افتُتح القرن العشرون بالكشف عن أسرار باطن الذرة التي تحدد كل مادة في الكون، ويُختتم بالكشف عن أسرار الجينات التي تحدد كل حياة في الكرة الأرضية. ما بين انجازات علوم الذرة والجينات وقعت أعظم الفتوحات العلمية والتكنولوجية التي غيّرت العالم الى الأبد. ولعل ما يميز معظم الأشخاص المحظوظين بالعيش في منعطف الألفية عن الأجيال البشرية قبلهم أنهم علموا بما يحتويه باطن الذرة من قوة دمار وحياة القنبلة النووية والكومبيوتر، وعرفوا أنهم يشاركون جميع أنواع الكائنات الحية بشيفرة جينية واحدة تشكل مفتاح الحياة. "أم العلوم" لو دُمِّرت المعرفة العلمية كلها ولم تُترك للأجيال اللاحقة سوى جملة واحدة، فما تلك الجملة التي يمكن أن تحتوي في بضع كلمات على معظم المعلومات؟ طرح هذا السؤال ريتشارد فاينمان، الذي يُعدّ من أعظم علماء الفيزياء في القرن العشرين وقدّم عنه الاجابة التالية: "كل الأشياء مصنوعة من ذرات، والذرات جسيمات صغيرة تدور في حركة دائمة منجذبة احداها نحو الاخرى عندما تكون على مسافة قليلة من بعضها، لكنها تتنافر عند ضغط إحداها باتجاه الاخرى". هذه هي خلاصة المعرفة العلمية البشرية لأكثر من ألفي عام. فالذرة التي وضع فكرتها فلاسفة الأغريق قبل ميلاد المسيح بنحو430 سنة كشف العلم في القرن العشرين عن باطنها، وعرف أنها تتكون من أجزاء يمكن فصلها، على خلاف الاسم الأغريقي للذرة Atom ويعني غير القابل للتجزئة. وبهذا تحققت أعظم وأخطر الانجازات العلمية التكنولوجية لهذا القرن، من القنبلة النووية وحتى الكومبيوتر. حققت ذلك الفيزياء خلال بحثها عن القوانين الكونية التي تتحكم بسلوك المادة والطاقة. يطلق على الفيزياء اسم "ام العلوم" ولها تدين جميع العلوم الاخرى. فالكيمياء تبحث كيف تلتحم وتنفصل الذرات والجزيئات، فيما تدرس الفيزياء القوانين التي تتحكم بالالتحام والانفصال. وفي حين يدرس علم الفلك حركات الأجسام السماوية تتعامل الفيزياء مع القوانين التي تتحكم بهذه الحركة.والكيمياء، كما يقول عالم الفلك كارل ساغان "هي ببساطة ليست سوى أرقام". فكيمياء أي ذرة يعتمد فقط على عدد الألكترونات الذي يساوي عدد البروتونات، ويُعرف بالعدد الذري. ولو كنتَ ذرة ببروتون واحد فأنت هيدروجين، وإذا كنت ببروتينين فأنت هليوم، وبثلاثة فأنت ليثيوم، وبأربعة فأنت بريليوم، وخمسة فأنت بورون، وستة فأنت كربون، وسبعة فأنت آزوت، وبثمانية فأنت اوكسجين...وهكذا حتى يصبح عدد بروتوناتك 92 فيكون اسمك عندئذ يورانيوم". وجميع الجزيئات التي يتكون منها جسم الانسان وجميع أشكال الحياة تتكون في الواقع من 6 عناصر كيماوية، هي الكربون والهيدروجين والنتروجين الآزوت والاوكسجين والفوسفور والكبريت. ويدرس علم الكيمياء تركيب وهيكل ومواصفات المواد والتغيرات التي تطرأ عليها. والكيمياء مهمة لباقي العلوم لأنها تُعنى يجميع المواد في الكون، سواء كان تركيب الغازات في النجوم والعوالم البعيدة أو بمكونات الخلية الحية. ويمكن القول أن القرن العشرين شهد العصر الذهبي للكيمياء. فعدد المركبات الكيماوية المسجلة لحد الآن يربو على 15 مليون مركب، وعددها يزداد بمعدل نحو 400 