زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    غارة إسرائيلية على «الضاحية» تقتل 8 وتصيب 59.. وأنباء عن مقتل قيادي كبير في حزب الله    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    "الملك سلمان للإغاثة" يوزع 25.000 ربطة خبز للأسر اللاجئة في شمال لبنان    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    التزامات المقاولين    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفاهيم الإسلام بين التفسير والتأويل . عندما يرتب الناس الصواب على الإخلاص
نشر في الحياة يوم 19 - 12 - 1999

من القيم الشائعة في المجتمعات الإسلامية، إهمال فن حساب الخسارة والنجاح، الذي يحيل كثيراً من الجهود والتضحيات، إلى هباء وغثاء منثور. وزاد الطين بلة أن هذه القطيعة الفظيعة، صكت مصطلحاتها، في ظلال التراث الديني أثناء عصور الانحدار، وقدمت على أنها سنة مهدية. فاكتسبت صدقية في الوجدان الشعبي، بصفتها مفهوماً دينياً. وهي في حقيقتها خليط من الأعراف والتقاليد المتخلفة، صيغ لها تبرير ديني، فتشكلت كالصدأ والغبار، فوق الجوهر النفيس.
ولا بد من إزالة الصدأ والغبار، عن مفاهيم القرآن والسنة، لأن النقلة من السقوط إلى النهضة، لا تحدث إلا بإتقان فن النجاح، الذي يعتمد البصيرة في فهم النص الديني، لتشكيل المفاهيم الشرعية العملية، التي تبني قيم الحيوية والإدراك، من أجل فهم روح العصر، والواقعية في علاج معضلاته. ولكي تقترن النيات الحسنة، بالأعمال الصالحة، فتفضي البدايات السديدة، إلى الخواتيم الرشيدة. فإذا كانت النية حسنة، والنتيجة حسنة، فهذا نجاح يؤذن بحسن الخاتمة الفردي والجمعي، وإذا كانت النية طيبة والنتيجة سيئة، فهذا إخفاق يؤذن بسوء الخاتمة الجمعي.
- 1 -
من أسباب الخلل في القيم، ذلك الربط المحكم بين الصلاح والصواب، الذي استقر في العقول والنفوس، لأن هذا الربط النفسي، أدى إلى حصر طريق التعرف على صواب الأعمال، بصلاح الأشخاص، لا بصحة الدليل والبرهان.
أجل لصلاح الشخص وإخلاصه، أثر كبير في الحساب الأخروي، ولكنه ليس حاسماً حاكماً، فالناس يحاسبون على أعمالهم ونياتهم معاً، ف"الأعمال بالنيات" فيها، ولكل امرئ ما نوى، فإذا قام الإنسان بعمل خيري، ولكنه استخدمه أداة لمكسب شخصي، فليس له ثواب. هذا في الدار الآخرة، لأن صاحب النية الطيبة، يثاب بحسنة واحدة، ولكنه يثاب بالعمل الطيب عشر حسنات، كما أن الله أعفى صاحب النية السيئة من العقاب، إذا لم يرتكب ما نوى. فإن ارتكبه كتبت عليه سيئة واحدة. هذا في الحساب الأخروي.
والحساب الأخروي حساب فردي، أي أن كل إنسان يحاسب عما جنت يداه فحسب، أما في الحساب الدنيوي، فإن المسألة تنتقل من الفردية إلى الجماعية، ولذلك يكون التركيز على نتائج الأعمال فحسب، أي أن الناتج الاقتصادي والعمراني، لا يتم تقييمه على مقياس نية الإنسان، بل على نتيجة العمل نفسه، فالعمل المصيب هو المفيد النافع الناجح، مهما كانت نية صاحبه. وهذا يدعو إلى تأمل العلاقة بين النية والنتيجة، إذ تبدو في أربع صور:
أ- الأولى النموذجية، التي يتواكب فيها الإخلاص والصواب: فتؤدي النية الطيبة إلى العمل الناجح. وهذا هو النموذج الأعلى، الذي يقوم عليه كيان الأمة، ويتم به صلاح معاش الجماعة ومعادها، وترتبط به في الإسلام فكرة التقدم الروحي والأخلاقي، بالتقدم الاجتماعي والعمراني، كما قال تعالى "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة، ولنجزينّهم أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون" النحل : 97.
