إهمال ربط الجهد بالجدوى مسألة شائعة في سلوكنا الذي درجنا عليه، حيث تجد من يقول: اجتهدت في الأمر ونويت كذا، ولست مسؤولاً عن النتيجة. وهذا سوء فهم للدين، فالأعمال في الزراعة والإدارة وفي قاموس النجاح والإنجاز بالمقاصد والنتائج معاً، ولن تتقدم أمة، إذا كان أفرادها لا يقرنون النية بالنتيجة، والوسيلة بالهدف، والله يقول "ثم أتبع سببا" ويقول "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى" ويقول "اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون". فالمجتهد المأجور في الإسلام هو القادر على الاجتهاد في مسألة أو علم أو موقف، لأن خطأه هو غلطة الشاطر، وليس خطأ الجاهل من الذين يفسدون في الأرض، ويظنون أنفسهم من المصلحين. والقطيعة بين النية والنتيجة تنكشف في العمل العام عبثيتها، في موقف الفني غير المتدرب إذا استأجرته لإصلاح محرك سيارة أو آلة كهربائية، ووفرت له قطع الغيار المطلوبة، ثم لم يستطع إصلاح الخلل، بل أبقى العطل على ما هو عليه، أو زاد الآلة خللا، وبعد يوم من الجهد طالبك بالأجرة، أفلست أولى منه بالمطالبة بالغرامة؟ وكذلك الذي يسعى إلى الأجر، لا ينبغي أن يفهم أن الأجر نتيجة عمل آلي، يعتمد على حسن النية من دون حسن الإنتاج، فذلك تبديد للطاقة من دون جدوى. وهذا الفهم إذا شاع بين الناس علمهم الفصل بين الحياة الدنيا والعليا، والحياة الأولى والأخرى، وإذا كانت الدنيا مزرعة الأخرة، فكيف يطالب بالأجر من بذر ولم ينبت زرعه، بسبب جهله بعلم الفلاحة؟ نعم الأجر في الآخرة يعتمد على النية، ولذلك قد يؤجر المبتدع بنيته لا بعمله، كما ذكر ابن تيمية في "اقتضاء الصراط". ولكن في مجال الحياة الدنيا، التي هي مزرعة الآخرة، لا بد من التركيز على النتائج. وبعض أهل العلم يبرر الفصل الفظيع بين "الجهد" و"الجدوى"، بجهود كثير من الأنبياء الذين لم تكن جدوى عملهم المحسوسة بمستوى جهدهم. ونوح نموذج ماثل، قرابة ألف سنة لم يستطع النبي، على رغم ما له من إمكان دعوي، أن يهدي في كل سنة إنساناً. ويضربون مثلاً بالنبي الذي "يأتي ومعه الرجل والرجلان" و"النبي" الذي يأتي "وليس معه أحد" يوم القيامة. ولكن هؤلاء أنبياء بعثوا بالوحي، وحددت مهمتهم بالوحي، ووسائل عملهم بالوحي، فالقياس عليهم قياس خاطئ. والمسلم اليوم مطالب بأن يقدم إنجازه وإبداعه اللذين يسهم بهما في رقي الأمة وتحريرها من مشاريع الهيمنة والتبعية، فإذا لم يربط بين الجدوى والجهد، وبين النية والعمل فقد أهمل علم النجاح. وفي المسألة ثلاث حالات: الأولى: النجاح الدنيوي يكون بالأعمال فقط، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله لينصر هذا الدبن بالرجل الفاجر" وفي رواية "بالرجل الكافر". فهذا الرجل الكافر، لم يرد ثواب الله، ولكنه عمل عملاً ناجحاً، فانتفعت به الأمة. وكم ل "أديسون" من نفع للإنسانية، يذكره كل من أشعل شمعة. الثانية: السلامة الأخروية تكون بالنيات، فعلى النية مدار العمل، وهذا مفهوم الحديث الشريف "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو أمرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". الثالثة: التي تجمع بين النجاح في الدنيا والرفعة في الأخرى، وهي أن تؤدي النيات الحسنة