لم يحصل قط أن وضع زعيم سياسي مصيره ومستقبله بيد أعدائه، مثلما فعل الوزير الأول في اقليم ايرلندا الشمالية الستر وزعيم حزب "الستر الاتحادي" البروتستانتي ديفيد تريمبل ولعله مناخ السلام هو الذي دفع تريمبل للموافقة على هذا المصير، عندما سلم في 27 تشرين الثاني نوفمبر الفائت أعضاء مجلس حزبه نص استقالته من زعامة الحزب اذا لم تبدأ منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي الكاثوليكية المسلحة نزع أسلحتها في شهر شباط فبراير عام 2000. تريمبل غامر بهذا التعهد أمام الهيئة الحاكمة في حزبه لاقناعهم بالموافقة الكاملة على عملية السلام حسب بنود اتفاقية "الجمعة العظيمة"، وعلى السماح له بتشكيل الادارة المحلية للاقليم التي يشترك فيها ممثلان عن حزب "شين فين"، الجناح السياسي للجيش الجمهوري. والنتيجة جاءت في النهاية لصالح تريمبل بغالبية 480 صوتاً مقابل 349 عارضوا التسوية المطروحة. غالبية 31 صوتاً ليست كبيرة ولكنها دستورياً كانت كافية كي يقوم تريمبل بالخطوات التنفيذية وتشكيل الحكومة المحلية التي تدير شؤون الستر منذ الثلاثين من تشرين الثاني نوفمبر الماضي. استمر تريمبل بلعبته الهادئة والمحسوبة حتى آخر لحظة معبراً في ذلك عن طبيعته وواقعيته وقدرته على التماسك حتى في أحلك الظروف. فعندما أعلن في السادس عشر من تشرين الأول اكتوبر عام 1998 عن فوزه الى جانب زعيم حزب العمال والديموقراطي الاجتماعي الايرلندي الكاثوليكي جون هيوم بجائزة نوبل للسلام، كان تريمبل 54 سنة يرقد في نوم عميق في أحد فنادق مدينة دينفر الأميركية أثناء زيارته الى الولاياتالمتحدة سعياً وراء جلب الاستثمارات الى ايرلندا الشمالية. وكان تريمبل قد أوصى مساعديه تلك الليلة بعدم إيقاظه لأي سبب من الأسباب. ولكن في صباح اليوم التالي وبعد أن أبلغ النبأ السعيد التقى مع الصحافيين وأعلن أن الجائزة "سابقة لأوانها"، والطريق الى السلام "لا يزال شائكاً وطويلاً". رد الفعل هذا يعكس مقدار الحذر الفطري الكبير لدى تريمبل الذي عبر عنه في كلمة ألقاها أثناء قبوله الجائزة في أوسلو متحدياً خصومه الجمهوريين بأن يؤكدوا انهم "يحتسون فعلا من المياه الصافية من ساقية الديموقراطية. أو... من ساقية الفاشية المظلمة". لم تكن لدى تريمبل أي اشكالية في التعامل مع حزب هيوم على رغم أن مقره هو لندنديري الكاثوليكية، فهذا الحزب يمثل "الوطنيين" وهو معترف به من قبل المؤسسة البريطانية وينتخب ممثلين له في مجلس العموم البريطاني، مثله في ذلك مثل حزب "الستر الاتحادي". مصير عملية السلام كان يعتمد على قدرة هذا المحامي الأكاديمي باقناع مجلس حزبه تغيير سياسة الحزب والموافقة على المشاركة في الحكم المحلي مع حزب "شين فين"، حتى قبل أن تعلن منظمة الجيش الجمهوري عن موافقتها على نزع الأسلحة. ما كان لتريمبل أن يغامر بهذه البراءة لو لم تكن بحوزته ضمانات من نوع ما تكفل بدء عملية نزع السلاح الجمهوري، أو التعهد بذلك، في وقت قريب. مشكلة تريمبل أنه يتعامل مع حزب بروتستانتي فيه الكثير من القوى المحافظة التي تفضل أن تتجنب الحوار - دعك من المشاركة في الحكم - مع الكاثوليك لأي غرض من الأغراض. فمجلس حزب "الستر الاتحادي" يتكون من نواب في مجلس العموم البريطاني وروابط الدوائر