تفرض نهاية القرن نفسها على مناحي تفكيرنا، وتجعلنا نقف مشدودين، ومشدوهين في آن واحد، أمام صعوبات الوصول إلى وصف دقيق لحال النظام العربي في هذه اللحظات الأخيرة. لقد سلكت التصرفات العربية في الآونة الاخيرة مسالك غريبة، لا تعكس إلا حال ريبة مطلقة، وعدم ثقة في الذات، أو في الشخصية، أو في الحليف. عشنا في هذه السنوات، أو قل الشهور والأيام الأخيرة، في ظل شبح ثقيل، بل أكاد لا أجد أقرب من وصف حالتنا إلا حال انسان أواسط العمر عندما يصل إلى مرحلة أو إلى سن اليأس. عند هذه السن يتوقف الانسان ليحسب ماذا حقق وأين أخفق، وإذا كان ما فات من عمر عائده بسيط، فهل ما تبقى منه سيكون افضل. وكيف يكون أفضل إذا كان ما فات من العمر أقواه وأوفره صحة وعافية وطموح. عند هذه السن يتصرف الانسان، رجلاً أو امرأة، تصرفات مختلفة، ويبدو متوتراً حيال التغيرات التي بدأ يلاحظها ويراها في شكله وفي أخلاقه وسلوكياته تجاه الغير بل تجاه أقرب الناس اليه. تأملت حال النظام العربي عند لحظات نهاية القرن. هذا القرن الذي يرحل كان في أحد تعبيراته واهتماماته قرناً عربياً. صحيح أن المؤرخين بدأوا، مبكراً على غير العادة، يسمونه القرن الاميركي، وبنهاية مثل هذه النهاية التي ينهي بها القرن حياته يصعب أن نجادل هؤلاء المؤرخين أو ندحض شهادتهم التي سيسجلها التاريخ. فالقرن في معان كثيرة كان قرناً اميركياً، ولكنه في الوقت نفسه وعلى مستويات أخرى كان اشياء أخرى، كان قرناً أوروبياً إذا انطلقنا من حقيقة أنه بدأ بحرب عالمية عظمى تسببت فيها أوروبا، وأنه في منتصف عمره دخل حرباً عالمية عظمى أخرى وأيضا بسبب أوروبا. وأن الحرب الباردة دارت في ساحة أوروبا اكثر مما دارت في ساحات أخرى غيرها، وأن أوروبا، وهي على ابواب نهايته تعلن انها استعادت عافيتها وقوتها واستعدت لاقتسام قيادة العالم مع اميركا. وفي ركننا المتواضع، أي في الشرق الأوسط، يمكننا ان نقول إن القرن كان عربياً، تماماً كما يمكن اليهود أن يقولوا إن القرن كان صهيونياً. القرن عربي لأن بعد مطلعه بقليل تحول معظم العرب من رعايا عثمانيين الى عرب تحت الانتداب أو الى تابعين في ظل الاستعمار الاروروبي المباشر. وبعدها بدأ الاستقلال وقامت دول عربية ونشأ نظام اقليمي عربي. نشأ النظام لأن الخلافة في اسطنبول والظلم العثماني والعنصرية التركية احدثت جميعاً رد فعل قومياً، تسرب سريعاً بين النخب المثقفة، وتسرب حثيثاً بين فئات متعددة من الشعوب العربية مختلطاً بوطنية ناشئة احياناً وبإنبعاث ديني احياناً اخرى، وفي كل الاحوال جاء رافضاً التبعية للأوروبيين، ومحتجاً على تخلف السياسة والسياسيين، وداعياً للاستعجال في تحقيق الاستقلال والتنمية، ثم اتضحت متأخرة معالم الغزوة الصهيونية، فكانت الشرارة التي أشعلت نيران غضب انضم إلى كل الغضب الذي ظل محبوساً لقرون ضد العثمانيين، وضد الاوروبيين، وضد الطبقات الحاكمة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. واستمر العرب، منذ اليوم الأول الذي اشتعل فيه الغضب ضد بريطانيا وفرنسا واليهود واميركا وحتى آخر يوم في القرن يدفعون غالياً ثمن الغضب الذي