ينشغل النقاد والباحثون في العالم بهوية كافكا الحقيقية، وعلى الخصوص بعلاقته بالصهيونية. بداية لا يختلف هؤلاء حول ظاهر هذه الهوية. فكافكا (1883 - 1924م) حقق شيئاً من «الوحدة الأوروبية» في حياته القصيرة (41 عاماً). فقد ولد في تشيكوسلوفاكيا، وكتب أدبه باللغة الألمانية وعاش بين النمسا والمجر، وهو ينتمى إلى أسرة يهودية تعمل بالتجارة ولكنه رفض العمل في محلات والده وفضل الالتحاق بوظيفة في شركة للتأمين. ومع أنه توفي في النمسا، إلا أن رفاته حُملت إلى براغ حيث دفن. فهو تشيكي إذن بالولادة وبالمكان الذي يثوي فيه. ولكن هويته الفكرية أو الأيديولوجية تثير حيرة النقاد والباحثين، فإذا كان يهودياً، فهل هو صهيوني؟ وإذا كان صهيونياً فما هي ملامح صهيونيته؟ هل هو صهيوني مثل بيغن وشارون ونتنياهو، أم هو صهيوني أكثر اعتدالاً؟ أم هو غير صهيوني على الإطلاق؟ المعروف أن لكافكا عملاً مثيراً للجدل يتصل بالبحث عن هويته، هو عبارة عن قصة قصيرة خرافية عنوانها «بنات آوى وعرب» كثيراً ما يتكئ عليها الصهاينة ليخلصوا إلى صهيونية كاتبها، ولكن هذه القصة بنظر الباحثين الموضوعيين مفتوحة على تفسيرات مختلفة ولها سياق متعدد المستويات وليست عملاً أدبياً يؤكد حتماً صهيونية كافكا. طبعاً ثمة أسئلة تدور حول علاقة كافكا بالصهيونية وفلسطين، والنظر في طبيعة هذه العلاقة يرتبط بمحاولات مصادرة كافكا كمؤيد وداعم للحركة الصهيونية على أرض فلسطين. وكان آخر هذه المحاولات سعي المكتبة الوطنية الإسرائيلية لوضع يدها على إرث كافكا الموجود في سويسرا حالياً، بحجة أن أعمال الكاتب هي جزء من التراث الوطني الإسرائيلي، وأن المكان المناسب لأوراقه هي المكتبة الوطنية الإسرائيلية. ويرى هؤلاء الباحثون البعيدون عن الصهيونية أن مقارنة أعمال كافكا، بما فيها مذكراته ومراسلاته، مع ما كانت تصدره الصحافة الألمانية الصهيونية إبان الحرب العالمية الأولى، تكشف أن موقفه من الصهيونية كان يكتنفه الغموض وحتى السخرية، وكان يعي أنه في اللحظة التي تحط فيها الصهيونية رحالها فوق تراب فلسطين، لن تبقى حركة تحررية قومية يهودية في أوروبا، بل ستصبح حركة استيطانية كولونيالية، لذلك يصعب تصديق المزاعم الإسرائيلية حول صهيونية كافكا بسبب الفكر الصهيوني المعاصر في ضوء آخر الدراسات النقدية التي ترى في كافكا معجباً بالثقافة اليهودية الهاسيدية واليديشية المقيمة في أوروبا. ذلك أن الصهيونية الاستطيانية كانت تزدري هذه الثقافات «الشرقية» التي تطرح نماذج من التحرر تتعارض مع ثنائية: إما الاندماج أو الهجرة، التي نادى بها الفكر الصهيوني المهيمن، والتي مثلت التبرير والدافع للمشروع الاستيطاني في فلسطين. ويبدو أن الفريق الذي يزعم أن كافكا كان صهيونياً وحذّر بالتالي من أعماله، انطلق من رغبته في الهجرة إلى فلسطين، أما الفريق المقابل فقلب المصادرة اللاهوتية لكافكا، بما هو آخر أنبياء إسرائيل، رأساً على عقب، إذ رأي فيه المحذر الأول من ظلم المشروع الصهيوني، حاجج هؤلاء الكتاب بوجوب عدم الخلط بين مصادرة كافكا لمآرب صهيونية، وبين العمل الأدبي ذاته، إذ إن التسليم بهذا التفسير يصب في خدمة الامبريالية الثقافية لإسرائيل، وذهب بعضهم إلى حدود وصف كافكا بالمعادي للصهيونية. فسر النقاد الألمان واليهود «بنات آوى» بأنها ترمز إلى «يهود الشتات»، فيما العربي في القصة مجرد رمز إلى الأمم الأوروبية المضيفة لليهود، أما المراجعات العربية فتعيد موضعة بنات آوى كافكا في فلسطين، ناظرة إليها كصهاينة يسعون إلى الاستيلاء على الأرض من العرب لكنهم عاجزون عن ذلك من دون دعم الأوروبيين. ويقول الباحث اللبناني