يجب أن نتوقف عن تقديم القرآن الكريم على أنه ثقافة تعد الإنسان للدار الآخرة وحدها، وتغفل دوره في تفجير الطاقات والتحريك للسباق الحضاري، ومحوريته في إنتاج قيم العمل والتفوق والنجاح. فينبغي أن يتعلم القارئ كيف يفتح كتاب الكون إذا فتح كتاب الله، لكي يفهم الكون والحياة والإنسان معا، والتجزيء والقطيعة المعرفية بداية الخلل. وإصلاح الخلل يبدأ بتذكير القارئ بمقاصد الدين الذي يريد أن يكون بجانب منارة كل مسجد مدخنة مصنع أو مضخة مزرعة، وبجانب كل حلقة تعليم القرآن ورشة حرف يدوية ومهنية وجمعية اجتماعية خيرية. وهذا يدعو إلى الوقوف على الآيات والأحاديث التي تحث على النظر في الكون، واستثمار ما سخر الله فيه من قوى لمصلحة الإنسان المؤمن. كآية "إنما يخشى الله من عباده العلماء" التي جاءت في مقام التذكير بآيات الله في حقل النبات والجغرافية والحيوان والمناخ، والوقوف على فضل الصناعة والإتقان والإدارة وسائر القيم العملية، مثل آيات "إن خير من استأجرت القوي الأمين"، "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"... بالتركيز على مواقف تنشيط الإرادة، وبعث روح الحيوية والنجاح، وإطلاق إرادة التفوق، والتذكير المتجدد بأن من خالف قوانين النهوض الاجتماعية التي أوجدها الله فإن له مصيرين قاتمين: مصير دنيوي بالذوبان والانهيار والانقراض، ومصير أخروي بالعذاب والهلاك. إعادة الاعتبار للعقلانية "درء التعارض بين العقل والنقل" الذي جعله ابن تيمية عنوان كتاب له عن هذا الموضوع، لنشر الفلسفة القرآنية، بدلاً من وضع الفلسفة مضادة للدين، والعقلانية مضادة للسنة، والعلم في محاربة الإيمان. فالعلم والعقل والفلسفة كلها تدعو إلى الإيمان. ولا دين بلا عقلانية، ولا عقلانية بلا دين. وينبغي أن يتحرر المسلم الملتزم من الخوف المرضي الذي ينتابه إذا سمع بالعقلانية أو بالفلسفة. فتراه مستفزا قواه الانفعالية، وكأنه رأى حية أو عقرباً. فهناك تلاق دائم بين العقل والنقل، لأن العقل السليم الصحيح لا يعارض النص الصحيح الصريح، فالمطلوب اليوم "عقلانية قرءانية" لا إلحادية ولا مادية. وإعادة العقلانية القرآنية شرط ضروري لبناء الحضارة، لتصحيح كثير من القيم السلبية التي بررت دينياً بإعادة تقديم القيم الإسلامية صافية نقية مما علق بها، من صدأ الزمان وغبار المكان. فمن الضروري مثلاً تصحيح مفهوم الزهد بأنه الزهد في ثواب الدنيا، وليس زهد العزلة والتفرغ للذات. وتصحيح مفهوم المتدين المتعبد بأنه المتبتل في محراب الإبداع والإنجاز، في المجال التقني والعلم التطبيقي وخدمة الناس، وليس الذي لزم صومعة وبرجاً عاجياً ورهبانية. وربط صلاح النية الشرعي بصحة النتائج، فالأعمال بالنيات في حساب الآخرة، ولكنها في حساب الحياة الدنيا بالنتائج وحدها. وهي في حساب الدين إذن بالنيات والنتائج معا، ما دام الدين خطابا دنيويا أخرويا، وربط السعي بالجدوى، وربط العمل بالاتقان. وربط نوافل العبادة بأولوية ما ينفع الجماعة، على ما يقتصر على الأفراد. وإدراك أن عبودية البشر لخالقهم تعني بصورة آلية حرية الاختيار والتحرر من