أثارت عملية التسوية وما زالت اسئلة عديدة حول الاستعداد العربي لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تفترضها هذه العملية، والتي لا تقل في أهميتها عن الاسئلة السابقة التي طرحتها ظروف الصراع العربي - الاسرائىلي. وقد بيّنت التجربة بأن حال الاستعداد العربي لمواجهة تحديات التسوية مع اسرائيل ليس أفضل عن حاله في ظروف الصراع معها، إن من ناحية العلاقات السياسية البينية، أو مستوى التكامل الاقتصادي، وصولاً الى القضايا المتعلقة بالسلطة والمشاركة" ومثلما كان هناك سياسات عربية متعارضة حيال أشكال واستحقاقات الصراع مع اسرائيل، ثمة ايضاً خلافات حيال مسارات واستحقاقات عملية التسوية. ويتجلى قصور السياسات العربية، بشكل خاص، في غياب استراتيجية عربية مشتركة حيال استحقاقات المرحلة الاخيرة من مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين، التي تتضمن قضايا: اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والمياه والترتيبات الامنية، وغير ذلك من القضايا السيادية، وجميعها قضايا تمسّ الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية المجاورة، فضلاً عن انها تدخل في صميم الأمن القومي العربي، وهي بهذا المعنى ليست مجرد قضايا فلسطينية. في مجمل هذه الموضوعات، يبدو ان الوضع العربي يتجه نحو ترك المفاوض الفلسطيني وحده، إلى طاولة المفاوضات مع اسرائيل، من دون إسناد ملموس، ما عدا التصريحات التي تصدر في أعقاب بعض الاجتماعات الرسمية. ويتم ذلك بذريعة ترك الفلسطينيين ليقرروا شأنهم، حيناً، وحيناً آخر بذريعة الانفراد الفلسطيني في اتفاق أوسلو، في وقت قبلت فيه الاطراف العربية صيغة "مدريد" بشأن فصل المسارات التفاوضية العربية، ما كانت نتيجته السماح لاسرائيل باستفراد الجانب الفلسطيني وإخضاعه لضغوط عديدة. ويبرز قصور السياسات العربية، غاية في الوضوح، في استحقاقات مسألتي إعلان الدولة وقضية اللاجئين، حيث للدول العربية في هذين المجالين، قدرة على اتخاذ سياسات، تفوق قدرتها في المجالات الأخرى. مثلاًبالنسبة لموضوع الدولة الفلسطينية، مثلاً، ومنذ الرابع من ايار مايو الماضي، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، بات موضوع اعلان الدولة وكأنه شأن فلسطيني - اسرائىلي، وترك الفلسطينيون تحت ضغط الاملاءات الاسرائىلية المتوالية. وكان بامكان مؤسسة القمة العربية أو أية هيئة تمثلها، احتواء الموقف من خلال استصدار قرار تدعو فيه الطرف الفلسطيني الى قبول تأجيل اعلان الدولة الفلسطينية، مقابل تعهدها باحتضان هذه الدولة والاعتراف بها سياسياً وقانونياً في مختلف المجالات، حال إعلانها في وقت لاحق يجري تحديده. ولا شك في ان صدور قرار تاريخي من هذا الطراز وعلى هذا المستوى، عن مؤسسة عربية، من شأنه ان يحمي الفلسطينيين من الضغوط والتسويفات ويقوي من صمودهم ازاء الابتزازات الاسرائىلية. بمعنى انه اذا كان من المفهوم لماذا تصرّ اسرائيل من جهتها على عرقلة جهود الفلسطينيين لإقامة دولتهم، في محاولاتها رهن هذا الحق بتنازلات مقابلة، فان مسؤولية الوضع العربي نزع هذه الورقة من يد اسرائيل، من خلال ابداء الاستعداد للاعتراف بهذه الدولة والتعامل معها على مختلف المستويات والمجالات، بدءاً من الاعتراف بجوازات السفر التي تصدرها، وصولاً الى بذل الجهود لتثبيت عضويتها الكاملة في هيئة الأممالمتحدة، مروراً بتقديم الدعم السياسي والاقتصادي لها. أما في موضوع اللاجئين فالحال أكثر صعوبة وتعقيداً، حيث يجري، أحياناً، التعامل مع الضحايا وكأنهم مسؤولين عن مأساة لجوئهم التي استمرت منذ أكثر من نصف قرن!. وتبدو الضجة حول مخططات توطين اللاجئىن الفلسطينيين في بعض