المقيم في ألمانيا عاطف بطرس في كتاب حديث صدر له بالألمانية عنوانه: كافكا: كاتب يهودي من منظور عربي، إن التلقي العربي لكافكا انقسم حول، ما إذا كان كافكا، عبر هذه القصة، قد وافق على الاستعمار الصهيوني لفلسطين أو رفضه. وفي إعادة رسمه الدقيق للتفسيرات المعادية للصهيونية، يكشف عاطف بطرس في أخطاء في ترجمات عربية للقصة تضمنت «تغييرات دلالية متحيزة»، بالإضافة إلى الخطأ في نسبة تاريخ صدورها إلى ما بعد وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917م. وما يفوق هذا خطورة، بنظر بطرس، هو أن التلقي العربي لكافكا كان في الكثير من الأحيان مبنياً على جهل بتاريخ اليهود الأوروبيين، فقد تجاهل النقاد العرب خصوصية معاداة السامية الحديثة كما اختبرها كافكا، والتي تحييها نظريات عرقية تختلف عن الكره المسيحي في القرون الوسطى لليهود، هكذا نظر نقاد عرب إلى الصهيونية كحركة خلاصية مقدسة لا كحركة نضال قومي ضد القوميات الاثنية العنفية في أووبا، كما كانت عليه. الصورة الخرافية لابن آوى هي بذاتها، في قصة كافكا، إشارة مستهجنة في الصورة المجازية العنصرية «لليهودي ككلب» في معاداة السامية الأوروبية. غير أن نقد كافكا للثقافة اليهودية لم ينتم إلى معاداة السامية الألمانية والتشيكية الرائجة، ولا إلى الصهاينة الذين شعروا بأن اليهود الشرقيين هم طفيليون أعاقوا التحرر اليهودي. على العكس من ذلك، ففي خطاب له عن اللغة اليديتشية ألقاه في 1912م على شرف مجموعة من الممثلين البولنديين، حض كافكا الجمهور الحاضر من اليهود المندمجين والصهاينة في مركز الجماعة في براغ، على تجاوز صورهم النمطية ضد الثقافة اليديتشية. وقد تمتع يومها بكامل الجرأة ليحاجج بأن اليهود الغربيين هم بحاجة إلى اليهود الشرقيين من أجل تجديد ثقافتهم أكثر بكثير مما هو العكس. ويقول باحثون محدثون في سيرته إن كافكا نظر إلى المؤتمرات الصهيونية التي حضرها على أنها «شؤون تبعث على الحزن» درس كافكا العبرية وداعبته من وقت إلى آخر فكرة الهجرة إلى فلسطين، مرة للعمل نادلاً في تل أبيب ومرة أخرى مجلداً للكتب.. لكن علاقته بالصهيونية كانت متباينة، وأمضى نهاية حياته القصيرة في برلين التي أسماها «أيرتز - فلسطين» . واستناداً إلى هذه الخلفية البيوغرافية، تبدو صفة ابن آوى عند كافكا بمثابة نقد للصهيونية والدوغمائية. لكن إدانته الأكثر حدة ، وإن كانت شديدة الرمزية، كانت لصهيونية المستوطنين الصهاينة «البالاستينافاهرر»، في إشارة إلى »الكروزفاهرر» أي الصليبيين والتي جاءت في «تحقيقات كلب» في عام 1922م. في هذه القصة القصيرة عن الثقافة اليهودية التي اعتبرها يهود كثر تافهة، انتقد كافكا انتقاداً قاسياً «الشتات» بسبب «حياة الكلب» الهائمة التي يعيشونها. هنا تصبح طقوس الطعام اليهودي والخضوع للنصوص المقدسة موضوع هجاء مر. على ضوء ما تقدم، يكون كافكا اليهودي الأول الذي عالج موضوع وجود الآخر، أي الفلسطيني، في صميم الحلم الصهيوني، ورفض البعد الكولونيالي للصهيونية من دون الإدعاء المقزز بالتفوق الأخلاقي الذي استحضره النقاد الذين تلوه. في كتاب عاطف بطرس، يرسم كافكا طريقاً لكيفية رفض الصهيونية الاستيطانية في فلسطين وتقدير اشكال التحرر الوطني اليهودي والبويتشي في أوروبا، في آن معاً. إن كافكا هذا، صاحب الأدب المتعدد الأوجه والنقدي والعالمي الفذ، عصي على التصنيف البسيط كصهيوني أو مناهض للصهيونية. وهو بذلك يفتح الباب أمام قراءات متجددة وحمالة أوجه لأعماله. حتى يهوديته وهويته كانتا موضع شك بالنسبة إليه. أليس هو القائل: «ماذا يجمعني باليهود؟ أكاد لا أرى شيئاً يجمعني بنفسي»!