدام، فترد فوراً. لم تكن تتردد وتجيب عن أشياء لم أتوقعها، صارت عندي ثقة بصحة كلامها. سألتها عما قاله صدام. قالت: قال لي عندي صداع اسمه احمد الجلبي خلصيني منه، وسأجعلك تختارين الشاب الذي تريدين لأزوجك إياه وأعطيك بيتاً وسيارة مرسيدس ومليون دولار. سألتها: وبماذا أجبته؟ قالت: «قلت له انت تأمر سيادة الرئيس. فأجابني: حسناً هناك طريقتان، الأولى أن تأخذي متفجرة في حقيبة وتتركيها بقربه، والثانية أن تدسي له السم. هذا السم يقتل فيلاً، لكن مفعوله لا يظهر فوراً، بل يتطلب وقتاً». قالت له: «سيادة الرئيس، أنا لا أفهم بالقنابل، اعطني الثانية»، أضافت: «أعطوني خمس قناني». وأخرجت أمامي خمس زجاجات تشبه تلك الخاصة بالإبر القديمة. زجاجات صغيرة فيها مادة تشبه الملح الأبيض يغطي رأسها المطاط. تركت الزجاجات عندي، وقالت: أرجوك انتبهوا أن تؤذوني. قلت لها: طيب. وغادرت. أنا استغربت، ولم آخذ القضية على محمل الجد، أتيت بواحدة من هذه الزجاجات، وأعطيتها الى مسؤولي ال «سي آي أي» عندنا وطلبت منهم أن يحللوها لنعرف ماذا يوجد فيها. أخذوها ومضى أسبوعان من دون أن يردوا علي بجواب. كان عندي صديق بريطاني، زميلي من أيام المدرسة في بريطانيا ويعمل ضابطاً برتبة عالية في شرطة سكوتلنديارد. اتصلت به من التليفون المشفر، وأخبرته عن القصة، وقلت له: «سأرسل الزجاجة إليك وأنت تخبرني ماذا تحتوي». قال: «حسنا، لكن أبلغونا قبل أن تصل الزجاجة، لأن نقل السم في بريطانيا جريمة، ويجب أن يتم تحت رقابة الشرطة». أرسلت المادة مع أحد الإخوان الى بريطانيا، واستقبله الضابط بنفسه في المطار. سلّمه الزجاجة، وبعد 48 ساعة اتصل بي، وقال: «هذا أخطر سم موجود. يتراكم في الجسد وتدريجياً يقتل الإنسان. والدواء المضاد له استعماله صعب جداً. هناك أشخاص من جماعتنا ماتوا بهذا السم. وعرفت أن القصة كانت صحيحة فعلاً». سيف قُتل في الانفجار، وهو كان يدير العملية. بعد ذلك حمّلتنا ال «سي آي أي» المسؤولية. وصاروا يقولون إن التفجير صار بسبب إهمالنا، وبثوا الإشاعات. ذات يوم جاء إلى بيتي وفيق السامرائي صباحاً. دخل الى البيت ثم خرج فوراً. ودخل ولد صغير وراءه، وقال: «دكتور. اللواء وفيق يريد أن يكلمك»، قلت له: «اخبره أن يدخل». فرد: «هو يريد أن يكلمك في الخارج، اخرج أنت». فخرجت. سألني وفيق: «أليس هذا فلان (من ال «سي آي أي») عندك؟» قلت له نعم. قال: أنا اعرفه. كان يمضي أشهراً في العراق، يزودنا بمعلومات أثناء الحرب على إيران عن التجمعات الإيرانية. قلت له: كيف؟ قال كان هناك تعاون بيننا وبين ال «سي آي أي» بتشجيع من الأردن، وطبعاً كان صدام موافقاً. هذا الرجل كان في بغداد. كانت الاستخبارات الاميركية تحضر للعراقيين صوراً من الأقمار الاصطناعية. وكان وفيق السامرائي في الاستخبارات العراقية مسؤولاً عن شعبة إيران وكانوا يسمونه العميد علي. هذا الرجل من ال «سي آي أي» هو الذي جاء في تلك الفترة الى كردستان بعد سنة من الحادث. قالوا: ستنفجر المفاوضات بين الأكراد. وطلبوا مني أن أتدخل، فوافقت وقلت: اذهبوا الى جلال ومسعود. كانت العقدة عند مسعود. تحدثت معهم، وكان هوشيار موجوداً، وصار هناك تفاهم بين الأطراف عام 1995. أيضا قالوا: نحن نريد أن تؤسس قوة من المؤتمر الوطني لفك الارتباط بينهم، ونحن لا نقدر على القيام بذلك، يجب أن يبدو أن هناك نشاطاً عراقياً، سألت: كيف؟ قال: «الأكراد يجب أن يمولوا الموضوع». فأجبت: «الأكراد ليست عندهم الإمكانات، وحالهم صعبة». قال: نحن سنعطيهم الأموال. لماذا سيعطونهم النقود؟ - مساعدة، لكنهم طلبوا أن أسأل أنا الأكراد إذا تلقوا الأموال. فسألتهم: «ما القصة؟». قالوا: «نحن لا نستطيع أن نسجل عندنا أننا سنستعمل الأموال لتمويل قوة لفض الاشتباك لأسباب قانونية في أميركا». ذهبت الى الأطراف الكردية، فوافقوا. وكتبوا رسائل. جلال كتب رسالة وجهها الي، فيها انهم مستعدون للمساهمة بما قيمته نصف مليون دولار في هذه العملية. الأستاذ مسعود كتب رسالة الى الأميركيين وأعطاني نسخة منها، وفيها أنه مستعد للمساهمة بنصيبه. أرسلنا الرسائل، ولم يحصل شيء. بعدها جاء ضابط مخابرات يعمل لدى مسؤول المخابرات عندنا اراس حبيب كريم، وقال له: «هناك مؤامرة يدبرها الأميركيون بالتعاون مع محمد عبدالله الشهواني واياد علاوي وتدار من الاردن للقيام بانقلاب في العراق، وهذه العملية نحن مسيطرون عليها، لا تقتربوا منها». من كان الضابط؟ - ضابط يعمل في المخابرات العراقية، أُرسل في مهمة سرية من المخابرات الى اربيل، لكنه كان على اتصال سري مع مدير مخابراتنا اراس حبيب. عندما رأينا الملك حسين في الشهر الثالث من عام 1996، قال: «لو كنت اعرف أن صدام سيفعل هذا بحسين كامل، ما كنت تركته يرحل». بعد هذا بدأت الأمور تتفاقم في كردستان. كنت موجوداً في بريطانيا اعمل على الدعاية والإعلام والاتصالات. والإدارة الأميركية لم تكن مهتمة بالأوضاع. لم يكن قانون تحرير العراق صدر بعد؟ - صدر بعد سنتين من ذلك. دعاني الأميركيون الى واشنطن في الشهر السادس من عام 1996. ذهبت واجتمعت بالأمن القومي والخارجية وال «سي آي أي»، قالوا: «نريد أن نؤسس قوة تحت لواء المؤتمر الوطني لفك الاشتباك، ونريد منك التزاما بأن لا تستعمل هذه القوة لإسقاط صدام من دون التنسيق معنا». ضحكت. قالوا: «نحن خفنا مما حدث سنة 1995». بعد كل القلق والمشاكل التي حدثت عادوا بعد سنة ليعرضوا تشكيل قوة. وافقت، لكنني قلت لهم: «في المرحلة الأولى يهمني وقف القتال في كردستان، ونحن ننسق معكم في أي عمل لاحق». قالوا: «بناء على هذا سنؤسس قوة». رجعت الى لندن وتفاقم الوضع في كردستان. وصارت تدخلات ودخل صدام الى كردستان. وصارت المعركة والاتحاد الوطني صار على الحدود الإيرانية، وسيطر الحزب الديموقراطي على كل مناطق كردستان. وجاءت الاستخبارات العسكرية العراقية وقتلوا من عندنا نحو 34 شخصاً. والجيش العراقي قتل 96 شخصاً. أنا كنت في واشنطن. دعاني جون دويتش مدير ال «سي آي أي»، اجتمعت به وكان جورج تينت حاضراً. وكان جماعتنا موجودين في منطقة صلاح الدين تحت الخطر. سألني: «ماذا تنصحنا أن نفعل؟». قلت له: «أنصحكم أن تمنعوا حصول اتفاق سياسي بين مسعود بارزاني وصدام بعد العملية. ما حصل عابر، لكن الاتفاق السياسي ينهي القضية». سألني: كيف؟ قلت: «يجب أن تحتضنوه. افضل المصلحة العامة في العراق على ما صار، ولو أن وضع علاقتنا صارت صعبة معه الآن، لكن المهم أن يبقى الوضع على ما هو عليه». قال: «هذا الكلام مهم». وأضاف: «وماذا أيضا؟»، قلت: «أريد أن اخرج جماعتي». قال: «أين هم؟»، قلت: «في صلاح الدين»، قال: «هذه تبعد 250 كليومتراً عن الحدود التركية ولا نستطيع أن نخرجهم». قلت: «إذا وصلوا الى زاخور على الحدود التركية هل تخرجهم؟»، قال: «نحاول». لاحقاً، استدعى الكونغرس جون دويتش لسؤاله عما حصل، وهل ان صدام اصبح أقوى او اضعف بعد الذي حصل في اربيل. كنت انا اخبرته في وقت سابق ان صدام اقوى، فقال لهم الآن صدام أقوى. هذا الكلام اغضب توني ليك الذي بدوره حرض كلينتون على جون دويتش الذي كان مرشحاً ان يصير وزير دفاع بعد الانتخابات الاميركية التي ترشح فيها كلينتون لولاية ثانية عام 1996. لم ينتظروا استقالته بل عزلوه من ال «سي آي أي». همشوه وتسلم مكانه تينت. في تلك الفترة، انكشفت قضايا كثيرة، وكيف أن ال «سي آي أي» تآمرت مع أعضاء الكونغرس الذين كانوا مسؤولين عن لجنة العلاقات الدولية حول موضوع تأسيس قوة من المؤتمر الوطني للفصل بين الأطراف. * غداً حلقة سادسة