إلى الأعمال الناجحة، كما أثنى الله على عباده المخلصين من "أولي الأيدى والأبصار"، عين بصيرة ويد حكيمة، لأن المؤمن إذا اجتهد فأصاب جمع بين الحسنيين: حسنى الاجتهاد، وهو النية الطيبة التي تحرز النفع، وحسنى الانتاج. فإذا كانت نيته طيبة وعمله فاسداً، فقد سلم من العقوبة الأخروية، ولكن لم يبلغ مصاف النافعين، وصلح بنفسه ولم يصلح بعمله الاجتماعي، فليس له إذن فضيلة المصلحين. الفرق بين الصحة والتمام وهذه المسألة تستدعي إدراك الفرق بين "الصحة" في العمل التي لا تكتمل بها المقاصد، و"التمام" الذي يكتمل به العمل، ويؤدي إلى النجاح. وقد فرَّق ابن تيمية رحمه الله بين مصطلح "الصحة" و"الكمال" في كتاب الإيمان، وأحسب أنه يمكن تشخيص الفكرة بأن الصحة يقابلها الفساد، وأن الكمال يقابله التجزئة والنقص والتبعيض. فالإنسان إذا أصلح أداة متعطلة أو قام بجزء من العمل، فعمله صحيح، ولكن إذا لم يكتمل العمل، لم يشتغل المولد بالصورة التي تعطي النور. فمسألة الصحة في النية لا بد أن ترتبط بصحة النتيجة، إذا درسناها في ضوء علم النجاح الذي يؤكده علينا فقه مقاصد الشريعة. والصحابة أكثر وعيا بالدين وأهدافه ووسائله، ولذلك ربطوا القراءة بالجدوى، ولم ينظروا إلى أن الإنسان ينبغي أن يجمع ويوازن بين الكثرة والجودة في القراءة، بل جعلوا الجودة هي الأساس، ولذلك قال ابن عباس "لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما، أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله هذرمة" الإحياء: 1/245، وقال أيضاً "لأن أقرأ إذا زلزت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيراً". الإحياء 1/245. ولذلك كان حفظ القرآن الكريم أيضاً ينبثق من هذا الموقف، فقد أدرك الصحابة أن حفظ القرآن على المستوى الصوتي والفكري، الذي ينتقل به من القرآن إلى الأجيال إنما هو فرض كفاية، لأن حافظه "وعاء ناقل" و"حامل علم"، ولذلك لم يذكر لنا من الذين يحفظونه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعة رجال. ولم يحفظ القرآن كاملاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عثمان وعلي وأبّي بن كعب وعبدالله بن مسعود كما ذكر الذهبي في "معرفة القراء" 1/31. ولو كان حفظ القرآن أمراً ينبغي أن تنشأ له المدارس، وتفرغ له الشبيبة، وتكرس الجهود، وتجمع له التبرعات، لما فات صاحب النبوة، ولا حملة ميراثه، فضلاً عن أن أكثر الذين يتفرغون لحفظه اليوم يحفظون من دون فهم ولا تدبر ولا تدرج، فضلاً عما يراه كل راء من ترك ارتباط القراءة بالسلوك. ولم يذكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، أنهم فرغوا مجموعة من الناس لحفظ القرآن أو لتحفيظه، ولا أن مجموعة من الناس قاموا بهذا الأمر من أنفسهم. ولذلك عندما وقعت حرب اليمامة، وقتل قراء كثيرون مِنْ مَنْ يحفظون السورة والسورتين، خشي الصحابة أن يضيع القرآن. فلجأوا إلى كتابته، بدلا من إنشاء مدارس لتحفيظ القرآن، وكانت الخطوة موفقة، حفظوا بها كتاب ربهم، وعندما وزعت الصحف على الأمصار اطمأنوا. وعندما حفظت الصحف، وتواجد عشرات القراء، تم فرض الكفاية، وقام به من يكفي. ومن أجل ذلك فإن التشجيع الذي كان عمر بن الخطاب يشجع به القراء الذين يجمعون القرآن