ب- الصورة الثانية: صلاح النية وفساد العمل: وهذه الصورة قد يحقق صاحبها أجراً في الآخرة، لأنه حاول الصواب، ولكنه لا يحقق حسنة في الحياة الدنيا، لأنه أخطأ الطريق، وهذه الصورة ظاهرة أحيانا، في سلوك المسلمين، ولا سيما في سلوك من يعتبرون متدينين أو صالحين، وكثير من الأعمال المخفقة، يتم تبريرها وتسويغها، عبر الحديث عن سلامة النية، وإخلاص الشخص وتدينه، وكثير منا يبرر الخطأ والغلط، بسلامة المقصد والغرض، حتى كدنا نصبح مجتمعات نيات وعواطف خيرة، لا تركز على النتائج والأعمال الطيبة.
وهذا المفهوم يؤدي إلى خلل سيئ فظيع، لأن الاختلال يبدأ في الأمم، عندما يشعر الأفراد، ولا سيما النخبة، أن عملهم صالح لأنهم مخلصون، وأن فكرهم نير صحيح، لأنهم اجتهدوا فيعتمدون على مسألة الضمير والاجتهاد، من دون أن يكون للضمير والاجتهاد، ضوابط علمية عملية منهجية تقاس بالمحصول والجدوى.
ما أفظع أن يكون المخلصون المتحمسون، غير مدركين لأساليب النجاح والصواب. لأن الناس اعتادوا أن يربطوا بين الإخلاص والصواب، ربطاً لا يكاد ينفصم، فكم من صالح بنفسه، غر الناس بتهجده وورعه، أو كثرة حفظه ونقله، أو صدقه وطيبته، فصار الناس حواليه، كالمريدين الإمعيين بين يدي الصوفي، الذي يزعم أنه ملهم، أو كالميت بين أنامل الغاسل. وقد توهموا أن صلاح نفسه أو إخلاصه، يؤهله لسلامة التفكير وسداد التدبير، أو أنه بقدرته البلاغية، قدير على الرأي الثاقب. أو أنه بجاذبيته الشخصية، الكارزمية قدير على التفكير العميق. وظنوا أنه أحرى بالنجاح، المهني أو الفكري أو الاجتماعي، فوالى الناس صلاحه الشخصي، وانجذبوا إلى حقله المغناطيسي، فلما أخطأ العمل والوا عمله الخاطئ، فالتبست عليهم المبادئ بالأشخاص.
وهذا النموذج أخطر النماذج في مسيرة الإصلاح، لأن الرأي العام غير المستنير، يغتر بها حينا، ويغرها حينا آخر، فيتبادلان الانخداع، ينسى الرأي العام المقلد المنساق، أن الموالاة الشرعية، إنما هي للمبادئ والبرامج والمناهج، وإنما ينالها الأشخاص بقدر التصاقهم بالصواب.
فالمؤمن الواعي يدور مع الحق حيث دار، ولا ينبغي له أن يجعل معرفة الحق مرتبطة بتقليد أحد من الناس، ولا يعني ذلك أن على الناس في كل دقيقة وجليلة، أن لا يعتمدوا على خبرة الآخرين ومعلوماتهم، ولكن يعني أن تكون فعالية الذهن حاضرة، وطلب الدليل أو البرهان عرفاً علمياً، لأن الدليل هو أساس اكتشاف الصواب.
وهذا يعني أيضا، أن تصبح محاكمة النيات إلى النتائج عرفاً اجتماعيا، لكي يصبح النقد الموضوعي سلوكاً عفوياً.
وبذلك يتكون الرأي العام المستنير، الذي يفحص جهود الأشخاص واجتهاداتهم، فيأخذ منها ويترك، فيظل مرتبطاً بالمبادئ والأفكار، فإذا حاد الاشخاص عنها، أو ماتوا أو ضعفوا، ظل مستمسكا بالمبادئ وحدها. وأخذ صواب الأشخاص وترك خطأهم، لكي ترتبط الموالاة بالصواب، وتدور معه حيث دار.
