غرفتي فوق السطح، تشغل ركناً من الجانب الأيمن، تطل على رأس السلم، الحجرة الأخرى بالجانب الأيسر كانت خالية ثم سكنت في غيبتي بالعمل. رجل عجوز وفتاة في الثامنة. باب الغرفة كان مغلقاً في عودتي، وعلى عتبته حذاء وصندل صغير، الحذاء يشبه صاحبه الذي لم أره بعد، متآكل كالح وبه مزق من الجانب حيث الإصبع الصغير، الصندل جديد برباط من الخلف يزهو بلمعته في ضوء الشمس. رأيتهما وقت الغروب، العجوز انحنى ليغلق الباب بالمفتاح، ينظر ويتحسس بيده، ويضل المفتاح طريقه، أخذته البنت منه ودسته في الفتحة، سمعت من مكاني التكتين، أعادت له المفتاح. مشيته بطيئة، وكان يجنح أحياناً بعيداً عن البنت فتعيده إلى جوارها، يحمل بيده عوداً داخل كيس قماش، مرّا بي، ربما لم يرني، وربما أحس بوجودي وحياني برأسه أو يده ولم أنتبه، رددت على تحيته التي لم أرها، البنت ترمقني في فضول، تتهيأ قسمات وجهها الجميل للابتسام ولا تبتسم. عرفت فيما بعد أنه جدها، تمسك يده وينزلان السلم. تذكرني بابنتي التي لم أعد أراها منذ انفصلت عني أمها وأقامت عند أهلها. عاد العجوز وحفيدته في وقت متأخر، كنت نائماً، لم توقظني أقدامهما وهما يصعدان السلم. رأيت أثناء خروجي للعمل في الصباح باب غرفتهما مغلقاً، والحذاء والصندل متجاوران أمام العتبة. تناولت غذائي قبل أن أعود للغرفة. سمكاً مقلياً. وحملت ما تبقى للعشاء. رأيت باب غرفة العجوز موارباً والبنت تلعب في الظل أمامها. كانت رسمت بقطعة جير على الأرض ستة مربعات متجاورة، تحجل داخلها دافعة بقدمها قطعة بلاط مسطحة، وتهلل عندما تفوز، تصفق بيديها وتقفز وتدور حول نفسها. لمحتني فتوقفت تنظر نحوي، أشرت لها أن تأتي. فجاءت. وقفت بجواري خارج الغرفة، مالت ونظرت داخلها. قالت: احنا كمان عندنا سرير ودولاب. نظرتْ مرة أخرى: وعندنا برضه كرسي وترابيزة. عندك اتنين؟ لوحدك. ازاي؟ - يمكن يجي ضيف. - وبيجي لك ضيوف؟ - أوقات. - وتعمل لهم شاي؟ - طبعاً. - وتعرف تعمله؟ - أعرف. - وأنا بعرف. وأطبخ كمان. - تطبخي إيه؟ - رز، وبامية. جدي يحبها قوي. يا فريدة اطبخي بامية. - وجدك اسمه إيه؟ - برهوم. وضحكت. - بتضحكي ليه؟ - اسمه الحقيقي إبراهيم. الزباين سموه برهوم. ينادوه. برهوم غني حاجة لأم كلثوم. ويغني. - وأنت بتعرفي تغني؟ - آه. وأرقص. - بتغني إيه؟ - كل اللى بيغنيه جدي، ولما يكون صوته مبحوح أغني مكانه. هو يضرب العود وأنا أغني. - وبابا وماما فين؟ - موش عارفة. - يعني إيه موش عارفة؟ - جدي قال لي ماقولش حاجة لأي واحد. - وأنت مع جدك من زمان؟ - موش عارفة. البنت تتكتم حكايتها. لن أخرج منها بشيء. دخلت الغرفة وعدت بعروسة كبيرة من القماش كانت لابنتي: خدي. - الله. عروسة. حلوة قوي. قفزت فرحاً واحتضنت العروسة ودارت بها: دي ليّ. - آه لك. - متشكرة يا عمو. انت بهدلتها. حاسرح شعرها وأنظفه وأغسل فستانها. اسمها إيه؟ - اختاري أنت لها اسماً. - ديدي. شوفت واحدة زيها في محل وسألت عن اسمها. جرت نحو غرفتها، واختفت داخلها، بعد قليل سمعت صوت غنائها للعروس. ورأيتها قادمة تحملها تحت ذراعيها، وجهها حزين، توشك على البكاء. مدت العروسة لي: خد. موش حاخدها. - ليه يا فريدة؟ - جدي بيقول إنك جبتها لواحدة غيري موش ليّ. انحنيت مقترباً بوجهي منها: - أبداً يا فريدة. أنا أول ما شوفتك لقيتك حلوة. وقلت لابد أشتري لك عروسة. رفعت وجهها ونظرت في عيني: - طيب احلف. وحلفت. استدارت جرياً إلى غرفتها، بعدها سمعت غناءها تصاحبه دندنة على العود. يحيطهما غموض لم أتعوده، وعاتبت نفسي لخواطري التي كانت تحلق حولها. قلت لا بحث ولا تقصي، سأتقبلهما كما هما وأستريح، وأترك مشاعري تأخذ مجراها. * مقطع من رواية «غرف للإيجار» التي تصدر قريباً عن دار الآداب