أي يحفظونه قد توقف. فقد "كتب وإليّ العراق إلى عمر بن الخطاب يخبره أن رجالاً جمعوا كتاب الله، فكتب إليه عمر: أن افرض لهم في الديوان، فكثر من يطلب القرآن، فكتب إليه الوالي من العام القادم: إنه قد جمع القرآن سبع مئة رجل، فقال عمر: إني لأخشى أن يسرعوا في القرآن الكريم، قبل أن يتفقهوا في الدين، فكتب إليه: أن لا يعطيهم شيئاً، مخافة أن يتأولوه على غير تأويله" الفنيسان: فتح المجيد 37. وكأن عمر كان حاضرا النتائج الخطيرة، لانفصال القراءة عن الفهم، التي خرجت منها كل الفرق المنحرفة كالظاهرية والباطنية والصوفية والعقلانية التجريدية الجديدة والقديمة. فقه التوازن والأولويات ويؤخذ من صنيع عمر أن الاتجاه إلى حفظ القرآن، إذا كان المقصود به نفع الأمة، فينبغي أن يخضع للأولويات، فالبلد بحاجة إلى القارئ الحافظ، كما هو بحاجة إلى الإداري، كما هو بحاجة إلى الفني والطبيب والمهندس، والمخترع التقني والخبير الاقتصادي. والمتدين المصيب هو الذي عرف الأولويات، فليس التدين تعبيراً عاطفياً مجرداً يقذف شحنة التوتر في أي اتجاه، بل هو تعبير عقلاني يشخص انسجام الفرد في حركة المجتمع، وتأثره وتأثيره فيها، من خلال دوره، والنيات الحسنة الخيرة لا تكفي إذا لم تؤد إلى نتائج حسنة. فحفظ القرآن فرض كفاية،كحفظ التقنية والحاسوب والإنترنت، وحفظ الصناعة والاقتصاد، وحفظ الإعلام والتربية... كلها فروض كفاية، والأفضلية لما هو أولى، والأجر إذا توافرت النية الحسنة لما الناس إليه أحوج. وليس من المنطق الديني ولا من العقلانية الإسلامية، أن ينظر الناس إلى حفظ القرآن على أنه فضيلة مطلقة، من دون إدراك الحاجة والأولوية. فحفظ حصن الأمة من الانبهار الإعلامي والتربوي، ومن الاستلاب التقني والفكري اليوم أولى، لأننا إليها أحوج، وتحفيظ النساء لأسرار الطب، ولا سيما الطب العائلي والنسائي، جزء من حفظ القرآن بمعناه العام. لأننا نجد آلاف الرجال وملايين النسخ والأشرطة التي حفظ بها القرآن، ولكننا لا نجد في طب الولادة من النساء ما يكفي. أوليس من ضعف الغيرة والمروءة والدين أن يرى محرم المرأة الأطباء الرجال، وهم يطلعون على عورتها المغلظة، ويتأمل هذا المشهد بكل برود أعصاب، بل ويعتبر ذلك أمراً ضرورياً، ثم إذا قيل: إن تعليم الطب أولى من تحفيظ القرآن، قال إن فيه إختلاطاً يجعل المرأة تكشف وجهها، سبحان الله صار كشف المرأة وجهها في مكان عام كبيرة، وصارت رؤية الأطباء فروج النساء وهن عاريات في غرف الولادة، ورتقهم فتوق أرحامهن بالغرزات، أمراً مستساغاً؟ وهذا فهم للدين غريب، يذكرنا بانفصام العقلانية عن فهم الدين، وهو انفصام أدى إلى الشكلانية التي شكا منها أبو الطيب المتنبي: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم! حفظ كيان الأمة فريضة مقدمة وما دامت طاقة البشر محدودة، فلا بد من ترتيب الأولويات. وما دامت الأولويات مرتبطة بالحاجات، فينبغي تقديم الضروريات، في الجهود الدينية في مجال تحفيظ القرآن الكريم، وما فيها من جوائز لمن حفظ ثلاثين جزءاً، ولمن حفظ عشرين، ولمن حفظ عشرة، لتكون جوائز بالمستوى نفسه لمن اخترع ثلاثين اختراعاً أو عشرين أو عشرة أو واحداً، لمن أبدع في مجال دنيوي في علم تطبيقي أو بحت أو