تمثل فيروز للكثيرين منا ذاكرة للأحلام والأمنيات، لأيام مضت ولكنها ستظل محفورة في النفس الى آخر العمر. صوتها الفريد، الذي لم يتكرر في الغناء العربي، ينطلق فيذكر بأحلامنا وخساراتنا الشخصية وأشواقنا الجماعية. تغني فتعود صور الماضي القريب الى ذاكرة أرهقتها الخسارات والأحلام المضيّعة. وقد كانت حفلتاها في عمان، اللتان سبقتا غياب الملك حسين، نوعاً من التجاذب بين الفنانة والجمهور المحتشد في المكان الفسيح، رغم ارتفاع ثمن التذاكر وصعوبة الوصول. كان بالإمكان قراءة هذه الصيغة التعاقدية بين الجمهور، الذي ينتمي معظم أفراده الى الأجيال الشابة، والمطربة التي لم تستطع الغناء الجديد، بنماذجه الجيدة والرديئة، والفيديو كليب، بإغراءاته وصوره وألوانه التي تخطف العين والخيال، أن يؤثر على مكانتها بين جماهير الغناء الشابة التي يشاع أنها مالت عن الاستماع الى أجيال العمالقة في الغناء العربي وفضلت الأغنيات السريعة والألحان الراقصة، وهي كما يقال حقاً أو بهتاناً تناسب ايقاع العصر. لكن فيروز تثبت، على الدوام، أن الفن الرفيع يناسب كل زمان ومكان، وهو قادر على قلب أية معادلة سائدة والتسلل نحو النفوس لجماله وقدرته على التعبير عن مكنونات النفس وإثارة الذكريات وإيقاظ الأحلام من رقدتها. والأغاني الفيروزية تجمع الى جمال الصوت شعراً مشدوداً الى الوجدان العربي الفردي والجماعي. فهي تثير إذاً مخزون الفرح والألم في نفس السامع وتحمله على أجنحتها الرؤوفة. لهذه الأسباب يتدافع الناس الى حفلات فيروز لكي يطابقوا بين الصوت والصورة، لا ليسمعوا ما يسمعونه على الدوام في البيت والعمل والسيارة من أغاني الفنانة ذات الصوت الملائكي الأسطوري، الذي قلما يجود الزمان بمثله" ولكي يستعيدوا أحلامهم المكسورة وآمالهم المطعونة بحضور فيروز التي تعد الممثل الشرعي لهذه الأحلام والآمال، والناطق الفعلي الدائم بإسم الفاجعة، الشخصية أو العمومية. وهي عندما غنت "شوارع القدس العتيقة" استثارت الكامن في النفوس وأيقظت الأحزان وأشعلت المكان ودفعت الناس كي يغنوا معها في عمان ويبكوا مدينة القدس القريبة - البعيدة. تلك هي صيغة التعاقد الحميم بين الناس والمطربة العالية القامة، القريبة من صور أعماقهم. وفيروز خير معبر عن هذه الصيغة. ففي يومها الأخير في عمان كان بالإمكان ملاحظة "جهادها" الصعب لكي تغادر خشبة المسرح، فكلما أرادت المغادرة شدها الجمهور بحبه، وهي استجابت لهذا الحب بمعاودة الغناء مرة بعد مرة تعبيراً عن التزامها بصيغة التعاقد القائمة بينها وبين الناس، عن التزامها بالحب والتعبير العضوي عن آمال الناس وأحلامهم على صعيد الحب والعيش اليومي والسياسة. ذلك هو سر فيروز، على ما أظن.