تمكن منهم، لم يدعهم يتفلتون، يدرسون، يخططون، ينطلقون، لم يجدوا فرصة، ولم تتوقف الدول الغربية، ولا اسرائيل، عن استنزاف صبرهم، وبعض صبرهم كان كصبر الجمال، ولم تتوقف عن استنزاف اموالهم، وبعض اموالهم كانت ككنوز سليمان. ومع ذلك، لم يتوقف العرب عن ممارسة هوياتهم، أو عبقريتهم المفضلة، استمروا يختلفون ويتنازعون. عرفتهم امم اخرى بالأمة التي تولول دائماً، وتنشر غسيلها امام بقية البشر. كانوا اذا ذهبوا الى مؤتمر في افريقيا حكم الافارقة مقدماً بالفشل على مؤتمر بذلوا الجهد الكثير في الإعداد له. فالعرب لا يناقشون الا قضاياهم، ويريدون حلفاء من افريقيا، أي حلفاء، ضد بعضهم بعضاً، ولم ينته القرن إلا وصار النظام الافريقي مثل النظام العربي، حتى أن افريقيا اختارت تسليم مقاليد قيادتها لاحد السياسيين العرب، الذي قرر بدوره التخلي عن عروبته ليتأفرق. من ناحية أخرى، يقول الاسرائيليون ان القرن كان صهيونياً، والقرن القادم سيكون ايضا صهيونياً. يقولون ان الصهيونية انتصرت انتصاراً تاريخياً، فقد وضعت الصهيونية برنامجاً للتنفيذ، بدأته متواضعاً في الحركة مبهراً في النظرية والعقيدة، كان الصهاينة يتحركون ببطء احياناً، يقطعون امتاراً من الارض، ويبتزون اقساطاً من النفوذ الدولي، ويستقبلون مهاجرين افراداً ثم بالمئات ثم بالآلاف حتى وصل مهاجرون من روسيا يعدون بالمليون. ولكن في النظرية، أي في الحلم، كانت الأرض تقاس بالمساحة بين الفرات والنيل والشعب يعد بتعداد أمة اليهود في انحاء العالم كافة، وحجم النفوذ بمدى هيمنته في عواصم العالم المهمة. وفي وقت تصور قادة اسرائيل ان اذرعه الصهيونية ستكون طويلة فتحيط بهلال أشد خصوبة من هلال العرب الخصيب، هلال يبدأ من شرق آسيا حيث الصين وينتهي في اطراف المحيط الاطلسي محتضناً شبه جزيرة الهند والخليج وكل بلاد العرب. فاذا حسبنا وتحاسبنا في هدوء وبغير انفعال، إذا حسبنا خطط التنفيذ المتدرجة في اطار الحلم الواسع، وحسابنا أنفسنا وتحاسبنا على ما افترضناه عن عمد أو عن جهل أو عن خوف، لقلنا أن القرن بالنسبة الينا، والى حد ما بالنسبة الى العالم، كان قرن الصهيونية. فعلى امتداد معظم القرن كان الرفض العربي لاسرائيل قاطعاً، ولكنه كان ضعيفاً. وانتهى القرن وكل حكام العرب معترفون بإسرائيل، وان تلكأ بعضهم في ممارسة الاعتراف انتظاراً لدمشق، وهرول بعض آخر تشجيعاً لدمشق أو ضغطاً عليها. ودمشق انتظرت حتى آخر ايام في القرن لتمارس ما رفضت، كانت المقاومة العربية اللفظية لإسرائيل بناء على رفض للوجود وانكار للواقع وكانت المطالبة بفلسطين عربية أو عربية يهودية دعوة حالمة هادئة، وانتهى القرن بإدعاء أن النصر كان عربياً لأن العرب استعادوا - أو على وشك أن يستعيدوا - ما اخذته اسرائيل من اراضٍ، وبالتالي فإسرائيل منهزمة والعرب منتصرون. اصحاب الموقف الآخر يقولون إن اسرائيل كان يمكن ان تحقق انجازات اكبر، كان يمكن ان تجعل الحلم كله، والنظرية بأسرها حقيقة وواقعاً، ولكن مقاومة العرب منعتهم. دخلنا حروباً عنيفة بخسائر هائلة، لم نحاسب بعض من استعدوا لها وتسببوا في الهزيمة، لم نحاسب من جعل اسرائيل