"عكس الخطأ شئ صحيح وعكس الصحيح شئ أصّح منه". هكذا فكّر العالم الدانمركي نيلز بور الذي قلب فيزياء القرن العشرين رأساً على عقب. تفكير مماثل قاد علماء عرباً أعلنوا في المؤتمر الدولي الثالث للرياضيات والفيزياء الهندسية "أن نقل التكنولوجيا العالمية الى البلدان العربية شيء صحيح، لكن أصّح منه المساهمة في تطوير التكنولوجيا". الروس فعلوا ذلك. واليابانيون والصينيون والهنود والبرازيليون فعلوا ذلك، فلماذا لا يفعله العرب؟ مؤتمر القاهرة الذي اختتم أعماله الشهر الماضي اتخذ قراراً بانشاء مركز عربي دولي ل"النانوتكنولوجي". نانو تعني جزءاً واحداً من ألف مليون. و"نانوتكنولوجي"، تعمل على مستوى مكونات صغرى للمادة لا تُرى بالعين المجردة، مثل الخلايا والذرات والجزيئات: تستخدم الخلايا لتنمية أثداء وقلوب وأكباد وكلى بشرية حية، وتبني بالجزيئات طائرات في حجم البعوض ومصانع ومختبرات في علبة كبريت، وتنشئ بالذرات أجهزة طبية مجهرية تسير مع الدم في أوردة الجسم لعلاج الأمراض واجراء العمليات الجراحية الداخلية في الدماغ والقلب. النانو العربي الاستجابة لمشروع انشاء مركز عربي دولي ممتاز center of excellence لپ"النانوتكنولوجي" كانت في مستوى "النانو"، التي تُدعى "تكنولوجيا القرن 21". فقبل أن يختتم المؤتمر، الذي ساهم فيه علماء عرب وأميركيون وأوروبيون ويابانيون أعلنت قيادات وشخصيات علمية عربية عدة عن شروعها في العمل له. السيد مفيد شهاب، وزير التعليم العالي والبحث العلمي في مصر أكد قدرة بلاده في بناء المركز وتحدث عن دور كبير مقبل لأكثر من 30 ألف عالم مصري في الخارج. العالم السعودي الدكتور صالح العذل رئيس "مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية"، الذي قاد أسرع عملية لبناء مؤسسات علمية حديثة في العالم العربي تحدث عن فرص نجاح المشروع في حال تعبئة القدرات الكامنة لدى العلماء العرب في الداخل، الشباب منهم خصوصاً. وأعلن الدكتور فاروق اسماعيل، رئيس جامعة القاهرة عن احتضان الجامعة المصرية الام للمشروع. وصرح عميد كلية الهندسة الدكتور محمود غريب الشربيني بأن كليته ستقوم بدور الحاضنة للمشروع وستنجز بسرعة الدراسات الأولية له. وأخذ استاذ الفيزياء الطبية في كلية الهندسة الدكتور مدحت المسيري على عاتقه مهمة الاشراف على عمل اللجنة التحضيرية. وذكر عالم الفيزياء النظرية الدكتور محمد النشائي، وهو صاحب فكرة "مركز النانوتكنولوجي"، أن الاتفاق العربي العام على انشائه يمكن أن يضمن دعماً قوياً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا واليابان، عصر النانو في أبحاث المؤتمر نفسه التي بلغ عددها نحو 100 حضرت "النانوتكنولوجي" معظم الوقت، على رغم أنها لم تحظ ببحث خاص. وعلى غرار بطل مسرحية موليير "طرطوف"، الذي اكتشف بعد عمر طويل أنه كان يتحدث بالنثر طوال عمره ظهر في ختام المؤتمر، أن أكثر الباحثين كانوا يتحدثون بالنانو. كانت النانو حاضرة في عناوين معظم جلسات المؤتمر العشرين، سواء المخصصة منها للفيزياء النووية أو الديناميكا غير الخطية أو الفيزياء الطبية أو الشبكات العصبية أو التحليلات الكهرومغناطيسية. على مستوى التعامل مع الذرات والجزيئات. تجري طريقة التحليل الضوئى الجديدة التي عرضتها وحدة أبحاث المتحف المصري. تفوق التقنية الجديدة طريقة الكربون