والتعويل على حسن النية وحده، أو إعطاؤها دوراً أكبر من أثرها، فهم سيئ للدين، لأن العمل الصالح في الدنيا والآخرة، يشترط فيه الإخلاص الذاتي والصواب الموضوعي معاً، وقد ورد هذا الاشتراط أو الاقتران في القرآن، حيث يأتي الربط بين "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" سورة العصر:3، ففي مئات الآيات يقترن العمل الصالح بالإيمان، بصورة لافتة. أي أن الإسلام ليس إيماناً مجرداً عن العمل، ولا عملاً مجرداً عن الصلاح. فما مفهوم الصلاح إذن؟ أليس مفهوماً عملياً، ينبثق من فكرة التقدم في الإسلام، بصفته مشروعاً للصلاح الروحي والأخلاقي، يفضي إلى الصلاح الاجتماعي والعمراني، ويرتبط بالنتيجة، وهو إذن المعرفة الموضوعية للأشياء، وإدراك سنن التقدم والهبوط الاجتماعية، وهو إذن "السعي الموضوعي، في طلب الأسباب وحسن الأداء والعمل" عبدالحميد أبو سليمان: أزمة العقل المسلم: 115.
من أجل ذلك فإن مفهوم حسن النية، بصفته دلالة على الإيمان، لا يكفي فيه الاجتهاد الخاطئ، فالإيمان ليس حرارة عقيدة من دون إنارة، الحرارة والإنارة هما الإيمان المتكامل، فإذا كان الإيمان من دون حرارة صارت الأخلاق باردة راكدة، فانتشرت أخلاق الضعف.
وإذا كانت الحرارة من دون استنارة، صارت الأخلاق جرأة وقوة، قد تفرز العنجهية والتهور. وانفصامهما تدمير لقوة العقل وقوة الفعل معاً.
وما تقهقرت الأمة الإسلامية وضعفت، عبر الدهور، إلا لما انفصل الإيمان عن العمل الصالح، وانفصلت النية الطيبة عن العمل المنتج، وتناسى الرأي العام، ذلك الميثاق الغليظ، الذي فهمته الأجيال الأولى فهماً حقيقياً، فقال فيه أحدالعلماء: "الإيمان يهتف بالعمل، فإن وجده، وإن لا ارتحل" وقال آخر: "لا خير في علم يعمر بك النادي، إذا كان لا يعبر بك الوادي".
ج- الصورة الثالثة: صورة صلاح العمل وفساد الذات، أي صلاح عمل الشخص الاجتماعي، الذي لم يرتبط بصلاح سلوكه الشخصي، أو بصلاح نيته: حين يكون العمل صالحاً في الدنيا، مفيداً للجماعة والأمة، ولكن صاحبه غير نقي السيرة أو السريرة، هذا العمل قد ينفع الناس في الدنيا، التي هي مزرعة الآخرة، وإن لم ينفع صاحبه في الآخرة، إذا ساءت سريرته، ولكنه ينفعه أن حسنت السريرة ولو لم تزك السيرة، وعلى كل حال، فإن الذي يهم في المسألة الاجتماعية، هو صلاح الأعمال.
فكم أعمال جليلة، غير خالصة الدوافع؟ وعلى رغم ذلك انتفع بها البشر، على اختلاف مشاربهم، وأديانهم ولغاتهم، رغم أن الذين قاموا بها أناس لم يريدوا من ورائها إلا مجدا شخصياً، كصيت وشهرة، وغنى وثروة، ومنصب وسلطة. وهؤلاء هم الذين أشار النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أنهم يفيدون الدين، وإن كانوا مسلمين لم يريدوا ثواب الله في هذا العمل أو ذاك، كما في الحديث الشريف "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر"، بل وإن كانوا غير مسلمين، فكم شخص غير مسلم، أدى أعمالاً جليلة نفعت الأمة، كما في الرواية الأخرى للحديث "...بالرجل الكافر".
فهذا الفاجر قد يكون صادق النية في الخير، وقد يكون باحثاً عن مجد صيت أو مال، وقد يريد بعمله الذي ينفع الأمة، علواً في الأرض لنفسه، ولكنه جعل سبيل ذلك علو الأمة، هذا إذن لا يمنع من أن يكون مفيداً في ما يعمل، بل قد يكون أفيد للمسلمين، من زاهد خامل راكد.
ومثله الكافر الذي قيم الله عمله في الآخرة، بأنه "كسراب بقيعة"، لكن هذا التقييم في ميزان الآخرة، أما في الدنيا، فقد يكون عمله ماءً في أرض خصيبة.