ألف مركب سنوياً. وتدين البشرية لهذه المركبات بالتقدم الذي حصل في جميع جوانب الحياة تقريباً في هذا القرن. فمعظم المواد المستخدمة في الحياة اليومية مصنوعة من مواد أو طرق كيماوية، من النفط والمواد البلاستكية وحتى ماء الشرب النقي والمبيدات والأسمدة الزراعية. علم الأحياء ومعظم الطب كيمياء، وكل الأدوية تقريباً هي مواد كيماوية، من الأسبرين وحتى البنسلين والانسولين. لكن الطب نفسه يُعتبر من علوم الأحياء البيولوجي Biology التي تدرس الأنظمة الحية. وعلم الأحياء، كما يدل اسمه يدرس كل أشكال الحياة بما في ذلك تركيب الخلايا التي تشكل الحجيرة الأساسية للحياة، وعمليات التمثيل العضوي التي تُحوّل الأغذية التي يتناولها الانسان الى عضوية الجسم. كما يدرس علم الأحياء جميع الفعاليات الحيوية الاخرى كالاستجابة للمحفزات والتطور والنمو والتكاثر، ويدرس أيضاً العضويات على مستويات عدة من التنظيمات: من الذرات والجزيئات والخلايا الى الأنسجة والأعضاء والأجهزة العضوية والمجموعات الحية. وتُعتبر الجينات، التي تكوِّن مفتاح جميع أشكال الحياة أعظم اكتشاف في علم الأحياء في القرن العشرين وربما في كل القرون. ففي مطلع القرن العشرين كان اسم عالم الأحياء البريطاني تشارلس دارون معروفاً على النطاق العام. فقبل نحو نصف قرن من ذلك الوقت، وبالتحديد عام 1859 نشر دارون المؤلف الأساسي له "أصل الأنواع"، لكنه لم يذكر شيئاً عن كيفية توارث الأنواع في عملية التطور التي تشكل أساس نظريته. وفي الوقت نفسه تقريباً كان الراهب النمساوي غريغور يوهان مندل يجري تجاربه لتهجين البازلاء. وفي عام 1866 نشر مندل بحثه، الذي وضع أساس علم الوراثة. هذا العلم ما يزال يٌدّرس في المدارس لحد الآن باسم "قوانين مندل للوراثة". لكن كلمة "جينات" لم تُنحت إلا عام 1906، ولم تندلع شرارات الثورة التي أطلقها هذا العلم إلاّ في العقد الأخير من القرن العشرين، وعرف العالم باستنساخ النعجة "دوللي". عصر الجينات وعندما سيتطلع المؤرخون في المستقبل الى نهاية الألفية الثانية للميلاد سيلاحظون أن الفتح العلمي الأساسي هو فك شيفرة الجينات التي تشكل الانسان. يطلق على مجموع هذه الجينات اسم "الجينوم البشري" Human Genome. ويتوقع أن ينتهي العلماء من تحديد الجينات التي يضمنها الجينوم البشري في عام 2003. وما يميز المعرفة البشرية في منعطف الألفية أنها على علم بأن هناك شيفرة جينية واحدة لجميع أشكال الحياة. هذه الشيفرة التي تفسر قوانين الوراثة تحملها سلسلة من قواعد زوجية في "الحمض النووي" DNA الموجود داخل نواة خلايا كل كائن حي، وهي التي تحدد نوع الكائن الحي ومواصفاته، فتجعله عشبة أو شجرة أو جرثومة أو ضفدعة أو فيلاً أو انساناً. توجد الجينات على شكل قضبان في خلايا الجسم اطلق عليها اسم "الكروموسومات" وتعني "الصبغيات" وذلك لأنها تتميز عن باقي مكونات الخلية باصطباغها باللون عند صبغ الخلية. ومعظم الكائنات الحية تملك زوجاً من هذه "الكروموسومات" لكن الانسان يملك 23 زوجاً، أو ما يعادل 46 كروموسوما. وتحمل جينات هذه الكروموسومات عوامل الوراثة، ويزيد عددها عن 100 ألف جينة.