البلدان العربية، نموذجاً يبيّن قصور السياسات العربية وعقمها في مواجهة التحديات الاسرائىلية، الى درجة تجعلها تساهم، بشكل أو بآخر، في معاقبة الضحية، بدلاً من تمكينها من تصحيح الوضع الشاذ المحيط بها، ليس فقط بحكم الاخوة القومية وإنما لدواع انسانية ومصلحية. في مجمل هذا الحديث عن مخططات التوطين، لم يكلف احد نفسه عناء سؤال الفلسطينيين عن موقفهم من هذه المخططات، التي طالما أكدوا رفضهم لها، وتمسكهم بحقهم في العودة الى وطنهم الذي شرّدوا منه قسراً في العام 1948" جاء ذلك في "اعلان الاستقلال الفلسطيني" في العام 1988، وفي خطاب رئيس الوفد الفلسطيني الى مؤتمر مدريد في العام 1991، وعلى لسان العديد من القادة الفلسطينيين، وخلال العقود الخمسة الماضية عبّر كتّاب وشعراء وفنانو فلسطين عن شوق الفلسطينيين الى أرضهم وعن حلمهم الذي لا ينطفىء بالعودة وعن تمسكهم بحقهم في الهوية والوطن. وفي اطار هذه الديماغوجيا السياسية، لا تخفى بعض الادعاءات المناهضة للتوطين، دعواتها الصريحة الى تهجير الفلسطينيين، أي وجه العملة الآخر للتوطين، وكأن الشعب الفلسطيني مجرد شعب سائح، ليس له ارتباطات تاريخية وقومية وقضية سياسية في المنطقة، أو كأنه شعب فائض عن الحاجة! وكأن الفلسطينيين في حاجة الى مزيد من الهجرات القسرية، الجماعية والفردية. المسألة الجوهرية هنا هي التغاضي عن ان واقعة اللجوء، بحد ذاتها، كانت واقعة قسرية، وأن عملية الاقتلاع جرت بالوسائل العنيفة، وان الشعب الفلسطيني لم يقبل بها عن رغبة ولا عن حاجة. وطبيعي هنا ان واقعة اللجوء لا تتوقف على رفض الفلسطينيين لها ولا على قدرتهم لوحدهم على نفيها، وانما في العمل على مواجهة الواقع الذي أنتجها، أي اغتصاب الارض والحرمان من الهوية والوطن، بايجاد الوسائل الممكنة لارغام اسرائيل على الانصياع للحقوق العربية ومن ضمنها حقوق اللاجئين، وهذا وذاك، مسؤولية فلسطينية وعربية مشتركة، وحتى انه مسؤولية دولية ايضاً. مما تقدم يمكن الاستنتاج بضرورة تخلص السياسة العربية من سلبياتها الراهنة، بصوغ استراتيجية تفاوضية تتأسس على المصالح المستقبلية والمشتركة، وانتهاج سياسة فاعلة تمكنها من طرح المبادرات، وليس البقاء عند حد ردود الفعل على السياسات والمخططات الاسرائىلية، خصوصاً بما يتعلق بالموقف من قضيتي الدولة الفلسطينية واللاجئين. ولعلّ توجّه النظام العربي نحو دعم قيام دولة فلسطينية، يضعف الفيتو الاسرائىلي، ويمكّن الفلسطينيين من الصمود وابداء قدر أكبر من الممانعة ازاء الابتزازات الاسرائىلية، ويعزز موقفهم التفاوضي، في مختلف القضايا. كما ان صوغ سياسة موحدة ازاء التعامل مع قضية اللاجئين، من ناحية، وتأمين متطلبات العيش بطمأنينة وكرامة لهم، من الناحية الثانية، يساهمان بتحصين الساحة العربية في مواجهة مخططات التوطين، إن انطلاقاً من الاخوة العربية، أو على الاقل من منطلقات إنسانية، من دون ان يترتب على ذلك، بالطبع، أية حقوق سياسية تمس الشؤون السيادية للبلد المضيف. بهذا المعنى فان قيام الدولة الفلسطينية ومراعاة متطلبات اللاجئين الانسانية والمعيشية، في مناطق اللجوء الاضطرارية المؤقتة، يساهمان في بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، ويحسنان من شروط مقاومة مخططات التوطين ويدعما جهودهم لاستعادة كامل حقوقهم. وعليه فان الاسئلة المطروحة على العرب ليست أقل حساسية وتعقيداً من الاسئلة المطروحة على اسرائيل، في زمن التسوية. والحديث يتعلق بما يفعله الجانب العربي، على صعيد الوقائع وصياغة المستقبل، بغض النظر عن الشعارات والأوهام، إن كان يجوز التحدث فعلاً عن الحاجة الى مستقبل مشترك، وإذا كان ثمة ارادة من أجل ذلك. * كاتب فلسطيني.