بالرغم من تكرار التأكيدات على أهمية المشاركة الفلسطينية الجماعية في تحمل مسؤولية مفاوضات الحل النهائي، الا أن بعض أطراف المعارضة - ومنهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - يعود لإفراغ تلك التأكيدات من أي جدية، تحت حجة اشتراط المشاركة في المفاوضات، باسقاط اتفاقات أوسلو. وفي هذا المجال يكرر قادة الجبهة صباح مساء، أن استعادة وحدة منظمة التحرير الفلسطينية لا بد أن تتم على أساس الثوابت الوطنية المشتركة، والتي سبقت اتفاقات أوسلو وما تلاها وتفرّع عنها، أي بكلام صريح، ترك مفاوضات الحل النهائي في يد الطرف الفلسطيني الذي وقع الاتفاقات وأدار، ولا يزال المفاوضات مع اسرائيل وكذلك الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمناطق السلطة الفلسطينية منفرداً، فيما تكتفي أطراف المعارضة بتوجيه الانتقادات للسلطة من موقع خارجها. أصحاب هذا الموقف يضعون أنفسهم كما يضعون الواقع الفلسطيني الراهن، خارج التطورات العاصفة في المنطقة والعالم، ويواصلون - ولو بدرجات متفاوتة - الحديث القديم عن التحرير والكفاح المسلح ومشروعيته النظرية على الأقل ويحيلون أية مناقشة لجدية وواقعية شعاراتهم الى حديث فضفاض عن ترك القضية للأجيال القادمة، ناهيك عن الحديث الذي لا يتوقف عن تعبئة الجماهير وحشدها في معركة كفاحية كبرى. هل نريد أن نقول رداً على تلك الشعارات الخيالية أن دور الجماهير قد انتهى؟ اعتقد ان المسألة أكثر تعقيداً وأشد عمقاً من هذا الاستخلاص البائس، إذ لا تزال قضية الصراع العربي - الاسرائيلي، تدين بهذا القدر أو ذاك الى دور الجماهير الفلسطينية وفعلها اليومي، ولكن شرط أن يقع هذا الدور في سياق فهم تاريخي واقعي، ينهض بالمهام اليومية الكفاحية، والتي قد تبدو لبعض المعارضة الفلسطينية أهدافاً صغيرة لا أهمية حاسمة لها في مجرى الصراع، ولكن تدقيقاً بسيطاً سوف يكشف أن المرحلة الراهنة من الصراع هي بالضبط مرحلة انجاز هذه المهمات الصغيرة ومراكمة النجاح تلو النجاح فيها. الحديث اليوم على الأرض الفلسطينية لم يعد محصوراً في مناقشة الحق التاريخي بشعاراته وتمظهراته الكبرى، قدر ما هو حديث عن هذه الجزئية الاستيطانية هنا أو هناك. لقد كان ارييل شارون يضع يده على جوهر الصراع حين أشار الى تلال قريبة من القدس، وقال للمستوطنين اليهود: هذه هي أرض اسرائيل التاريخية، إما نأخذها أو يأخذها الفلسطينيون. صحيح ان المسألة ليست خياراً مزاجياً يتيح لكل طرف من طرفي الصراع أن يأخذ ما يريد من الأرض، ولكن المقصود بالتأكيد أن جوهر المهمات الكفاحية لأبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، صار - وفي مواجهة الهجمة الاستيطانية المحمومة - مطاردة الاستيطان كلما لاحت محاولة للاستيلاء على قطعة أرض في هذه القرية أو تلك. نقول هذا ونحن ندرك ان الخطاب السياسي القديم لم يعد قادراً على الاستجابة لشروط الواقع الجديدة، قبل عام تقريباً جمعتني سهرة عشاء مع أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ممن كانوا الأكثر تشدداً في مسألة التسوية السياسية. كنت استمع الى حديثه صامتاً، باعتباره كان قادماً لتوه من الضفة الغربية. كان يتحدث بلغة مختلفة - ان لم أقل مناقضة - لما تعودت سماعه منه قبل رجوعه الى الضفة الغربية، وحين لاحظ دهشتي قال: "أعرف ما يدور في ذهنك، ولكن تذكّر ان الحياة على أرض الواقع تدفع بالتأكيد الى تفكير مختلف وحتى الى سلوك مختلف. بالتأكيد لم أتهم ذلك الصديق بأنه غيّر جلده كما علّق بعض الأصدقاء، ولكنني تأكدت كما قال هو من أن البرنامج السياسي الحقيقي ليس ما تصوغه المؤتمرات المغلقة الجدران، بل ما تفرضه تفاصيل الواقع ومنحنياته وشعابه، ففي تلك المنحنيات والشعاب يمكن للنظرة المتبصرة أن ترى حقيقة ما يتوجب فعله. والمسألة بعد ذلك ليست أن يشارك فصيل مثل الجبهة الشعبية أو لا يشارك في مفاوضات الحل النهائي بالمعنى التقليدي للمشاركة والذي تعودنا أن نراه في مؤسسات العمل الوطني الفلسطيني المشترك، بل هي الحاجة الماسة لمشاركة فصيل فلسطيني أساسي له تاريخه الكفاحي الطويل، وله في الوقت ذاته - وهذا هو المهم - حضوره الشعبي في أوساط الجماهير الفلسطينية في فلسطين، ما يعني تمتين وتصليب مواقف الوفد المفاوض، وفي الوقت ذاته زيادة الرقابة الشعبية على أداء هذا الوفد. ان جزءاً مهماً من فرص نجاح المفاوضات النهائية يتأكد في تقديرنا الى حجم الدور السياسي الديموقراطي الذي يمكن أن تلعبه الجبهة الشعبية وغيرها من الفصائل الفلسطينية الموجودة فعلياً على أرض فلسطين من خلال ممارسة النقد المتواصل لأية ظواهر شاذة أو استبدادية في الحياة السياسية والاجتماعية الفلسطينية، وفي تشديد الرقابة على أية مظاهر فساد من تلك التي تطفو على السطح بين وقت وآخر. فإذا كان الفساد ظاهرة تنخر المجتمعات العريقة المستقرة، فإنه في الحالة الفلسطينية وفي الظروف الراهنة كارثة كبرى كفيلة بأن تدمر السلطة بوصفها نواة الدولة المستقلة، وأن تدمر معها أية تطلعات لاستقلال حقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا في ظروف وطنية سليمة، ومن خلال وحدة وطنية حقيقية لا يلتحق فيها طرف فلسطيني بآخر، ولا يضع فيها طرف فلسطيني اشتراطات تعجيزية للمشاركة، بل يسعى الطرفان بجدية وإخلاص للبحث عن القواسم الوطنية المشتركة شديدة الوضوح والتي تتمحور في نقطتين هامتين: دحر الاحتلال عن الأرض الفلسطينية وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، ثم بناء حياة سياسية سليمة حقاً، وديموقراطية بالتأكيد. * كاتب فلسطيني.