وقد صاغ بعض الفقهاء الأقدمين، من هذا النص مبدأ إداريا فقالوا: إن الحاكم الكافر العادل، أفضل للأمة من الحاكم المسلم الجائر، لأن كفر الأول على نفسه، ولكن نفعه متعد للجماعة، وإسلام الآخر مقتصر على نفسه، أما ضرره فهو على الجماعة.
هذا الاجتهاد الشرعي مبني على قانون اجتماعي، ذكره ابن تيمية في كتاب "السياسة الشرعية" وبلوره الغساني، صاحب العسجد المسبوك، حينما تحدث عن الفساد والظلم، الذي أودى بالخلافة العباسية، فقال "الملك قد يدوم مع الكفر، ولكن لا يدوم مع الظلم" محمد الغزالي: تراثنا الفكري: 111. وهذا معنى قوله تعالى "من كان يريد حرث الدنيا، نؤته منها، وما له في الآخرة من نصيب"، فهذا الفاسق أو الكافر، أراد حرث الدنيا من مجد أو مال أو شهرة، ولكنه جعل سبيله العمل الاجتماعي.
كيف يكون الولاء والبراء إذن في ميزان الإسلام؟، هذا يعني أن لمفهوم الموالاة صورا عديدة، فهناك مولاة عملية في الدين، أي تراعي الناحية العملية، حين يوالي المسلم الأشخاص لا لصلاحهم الذاتي، بل بسبب عملهم الصالح للمجتمع.
فهي موالاة دينية للصواب العملي، مبنية على إدراك أن الولاء للإسلام يوجب الولاء للنفع، فالولاء للصالحات العمرانية يوجب الولاء للصالحين في عمارة الأرض، فهو ولاء للنجاح في العبادات العمرانية، فالقدرة على تمثيل مبادئ الدين الإدارية والاجتماعية، أساس الموالاة، العمرانية في الدين.
فهذا الناجح هو أحد أفراد الأمة الإسلامية بالمفهوم الحضاري، سواء أكان فاسقاً أم كتابياً وموالاته هي موالاة إنجاز وبرامج، فهي موالاة دينية/ دنيوية لاأخروية، ما دام العمل العمراني الصالح، داخلا في إطار العبادة .
وهي تختلف عن الموالاة الدينية الأخروية، الأولى عمادها المصلحة العامة العمرانية للمسلمين، فهي موالاة أصحاب العمل العمراني الصالح، والثانية عمادها الأخوة الإسلامية، فهي موالاة أصحاب العمل الروحي والأخلاقي الصالح.
فالولاء في الإسلام، مفهوم محوري، له صور عديدة، كمفهوم الهجر والقطيعة الدينية، ليس قالباً جامداً غير مرن، بل يدور مع مصلحة الأمة حيث دارت، وهو مسألة اجتهاد، حسب الأحوال. وليس ولاءً مقصوراً على ذوي الإيمان الصحيح، والملتزمين بالواجبات الروحية والأخلاقية، من دون رؤية مدى سلامة فهمهم للدين، ولا ولاوءً أعمى للأعمال، من دون رؤية مدى تحقيقها لمقاصد الشريعة. وكم خسرت الأمة منذ الغفلة عن هذا المفهوم، التي ظهرت في الثقافة الإسلامية العباسية. وأنتجت عقلية القطيع، التي لا تسأل عن الدليل، بل يكفي أن يتقدمها شخص أو قميص، لتنطلق من دون بصيرة ولا حسبان للنتائج، وتقسم الأشياء قسمة ثنائية، إلى الأسود الحالك والأبيض الناصع.
د- الصورة الرابعة: هي فساد النية والعمل معاً، وهذا شأن كثير من المفسدين في الأرض، الذين يقصدون بعملهم أو بعلمهم، سبيل الإضلال والإفساد، أو الطغيان والاستبداد، من الذين يعملون الشر والجور والقهر، وهم يعلمون أنهم ضالون مضلون. وأنهم قد باعوا الآخرة بالدنيا، فجرتهم الشهوات وروح الأنانية الجامحة، إلى المظالم والفواحش، وعند ذلك أوّلوا المبادئ والمثل والأديان والأخلاق، فجرتهم الشهوات إلى الشبهات، أي أن الأخلاق صارت مسألة نسبية، متأثرة بالرغبات والأهواء.