صناعي، أو في فن من الفنون العملية أو الجمالية النافعة. وإنفاق الأموال وصرف الجوائز ليس هو الأسلوب الأمثل لحفظ القرآن الكريم، لأن الأمة لا تعاني من نقص حفاظ، إنما تعاني من هجمة استعمار على المستوى الصناعي والعلمي والتقني. فمن أراد الخيرية في العلم والتعليم أدرك هذا، وإن لا فسيظل المنعزل في كهفه، يرتب العالم كما يحب، وسيظل الغزاة يدكون كهفه، وهو قائم يصلب في المحراب، يقنت ويقرأ ويحفظ. حفظ القرآن الكريم إذن بهذا المعنى فرض كفاية، كما قال السيوطي: "حفظ القرآن فرض كفاية" الاتقان 1/130. ونقل شرح معنى فرض الكفاية عن الامام الجويني، فقال "والمعنى في ]فرض الكفاية[ أن لا ينقطع عدد التواتر فيه، فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف، فإن قام بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقين، وإن لا أثم الكل" الاتقان 1/130. ونبه غيره إلى هذه المسألة، وهي أن حفظ القرآن فرض كفاية، وأن على المسلم إذن أن يقتصر في دراسة القرآن الكريم وحفظه على ما لا يصرفه عن تخصص نادر أو عمل اجتماعي مهم، لأن فرض العين على الإنسان إنما هو حفظ بضع سور أو آيات، يقيم بها صلاته، وما عدا ذلك فهو خاضع لترتيب الأولويات، ولذلك قال ابن كثير: "إن الانشغال.... بمصالح المسلمين العامة أولى"، وإن على الإنسان "أن يقتصر على قدر لا يحصل به إخلال لما هو مرصد له" الفضائل 261. وقال النووي في "الأذكار": "من كان مشغولا ب ... فصل الحكومات، أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال لما هو مرصد له ولا فوات كماله" الإتقان: 1/138. الأعمال أعلى صوتا من الأقوال ومن أجل ذلك فإن العناية بالأعمال لا الأقوال وبالممارسة لا المدارسة، وربط ذلك بالوظيفة والحاجة، وعمل ذلك عن عقل وبصيرة، هي أسلوب الصحابة في حفظ القرآن الكريم، لأنهم فهموا مناط التكليف، وأدركوا أن الحفظ وسيلة لغرض، وهو حفظ معنى القرآن من النسيان، أي حفظ كيان الأمة المقدم بداهة على حفظ القرآن. وما يحفظ القرآن إلا من أجل حفظ دين الأمة، الذي لا ينحفظ إلا بحفظ قيمها المادية والمعنوية. فحفظ الإنسان للقرآن له ثلاثة معان إذن: حفظ الصوت اللساني، وحفظ المعنى الذهني، وحفظ العمل الحركي، والمعنى الأخير هو الذي ورد فيه الوعيد على النسيان "وكذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى" أي كما قال الغزالي: "تركتها ولم تنظر إليها، ولم تعبأ بها" الإحياء : 254. هكذا ينبغي أن يحفظ القرآن الكريم، وهكذا حفظ الصحابة بالأمس، كما قال الغزالي "وبهذا كان شغل الصحابة رضي الله عنهم في الأحوال والأعمال، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ]حوالي مئة وعشرين ألفا[ من الصحابة، لم يحفظ القرآن منهم إلا ستة اختلف في اثنين منهم، وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين، وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم" الإحياء: 1/253. ولا عجب أن ينهض الجيل الأول وينتصر ويتمدد في الآفاق، وأن ننحسر ونضعف ونتلاشى في الكهوف، لأن الفرق هو المنهج التعليمي، الذي بسببه تعلو الأمم أو تهبط. منهج الصحابة كان إيمانا عقلانيا عمليا حركيا، ومنهجنا إيمان صوفي شكلاني سكوني. * أكاديمي سعودي