- 1 - رأيتني على رصيف المحطة، وهو على الرصيف الآخر يمشي وحيداً في غبشة المغيب، رأيت ظهره، وعرفته من مشيته، وقلت لنفسي: هذا كتفه. وأسرعت حتى وازيته، كان وجهه ملثماً بشال من صوف أبيض، ناديت عليه: جدي. لم يلتفت إليّ، ناديت: جدي. وقف فجأة، ثم حملق فيّ طويلاً، سألته: إلى أين؟ لكنه لم يرد، وصار وجهه - على رغم المسافة بين الرصيفين - يكبر، ويكبر حتى اقترب مني تماماً. - 2 - عقدت حقيبتي، وعدت الى البلد مساءً. ما إن طرقت الباب حتى خرجت أختي وأخبرتني أنه مات عصر هذا اليوم، وأنهم نادوا عليه في المساجد بعد أذان المغرب. رميت لها الحقيبة وعدت أجري الى داره. - 3 - كان الرجال مجتمعين تحت السنطة، لم اسلم على أحد، اندفعت الى الداخل، فتلقفتني الخالة وأدخلتني حجرتها، سألتها عن أمي قالت: هناك. وأشارت إلى الحجرة المقابلة حيث النسوة قابعات حول الجد المسجى تحت لحاف قديم. حاولت أن أبكي، لكني عجزت، قلت خجلان من نفسي: هذا جدي الحبيب يموت فكيف لا أبكي. - 4 - في أواخر أيامه شحّ نظره، وصارت له عصا يستند عليها، ضموا له كنبتين تحت النافذة المفتوحة على الشارع ورفعوه من حصير الارض الذي يوجع عظامه، وأحاطوا جذعه بالمساند. وكنت - بعد كل مغرب - اشتري باكو المعسل، وأدخل عليه، كان يحفظ مواعيدي، يلتفت اليّ - وهو لا يراني - ويهتف - كطفل - باسمي، فأرد عليه: أنا. وتكون الخالة مفترشة الأرض تحت قدميه، أزود شعلة المصباح المعلق على الجدار، وتهم هي بسحب الموقد من تحت الكنبة ومعه الصينية عليها عدة الشاي، تدلق الكاز على الكوالح، وتشعل ناراً صغيرة، تسوي بها الشاي، وتدفن البقية تحت الرماد: لنستخدم جذواته في رص الجوزة التي أقوم بتغيير مائها من الصنبور القريب من الباب الكبير. - 5 - من مكاني رأيت - خلل الباب الموارب - الخالة تعبر الصالة لتدخل وسط النسوة، وتميل على أذن أمي الجالسة بالقرب من رأس أبيها، قامت ساندة يدها على الحائط ودخلت عليّ الحجرة تتلمسني في ظلمتها، فارتبكت، واخفيت وجهي بين كفي، وخفت أن تكشف تحجر دموعي، جمعتني بين يديها، ونهنهت جسمي فوق صدرها متظاهراً بالبكاء حتى هدهدتني: سألني عليك أكثر من مرة. ورأيت دمعتها تلمع في الضوء الساقط من الخارج، وقالت: دعا لك في آخر نفس. وضممتها بشدة، وأنا أحاول البكاء. * كاتب مصري.