المستخدمة الآن وتبلغ دقتها في تحديد عمر الآثار نحو 99 في المئة. وعلى المستويات متناهية الصغر كان تحليل دقائق التأثيرات المناخية للرياح التي تهب على مدينة الرياض الذي عرضه في المؤتمر باحثون سعوديون، أو بحث هيئة الوكالة الذرية المصرية حول تحليل المستوى الاشعاعي لأشعة غاما في سيناء، وكشف فيه عن مستويات تزيد عن الحد المسموح به دولياً، أو بحث جامعة الملك عبدالعزيز في جده الذي درس الآثار الصحية الخطيرة للعلاج الاشعاعي على أعضاء الجسم. بحوث اخرى على المستوى الصغري خاصة بالمفاهيم الجديدة الخاصة بالأشعة الكهرومغناطيسية وتأثيرها على هوائيات البث. قدم البحث عاملون في "الاتحاد المصري للاذاعة والتلفزيون. وفي الطب تظهر الصورة المثيرة لعالم "النانوتكنولوجي". هنا تندمج العلوم والتكنولوجيا وتنشئ فروعا جديدة مركبة من علوم الحياة والفيزياء والهندسة والكيمياء. البحث الذي قدمه استاذ الفيزياء الطبية الدكتور مدحت المسيري عرض تقنية جديدة خاصة بألواح مستخدمة في هندسة كسور العظام. تتكون الألواح من ألياف كربونية "ذكية" تتطور خصائصها الآلية مع تطور مراحل التحام الكسور وينتهي بها الأمر الى الذوبان في الجسم مثل الخيوط الجراحية. هذه المواد هي الخطوة الاولى للنانوتكنولوجي التي تصنع أنسجة "حية" للأعضاء البشرية المختلفة من العضلات والعظام حتى الأوعية الدموية والجلد. مصانع النانو جسم الانسان نفسه ليس سوى مصنع "نانوتكنولوجي". عندما تُذكر كلمة مصنع ترتسم في الذهن غالباً صورة مكان ضخم ينضح برائحة الزيت وضجيج الآلات. لكن تلك هي مصانع الثورة الصناعية البدائية، وهي تختلف كليه عن مصانع الثورة العلمية التكنولوجية التي تعمل مثل جسم الانسان. ففي جسم القارئ الذي يطالع هذه السطور ملايين المصانع التي تنتج عمليه النظر وغيرها من الفعاليات الحيوية. كل خلية من خلايا الجسم مدينة صناعية تضم مصافي تكرير ومجمعات كيماوية ومحطات لانتاج الطاقة ومعامل لمعالجة وتصريف النفايات وشبكات للنقل داخل الخلايا وخارجها. التكنولوجيا المستخدمة في جسم الانسان هي أرقى آنواع "النانو تكنولوجي" التي تتعامل مع الذرات والجزيئات. ومن جسم الانسان تنطلق أول منتجات هذه التكنولوجيا التي كانت تعتبر نوعاً من روايات الخيال العلمي. في الاسبوع الماضي اعلن عن نجاح تجربة تنمية ثدي نسائي من الخلايا. قام بالتجربة مهندسو أنسجة الخلايا في الشركة الأميركية "ريبروجينيسس" Reprogenesis. استخدمت في التجربة خلايا غضاريف الجسم لتنمية الثدي وأوعية دموية من نسيج الفخذ لتنمية حلمة الثدي. زرعت الخلايا في قوالب من بلاستيك البوليمر واضيفت اليها مواد تحفز عمليه تكاثر الخلايا. وعندما يملأ الثدي الناهض القالب البلاستيكي تتباطأ عملية نمو الخلايا ويختفي القالب تاركاً النسيج الحي للثدي. وتمهد التجربة لزرع أِثداء للنساء اللواتي تزال أثداؤهن بسبب الاصابة بالسرطان، أو لتنمية القلب والكلى وأي أعضاء اخرى معطوبة في الجسم بدلاً من انتظار تبرع ضحايا الحوادث بأعضائهم. وواضح أن الجسم لن يرفض الخلايا المأخوذة منه لتنمية هذه الأعضاء. "المايكرو" و"الماكرو" وتتصل النانوتكنولوجي بأخطر المسائل العلمية والفلسفية التي تواجه عالم اليوم. فهي تصنع الأشياء عن طريق التحكم بالذرات وتحريكها ذرة فذرة لبناء مادة أو جهاز. تظهر