- 2 -
الاعتداد بالنتيجة يحرر الناس من الأوهام:
ينبني على هذا المفهوم أمور عملية، تحتاج إلى تذكرة، منها أن يتخلص ذوو الحماسة الدينية، من تقييم الأعمال على معيار النيات، الذي قد يتمحور شكّاً في الآخرين، وجحوداً لفضل الخصوم والمخالفين، واعتبار الشخص متهما حتى تثبت براءته، والرغبة في فحص النيات قبل الأعمال، وإعطاء شهادات بالبراءة والاتهام، والنفاق والصلاح، أوعلى تتبع العورات، والشك في الطويات، أوالظن بأن خدمة الدين، مقصورة على من صحّت نيته، واستقام سلوكه الشخصي - وفق تقييم ذاتي أو موضوعي -، وهو وهم ينتج عن نقص الخبرة بالحياة الاجتماعية، يضرب فيه الناس حقائق علوم الاجتماع بتأويل بعيد لنصوص الشريعة، وهو عين الغفلة عن روح الشريعة، وهو في النهاية ضرب لقيم الدين بنصوصه، لأن الهوى يجر إلى التأويل، والتأويل يفضي إلى التعطيل.
ومن أجل ذلك ألاَ ينبغي أن يكون ضمن الخطاب الإصلاحي، لمشروع النهضة الإسلامية، مبدأ "فتش عن النتيجة"، بدلا من "فتش عن النية"، ومبدأ "حاكم النية إلى النتيجة".
فرُبّ ملتزم متدين أسهم في ضعف الأمة، لأنه جهل روح الدين، ورُبّ إنسان غير متدين، أو غير ملتزم، أو مبتدع أو فاجر أو كافر، أسهم في نفع الأمة، بمشروعات وأعمال ناجحة، لأن المشاريع والأعمال الاجتماعية، لا تقيّم بالنيات أو الصلاح الذاتي أو الخاص أو الجهد المبذول، بل تقيّم بالثمرة والمحصول، أي بالصلاح الموضوعي.
ولجلاء هذا المعنى فائدة أخرى مهمة، إذ ينبه الذين يحتكرون الصواب، معتمدين على تصورهم -بصرف النظر على مستوى الصحة والدقة- بأن نياتهم أفضل من نيات غيرهم. إلى أن المهم هو "فتش عن النتيجة"، ويصبح الصواب مدار تقدير الأعمال والأشخاص، ويتخلص الناس من أسلوب التبرير والتعذير، الذي عبث بقيم الأمة، وغيبها عن فهم منهج القرآن.
وذلك أيضاً يخلص الناس، من عقد التمركز حول الذات، أو حول المذهب أو الطائفة، الذي شغل الفكر الديني منذ العصر العباسي، بالدفاع عن المذاهب والأشخاص، بدلا من الأفكار والمبادئ، وبالصراع على الأموات بدلاً من الأحياء، وبشخصنة المفاهيم بدلاً من موضعتها، وحصر طريق الإصلاح في القرن الخامس عشر، بمذاهب وأشخاص وحركات، كانت قبل قرون. وهذا تناسٍ ناتج عن إغفال بدائة اجتماعية، تفيد بأن كل الأشخاص والمذاهب الماضية، التي جاءت بعد عصر الراشدين، إنما هي حركات اجتماعية، أي أنها صاغت مذاهبها وأفكارها، إجابات لأسئلة محددة، وفق المعطيات والمشاكل والاحتياجات، فهي إذن تاريخية. والتاريخ لا يمكن إعادة إنتاجه. فلا يمكن فصلها عن مدارها الزماني والمكاني.
صيغ هذا المفهوم، ككثير من المفاهيم الاجتماعية الدينية، التي شاعت في ثقافات ما بعد الراشدين، وتلك ثقافات فرعية، ليست هي الثقافة الاسلامية الأساسية، التي يلزم البناء عليها، وإذا لم يُصَغْ الخطاب الإسلامي الحديث، على إدراك معرفي صحيح، للحقائق الاجتماعية والنفسية، ويراعي القيمة النفعية في الأفكار والأعمال، فلن نستطيع فهم ما يجابهنا من مشكلات وتحديات، ولن نستطيع إذن بناء المفاهيم القادرة، على إفراز النظريات والبرامج والآليات، التي تطاول التحدي الحضاري الماثل.
* أكاديمي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.