الأوهام والتقاليد. ولا يتم تفكيك القيم السلبية التي حملها التراث، وإعادة تركيب القيم الإيجابية، إلا في جو حر يسمح بالتفكير والحوار والنقاش، ويفسح المجال لكي "يعقل" الناس مقاصد التشريع، من أجل هذا لا بد من تصحيح العلاقة بين الدين والعقلانية وبين الدين والفلسفة، فليس الاسلام عدواً للعقلانية ولا مضاداً للفلسفة، ولكن للإسلام عقلانيته التي تختلف عن العقلانية الأوروبية وغيرها، وللإسلام فلسفته التي تختلف عن الفلسفات اليونانية وغيرها. إعادة الاعتبار إلى علماء الكون والحياة يجب إدراك مفهوم الثقافة القرآنية والدينية الشامل، فقد مرت على المسلمين قرون عدة، ابتعدوا فيها عن المعاني القرآنية، "فقست قلوبهم" لما "طال عليهم الأمد"، ففهموا القرآن وفق الثقافة الشعبية السائدة. فأصبح مصطلح العلم إذا أطلق بالثناء القرآني ينصرف إلى علماء الشريعة بالمعنى الخاص. بيد أنه في القرآن الكريم يشمل جميع العلماء في التخصصات كافة، ونجد نموذج ذلك في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى "الذي خلق سبع سماوات طباقاً، ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور؟". فالعالم الذي يرجع البصر ويحدثنا عن عجائب النجوم، هو عالم الفلك وليس عالم العقيدة. وقوله "قل انظروا ماذا في السموات والأرض"، فالنظرة التحليلية إلى الأجواء والآفاق إنما يقوم بعبئها عالم الجغرافيا وعالم الطبيعة، وليس عالم العقيدة. وجاء حقل العلم الدلالي في القرآن الكريم شاملاً أنواع العلم من طبيعية وبحتة وتطبيقية وإنسانية، وبذلك فإن العالم الذي يخشى الله هو الذي يصل من خلال علمه في مجال تخصصه إلى إدراك حقيقة الدين، وإدراك دوره في الإبداع والانجاز الاجتماعي. وبناء على هذا المعنى جاء الثناء على علماء الطبيعة والجغرافية والحيوان والانسان والفلك والنبات والجيولوجيا في القرآن "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءاً، فأخرجنا به ثمرات مختلف ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر، مختلف ألوانها، وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء" فاطر 28. ومثل ذلك مفهوم الفقه الذي جاء في القرآن الكريم شاملاً، يفيد حقله الدلالي أنه إدراك المستوى الفكري من اللغة، كقوله تعالى "قالوا : يا شعيب! ما نفقه كثيراً مما تقول". وجاء بالمعنى العام بمعنى الثقافة العلمية العملية التي تورث البصيرة في الرأي والعقل الناقد الثاقب، كما في قوله تعالى "قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون". وجاء معنى الفقه في الدين شاملاً هذه المعاني، غير محصور بالدلالة على المعنى الاصلاحي، كقوله تعالى "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليتفقهوا في الدين". ولكن الثقافة السائدة قصرت الفقه على الدين، ثم عادت مرة أخرى فقصرت الدين نفسه على الشعائر، ثم عادت مرة ثالثة فقصرت الفقه، الذي هو معرفة الحكم الشرعي من دليله، على حفظ الخلاصات والأحكام، من دون اصطحاب الأدلة، كما نجد في كثير من المدونات التي يطلق عليها اسم الفقه. ومن ذلك يتبين أن أزمة