تحتفظ بالارض وتساوم بها على الاعتراف بوجودها، وجهنا الدعوة الى من تسبب في الحال التي وصلنا اليها، ويبدو ان اسرائيل واميركا فهمتا جيداً حقيقة ان من فشل مرة ثم مرة ثم مرة هو اكثر من يحتاج الى مرة يبدو فيها وقد نجح فيقول انه انتصر وهم لم ينتصروا، ولذلك ينتهي القرن بإدعاء ان النصر كان عربياً لأن العرب استعادوا - أو على وشك أن يستعيدوا - ما أخذته اسرائيل من اراضٍ، وبالتالي فإسرائيل منهزمة والعرب منتصرون والقرن عربي. لا ينكر الا مكابر ان العرب قاوموا بالحرب وبالمقاطعة وبمواجهات كثيرة وشرسة مع اسرائيل واميركا وغيرهما. ولا يمكن تجاهل ان اسرائيل - رغم علاقتها بأميركا - لم تفلح على مدى ثلاثة عقود ان تقوم لها علاقات مع معظم دول اسيا وافريقيا، إلا حين وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية اوسلو، وإن سبقتها مصر باتفاقية كامب دافيد. الا ان كامب دافيد ظلت اتفاقية تحت الحصار معظم حياتها. حاصروها ولكن اختاروها منهجاً التزمه الباقون ونراه بحذافيره متجددا. علاماته مشهورة، وهي ثلاثة، اولها اختيار الانعزال الذاتي الطوعي على مدى الاستعداد لمفاوضات مباشرة مع اسرائيل والابتعاد عن الاصدقاء قبل الخصوم، وثانيها، التكتم والتعتيم وإخفاء كل الجهود عن الرأي العام الداخلي خصوصاً والعربي عموماً، وثالثها التفاوض سراً وانفرادياً، أي ثنائياً مع الدولة العبرية. وبعد التقدم في المفاوضات يتكرم الطرف العربي المفاوض بدعوة اطراف عربية اخرى للمشاركة. هذه علامات كامب دافيد وهي ذاتها علامات توابعه. الآن، كيف نبدو امام الدنيا، وكيف سنبدو في سجل التاريخ امام الاجيال المقبلة. احياناً نبدو كجماعة مذنبين فارين نتعجل انتهاء القرن الذي سجل ذنوبهم، لينتقلوا الى قرن اوراقه ناصعة البياض، هؤلاء مفجوعون الآن، لأن اجزاء من الصراع انتقلت من القرن الراحل الى القرن القادم، لتزداد ذنوبهم. يبدون خائفين متشككين فيما يخبئه لهم القرن الجديد، هؤلاء لم يعيشوا يوماً هانئاً في قرن تعيس، ولا يتصورون أن القرن القادم قد يكون أكرم معهم وأحن عليهم. بعض هؤلاء يعرف الآن أنه لم يحاول ان يتغير ليستحق قرناً حنوناً كريماً. قليلون هم الذين يلاحظون انهم ينتقلون - كما هم وبما فعلوا - من قرن ظلموه الى قرن آخر سيظلمونه. فالقرون بريئة من افعال البشر، الناس تقترف الآثام وتتخلى عن حقوقها وتتبع الظالمين وتسلم ثرواتها للفاسدين والجاهلين ثم تتهم القرن العشرين بأنه القرن الذي ظلم العرب وسلب حقوقهم. هؤلاء إن حقاً أرادوا قرناً افضل لا تتسابق فيه دول عربية على وضع اكاليل نصر على رأس الصهيونية، أن تضغط ليجتمع حكامها، وإن فشل اجتماعهم كما فشلت جهود اخرى كثيرة فليكرروا المحاولة حتى تنجح، فقد يحدث - ولو بالصدفة أو الخطأ - ان تخرج هذه الامة من احد هذه الاجتماعات بمشروع لقرن جديد. بدأ القرن وقد تزامنت انطلاقة "الثورة" الصهيونية مع "الثورة" العربية. وانتهى القرن وقد افترقت مصائر الطرفين، طرف مازال منطلقاً وإن محاطاً بمشكلات غير قابلة للحل، وبحلم لم يتحقق إلا بعضه، وطرف مشدود الى مكانه يقاوم يأس اواسط العمر. * كاتب مصري.