الانتخابية في الاقليم ومنظمات الشباب والمرأة وجمعية "نظام الأورانج" Orange Order. هذه الجمعية كشافية الطابع وشوفينية الثقافة، تنظيم مسيرات سنوية تخترق مناطق الكاثوليك في بلفاست لعناصرها الذين يرتدون أزياء برتقالية اللون تماثل أزياء جنود البروتستانت الذين انتصروا على الكاثوليك قبل ستة قرون، وهم في طريقهم الى الكنيسة للصلاة احتفالاً بذلك النصر. ما فعله تريمبل في اجتماع مجلس حزبه الحاسم هو إقناع هذا الخليط العجيب من أعضاء المجلس التخلي عن المبادئ من أجل البراغماتية بابلاغهم انه على ثقة، هو والوسيط الأميركي السناتور السابق جورج ميتشيل، ان عملية نزع السلاح ستتم باشراف لجنة مستقلة برئاسة الجنرال الكندي جون دي شيستلان. في هذه الاثناء كان زعيم "شين فين" جيري آدامز ونائبه مارتن ماكغينيز الذي عين وزيراً للتعليم في حكومة الاقليم، يرددان ان اتفاقية "الجمعة العظيمة" لا تحتوي على شرط نزع السلاح قبل الانضمام الى الحكومة المحلية. وهذا صحيح اذ أن الاتفاقية خلت من أي اشارة الى جدول زمني، أو الى شكل تنفيذ العملية، كما أنها لم تحتو على لوائح تحدد أنواع الأسلحة. كل ما أشارت اليه اتفاقية السلام الى ضرورة تسليم ميليشيات الأحزاب كلها الأسلحة. ولكن اصرار تريمبل على الحركة الجمهورية اصدار اعلان قبل تشكيل الحكومة المحلية المكلف به، كان يستهدف كوادر حزبه هو وأحزاب البروتستانت الصغيرة المتطرفة، لا سيما حزب "الستر الديموقراطي" بزعامة القس ايان بيزلي الذي لا يزال يردد في عظته ليوم الأحد ان التعامل مع "شين فين" الكاثوليكية "ضرب من ضروب الكفر والخيانة". الحركة الجمهورية تعاطفت مع موقف تريمبل باعلان منظمة الجيش الجمهوري بياناً من 100 كلمة أكدت فيه أن العنف لم يعد السبيل لتحقيق السلام في ايرلندا الشمالية، وأن تنفيذ اتفاقية "الجمعة العظيمة" يتطلب موافقة الميليشيات على نزع أسلحتها. حزب "شين فين" أعلن بعد ذلك أن المنظمة ستعين عقب تشكيل الحكومة المحلية ممثلاً لها لمتابعة الأمر مع الجنرال دي شيستلان. لولا هذين التصريحين لما تمكن تريمبل من الحصول على الغالبية الدستورية المطلوبة في داخل حزبه للمضي في تشكيل الحكومة، فهو كان يلتقي مع الحركة الجمهورية في ادراك ان اتفاق "الجمعة العظيمة" تقدم لكل منهما فرصة جيدة للمشاركة الفعالة في ادارة شؤون الستر بعيداً عن تدخل لندن بالنسبة للجمهوريين ودبلن بالنسبة للاتحاديين. كما ان الاتفاقية، على عكس اتفاقية عام 1985 الأنغلو - ايرلندية المفروضة على الاقليم، هي نتاج جهد مشترك شاركت فيه احزاب البروتستانت والكاثوليك الى جانب الحكومتين البريطانية والايرلندية. كما ان غالبية 71.12 في المئة من سكان ايرلندا الشمالية و94.4 في المئة من سكان جمهورية ايرلندا نفسها، صوتوا لصالح الاتفاقية في استفتاء جرى في شهر أيار مايو 1998. على هذه الخلفية استطاع تريمبل أن يخطف اللحظة ويقرر "النوم مع العدو"، كما يقال، ويكسب ثقته وتعهده بنزع الأسلحة كي يقنع قواعد حزبه بعملية السلام التاريخية. وكانت هذه أول مغامرة في حياة تريمبل السياسية والتقليدية، ولكنها مغامرة قائمة على توازن دقيق من المصالح والوعود جعلت منه رجل المرحلة ونقلته من حالة السياسي المغمور الى صف القيادة الأول.