الصورة "الملموسة" لحركة الذرات عند تسخين قطعة معدنية صغيرة الى حد درجة التبخر. في هذه الدرجة تختفي القطعة عندما يتطاير المعدن على شكل ذرات منفردة أو جزيئات من عدة ذرات. الاختلاف بين هذه الكتل، التي لا تُرى بالعين المجردة والمعدن الذي تطايرت منه هو الاختلاف بين الكون الأصغر "المايكروكوسم" Microcosm والكون الأكبر "الماكروكوسم" Macrocosm. في هذا الاختلاف ضاعت علوم القرن العشرين، التي لم تعد تعرف ما هي المادة التي يصنع منها كل شئ. لم يكرس مؤتمر القاهرة اهتماماً مناسباً لبحث هذه المسائل، على رغم مساهمة علماء مرموقين مختصين بدراسة القوانين التي تتحكم بالكون الأصغر. الامسيات غير الرسمية كانت مناسبة للتعرف على أفكار هؤلاء العلماء المعروفين على نطاق عالمي بأبحاثهم في قوانين فيزياء الكوانتوم Quantum Physics و"الفوضى" Chaos والكِسر Fractals واللاخطية Nonlinear التي تتحكم بعالم النانو. نظريات مهمة في هذ الصدد يقدمها علماء ساهموا في المؤتمر، مثل اوتو روسلر الألماني النمساوي وغرانت اورد الكندي وتي كابيتانيك البولندي. يتحلق هؤلاء العلماء حول المجلة العلمية الخاصة بعلوم الفوضى والكسر Chaos, Solitons & Fractals. تصدر المجلة بالانكليزية عن دار النشر العلمية "برغامون" في بريطانيا التي يرأس تحريرها الدكتور محمد النشائي ويساهم فيها الدكتور صالح العذل وعدد من حملة جائزة نوبل في الفيزياء. الجواب الذي يقدمه هؤلاء العلماء عن أهم سؤال يواجه العلوم اليوم يبدو في الهزيع الأخير من ليالي القاهرة عصياً على الفهم مثل مياه النيل الحالكة التي لا يسبر غورها. السؤال هو: ما هي العلاقة بين قوانين الكون الأكبر والأصغر؟ الاجابة عن هذا السؤال قد تكشف، كما يعتقد أبرز العلماء المعاصرين أسرارعمل كل شئ في الكون، من الدماغ البشري الى النجوم. "الزمكان" يعتمد بعض نظريات هؤلاء العلماء على رياضيات العالم الألماني جورج كانتور، الذي يعتبره النشائي أعظم علماء الرياضيات في التاريخ. وتحاول نظرية تحمل اسم "نظرية الفراغ الكانتوري"، أن تسد النقص في مفهوم عالم الفيزياء الألماني انشتاين حول "الزمكان"، او ارتباط الزمن بالمكان، وأن تطور فكرة عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هاوكنغ، الذي يعتقد بان الزمن لا يختلف عن المكان في أي شيء. "زمكان" أنشتاين المحدب يتعامل مع الكون الكبير الذي تتكون منه المجرات والعوالم، في حين يفسر "زمكان" كانتور "الكِسري" سلوك الكون الصغير داخل الذرات. الزمن هو البعد الرابع في الأجسام الكبيرة التي تتحرك في 4 أبعاد، هي طول وعرض وعمق وزمن، لكن أبعاد الزمن في الأجسام الصغيرة لا نهاية لها وقد تزيد عن 10 آلاف او مليون أو 20 مليوناً. وتعتقد هذه النظرية أنها تحل اشكالات عدة يعاني منها علم الفيزياء الذي يبدو وكأنه يتحدث في الغيبيات، عندما يشير الى وجود ما تسمى ب"المادة المضادة" Antimatter، التي تتحدث عنها أفلام الخيال العلمي. الزمكان وفق "نظرية الفراغ الكانتوري" يتكون من "كِسَر" زمانية-مكانية صغيرة، وكل واحدة منها تتكون من "كِسَر" زمانية-مكانية أصغر تتكون بدورها من "كِسَر" زمانية-مكانية أصغر الى ما لانهاية. عالم غريب ملتاث؟ أجل. لكنه، كما يؤكد هؤلاء العلماء هو عالمنا الذي ننطلق منه لصنع المستقبل. مستقبل النانوتكنولوجي.