التعليم الديني، بالمعنى الخاص والعام في العالم الإسلامي، إنما هي أزمة منهج، وليست في قلة الدراسين، ولا في قلة المحصول، ولا في قلة الكتب. ولم يكن جيل الصحابة أذكى من غيره، ولكنه ملك المنهج الذي يحول العلم إلى سلوك، والأفكار إلى أفعال. هذا المنهج إذا سُير عليه، سيرفع عن الأمة الشلل المنهجي الجماعي، الذي تحول فيه الأذكياء والنابغون في المجالات الإنسانية إلى ثقافة شكلانية تعتمد على الذاكرة، والمستوى اللغوي اللفظي والتكرار. المنهج المحكم يجعل الأشخاص المتوسطي القدرات، يتصرفون بذكاء اجتماعي في المواقف، تصور أن عمر بن الخطاب أو أبا بكر أو عليا عاشوا في بيئتنا، أسيكون لهم ما كان لهم من عبقرية؟ كلا والله، لأن عقم المنهج لن يخرج إلا عجزة، حتى لو كان لديهم الاستعداد الفطري، لأن عقم المنهج يقضي حتى على الاستعداد الفطري. فحيوية المنهج تحيي الأموات، وعقمه يميت الأحياء. إن منهاج التعليم عندما يبنى على وعي بالمفهوم الواسع للثقافة القرآنية، يصحح المفهوم العائم الناقص للدين الذي تقصره المجتمعات الاسلامية على مستوى السلوك، على الشعائر والأذكار الفردية، وهذا إيمان صحيح ولكنه جزء إن لم يفتقد الصحة افتقد التكامل. فالايمان الذي لم يرتبط بالمعاصرة والتجديد والحداثة أدى إلى هزيمة نكراء أمام العلمانية والليبرالية، لأن الخطاب الديني المنكمش الذي حصر الدين في الشعائر الروحية هو الذي وهب العلمانية زمام الحداثة والتجديد، عندما نكص على عقبيه وتحول دوره من دور الفعل إلى رد الفعل، ومن رد الفعل العقلاني الموضوعي إلى رد الفعل العاطفي المتوتر، ومن رد الفعل الذي يذكي التحدي إلى رد الفعل الذي يبث التردي. والإيمان الذي لم يرتبط بالعدل وسيادة القانون أدى إلى هزيمة الأمة المسلمة أمام الأمم الكافرة. والإيمان الذي لا يرتبط بحسن الإدارة واستيعاب مبادئ النجاح يؤدي إلى فشل البنك الإسلامي في الممارسة أمام البنوك الاخرى. والإيمان الذي لا يرتبط بالروح العملية المنتجة الصانعة والاقتصاد المتين يؤدي إلى هزيمة الأمة المسلمة أمام الدول التي تملك الاقتصاد القوي والإرادة الفعالة. والإيمان الذي لا يرتبط بإنتاج الأسلحة المتطورة التي تردع الأمم المعتدية سيهزم. فإذا لم نفهم الثقافة القرآنية على أنها منارة مسجد بجانبها مدخنة مصنع، فنحن في واد والثقافة القرآنية في واد آخر. الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، على الدولة الجائرة ولو كانت إسلامية، كما يقول ابن تيمية. لأن العدل هو أساس الحضارة والملك، فالعدل ينتج العلم المادي والتقني والصناعي الذي تنتصر به الدولة الكافرة على الدولة المتخلفة، ولو كانت إسلامية. والله يعز بالاقتصاد الدولة المنتجة المصدرة على الدولة المستهلكة المستوردة ولو كانت إسلامية. والله يعز الدول التي تملك الأسلحة البيولوجية والكيماوية والذرية والأسلحة المتقدمة على الدولة الإسلامية التي تحارب بالسلاح التقليدي، كما قال أحد القادة العسكريين عندما سُئِل عن حرب بين فريقين: أيهما ينصره الله؟ فقال: إن الله سينصر من يملك طائرات ودبابات على من لا يملكها. إن الاقتصار على الجهاد الروحي والحماسة والدعاء وتوقع نزول المعجزات والكرامات، جهل بروح الدين، وهروب من مشقة مواجهة المشكلة، يفترض فيه أصحابه أنهم حريون بالكرامات ليعفوا أنفسهم من الأدوار الصعبة. ومن أجل ذلك لا بد من إدراك مسألة مهمة جداً وهي التفريق بين مقاصد الدين وقطعياته بصفتها نظاما مقدساً يجب الإيمان به، وبين فهمنا لها بصفة هذا الفهم اجتهاداً بشريا. ويعني ذلك معرفة أن صيدلية الثقافة القرآنية فيها علاج لكل داء، وصلاح لكل زمان ومكان، ولكن المشكلة في توافر الطبيب الذي يصف الوصفة، وفي توافر الصيدلي الذي يرتب الدواء. ومن أجل ذلك ينبغي الأخذ من الصيدلية بقدر ما يعالج الداء، مع الرفق والتدرج. فشأن المريض أن يتم علاجه شيئاً فشيئاً، حتى يمن الله عليه بالشفاء. ولكل مرض علاج، فإذا كانت المشكلة هي الشرك، فالعلاج هو التوحيد. وإذا كان الداء ركود الذهن فالعلاج هو إنتاج هورمون الحيوية والعقلانية والروح العملية. وإذا كان العدو يحارب بسلاح الحديد فجهاده بالحديد، وإذا كان يحارب بالتقنيات الصناعية فحربه بإتقان الصناعة. هناك إذن أنماط جديدة من الجهاد في ميادين الثقافة والتربية والصناعة، وفي الزراعة والعلوم والهندسة، ونحوها وغيرها. هل تجاهد البنك الربوي بتحريم وضع المال فيه؟ هذا حل صحيح، ولكنه ناقص. هذا فقه سلبي نكوصي، لأنك زدت الملتزم الفقير فقراً فأسهمت في تهميشه باسم الدين، وحرمت المتدين الخبرة الاقتصادية وسكنته بالعلاج الدوائي، عن العلاج الوقائي. هل تجاهد الدش والقنوات الفضائية والسينما ومحلات الفيديو بالقعود في زاوية وإصدار فتاوى النفي من الجنة والرحمة؟ وقد يكون هذا اجتهاداً مشروعاً، ولكن المشكلة لم تنحل، بل زدت الملتزم عزلة عن الحياة، وجعلت الآباء يعيشون في واد، والأبناء قد سمرت أعينهم على شاشة هذا الساحر. لم لا يتبلور هذا الاجتهاد إلى جهاد، بالدعوة إلى إنشاء شركات إعلامية للانتاج السينمائي والمسرحي وإنشاء قنوات فضائية، أي محاربة الوسيلة الهابطة بوسيلة سامية؟ هل تجاهد الحانة والمبغى وقاعات القمار بتفجيرها؟ هذا فقه فوضوي خارجي فاشل، هذا استباحة للدماء والحرمات، ثم إن هذا أسلوب يائس غير منتج، يُحرق محل وتُفتح عشرات المحلات. لا بد إذن من أن يتجه الجهاد إلى حشد رأي عام يطالب بتغيير القانون الذي سمح بها. هناك فرق إذن بين فقه المكتبات وفقه الحياة، وبين فقه القرآن والسنة وفقه التراث. ومن أجل ذلك لا بد من منهج لتعليم القرآن الكريم ينتج ثقافة قرآنية، تحدو إرادة السبق والتفوق والنجاح، تفهم روح العصر وثوابته ومتغيراته، وتستوعب أسس علم النجاح، كي تتعامل مع الواقع بآليات التغيير المناسبة التي تقدر العمل بالنيات والنتائج معا، دون قفز فوق الواقع. وتعلم القرآن إذن وتعليمه إنما تتحقق الخيرية فيه بصفته منهجا للتنوير، وللتغيير والتطوير والتجديد، لتكون العزة لله وللمؤمنين. فإذا لم ينتج هذا التعليم هذه الروح الحضارية، فهنا خلل، وهنا إشارة حمراء تقول: انتبه! هناك خلل في طريقة التشغيل، راجع التجربة! كرر المحاولة! * اكاديمي سعودي.